رمز قوس قزح .. وقفة قبل أن نفقد هذه الألوان المبهجة

image_print

قبل سنوات قليلة فقط، لم يكن الكثير من المتدينين يعرفون ما يعنيه رمز قوس قزح، إذ لم يكن حضور تلك الألوان المبهجة يتجاوز الاستخدام الطبيعي في منتجات الأطفال، ثم سرعان ما اصطبغ بها العالم كله مع رفع شعارات التطبيع القسري مع الشذوذ (المثلية)، واكتشف المتدينون من كافة الأديان شرقا وغربا أنهم كانوا في غفلة عن الأجندة.

وفي فترة قصيرة للغاية، انتقلت رمزية تلك الألوان من عالم الطفولة البريء إلى عالم مختلف تماما. وتحت تأثير الصدمة، ارتفعت أصوات المقاطعة ضد كل من يرفع هذا الرمز ويتبناه، قبل أن يكتشف المتدينون أنه لم تبق شركة عابرة للقارات في الغرب إلا انضمت إلى هذا النادي، ما يثبت مجددا أن الأمر أكبر بكثير من مجرد تعاطف مع إحدى الأقليات وفقا لثقافة حقوق الإنسان الليبرالية.

وفي ظل هذا الجدل، يتداول المغردون باستمرار صورا لمنتجات في أسواق الدول العربية والمسلمة، أو لقطات من برامج ومجلات للأطفال، وهي تتضمن ألوان قوس قزح، حتى ساد الاعتقاد باتهام كل من يُضبط متلبسا بهذه الألوان بأنه عميل لأجندة التطبيع مع المثلية، وقد تسارع الحكومات لمعاقبة كل من تناله التهمة لاحتواء الجدل.

وأمام هذه الأخبار المتسارعة، أتساءل أحيانا عما إذا كان بمقدور أحد أن يدفع عن نفسه هذه التهمة، وهل تتاح له الفرصة أصلا؟ فالسلطات المستبدة تميل في مواقف كهذه للظهور بمظهر حامي حمى الدين والأخلاق، أكثر من اكتراثها لتطبيق العدل في حق بعض المواطنين، فضلا عن اهتمامها بتصحيح المفاهيم.

وقبل أن أدلي بدلوي في هذا الجدل، والذي لن تتجاوز غايته كشف اللبس، سأتوقف عند بعض الأمثلة الطريفة من عالم الرموز، لنرى كيف يمكن أن للغة الرمز أن تتطور حتى تكتسب معان جديدة، فيندثر بذلك تاريخ طويل من تلك اللغة، حتى لا يكاد يدركه إلا المختص أو المتابع.

حظ سيّئ لصليب الحظ

كان الصليب المعقوف Swastika يستخدم في الهند لأكثر من خمسة آلاف سنة، وهو من رموز الأساطير الهندوسية التي ترمز إلى الحظ السعيد، وما زال منتشرا حتى اليوم في جوانب المعابد والكتب المقدسة.

وفي العالم الغربي، كان هذا الصليب يُستَخدَم للتفاؤل، وللإشارة أيضا إلى البركة والحظ السعيد. لكن الزعيم الألماني أدولف هتلر استولى عليه في ثلاثينات القرن العشرين وجعله رمزا لتفوق العنصر الآري، فصار مرتبطا ارتباطا عضويا بحركته العنصرية (النازية).

وبعدما انهزمت النازية في الحرب العالمية الثانية، أصبح هذا الرمز محظورا بموجب القانون في ألمانيا ودول غربية أخرى، وحتى لو لم تحظره القوانين فلا أحد يجرؤ حتى اليوم على استخدامه كي لا يُتهم بمعاداة السامية، مع أن الشعوب الهندوسية والبوذية والجاينية ما زالت تستخدمه جزئيا في دول مثل نيبال والهند ومنغوليا وسريلانكا والصين واليابان.

وهكذا مسح هتلر تاريخ هذا الرمز الممتد في أعماق التاريخ إلى آلاف السنين، بمجرد استيلائه عليه لأقل من 15 سنة!

الصليب المعقوف في الهندوسية (ويكيبيديا)

ما بين الزخرفة والسحر

النجمة السداسية ليست أفضل حظا من الصليب المعقوف، فأصلها الأول أقدم من أن يُعرف، كما كان استخدامها مرتبطا بالعوالم الخفية والجمعيات السرية، فكان الخيميائيون يستخدمونها للدلالة على تجانس الأضداد واتحادها، مثل النار والماء. كما استخدمها الهندوس منذ آلاف السنين للسبب نفسه في عقائدهم الباطنية (الغنوصية)، وجعلوها دلالة على حالة التوازن التي يسعى إليها الإنسان.

وكان للنجمة السداسية دور أيضا في طقوس السحر واستحضار الشياطين على مر العصور، مما دفع بطائفة “كنيسة الشيطان” إلى تبنيها لتضاف إلى شعاراتها في أواخر الستينات.

وفي بعض المصادر المسيحية الغنوصية القديمة، كان يُطلق على هذه النجمة أحيانًا “نجمة الخلق”، وأعتقد أنها بدعة مستوردة من الغنوصيات الأقدم. وعلى أي حال، فالرمز موجود في بعض كنائس القرون الوسطى التي ما زالت قائمة، ومنها كاتدرائية وينشستر في إنجلترا.

وبالرغم من هذه الدلالات الوثنية والشيطانية، كانت النجمة السداسية حاضرة في الزخارف الإسلامية البديعة، والتي يعود بعضها إلى العصر العباسي.

ومع أنها تسللت أيضا إلى بعض الطوائف الصوفية، لنفس الأسباب الباطنية السابقة، فقد اتخذها القائد البحري العثماني خير الدين بربروس باشا شعارا في الراية الخضراء التي كان يرفعها.

وبما أن النجمة هذه ارتبطت منذ القدم بالسحر، واتخذتها القبالاه اليهودية شعارا مقدسا، فلن يتعجب أحد من اتخاذ الحركة الصهيونية لهذه النجمة شعارا لها في العصر الحديث، حتى صارت شعارا رسميا لدولة الاحتلال، وساد الاعتقاد بأنها “نجمة داوود” و”خاتم سليمان”، وهما النبيان والملكان العظيمان عليهما الصلاة والسلام، البريئان من السحر ومن كل عيب.

وبعد هذا الاستيلاء الصهيوني، صار استخدام النجمة السداسية في أي عمل زخرفي إسلامي ضربا من المستحيل، وهذا أمر مفهوم ومطلوب، لكن المؤسف أن يُنسف تاريخ تلك النجمة ويوضع في خانة الاتهام، إذ أصبح البعض يتساءلون عن سبب وجود هذه النجمة البريئة في مآذن وعملات ونقوش محفوظة حتى اليوم من مناطق وحقب إسلامية عدة، وربما يطالبون بطمسها من تراثنا المعماري الإسلامي!

رموز بريئة أخرى

قد يكون مفاجئا للكثير من القراء أن النجمة الخماسية تعد من الرموز المهمة لدى الماسونية، وإذا رُسمت مقلوبة فهي الشعار الأبرز لعبدة الشيطان، لا سيما إذا رُسم في داخلها رأس التيس الذي يمثل لوسيفر (إبليس). ومع ذلك، ما زال الناس في الشرق والغرب يستخدمون النجمة الخماسية كثيرا في حياتهم اليومية، لأن ارتباطها بالماسونية وعبدة الشياطين ليس واضحا ولا معروفا إلا من قبل المهتمين.

والأمر نفسه ينطبق على الهلال، فهو يحظى أيضا بأهمية خاصة ضمن عائلة الرموز الماسونية، إلا أن ذلك لم يقف حائلا دون تحوله إلى رمز للإسلام نفسه منذ رفعه العثمانيون على راياتهم، وما زال الكثير من المسلمين يتبنون هذا الرمز لارتباطه بصريا بالهلال الذي يحدد مواعيد الصيام والحج.

ولو أردنا التوسع في تاريخ الرموز فسنكتشف الكثير من المفاجآت، بل لا يكاد يوجد رمز مشهور اليوم إلا وكان له استخدام آخر في حقبة ما، وسأكتفي هنا بمثال الصليب، الذي بات أقدس مقدسات المسيحية بكل طوائفها، مع أنه رمز للأداة التي يعتقد المسيحيون أن الإله المتجسد قد مات عليها، لكن هذا الشكل البسيط كان قبل ابتكار أسطورة الصلب رمزا لتقلب الفصول الأربعة لدى بعض الشعوب الأوروبية.

راية الدولة العثمانية (1453–1517)

لغة الرمز كلغة الحرف

الأمر يخضع للعرف إذن، فما تواطأ الناس على اعتباره رمزا لأمر ما فإنه يتحول إلى معرّف له ولا ينفك عنه، كما هو حال الحروف المحايدة التي إذا وضعت على هيئة معينة لتشكيل كلمة ما، ثم اتُخذت اسما أو صفة لأي شيء، فستصبح جزءا من اللغة المتداولة للتعريف بهذا الشيء أو وصفه، وسيأخذ النطق بتلك الكلمة حكما شرعيا وقانونيا يتناسب مع مقتضى ما تعنيه.

وهكذا يمكننا فهم تطور رمز ألوان قوس قزح، إذ لم يصبح رمزا للشواذ إلا في أواخر سبعينات القرن العشرين، وهو ما زال يخضع لتحويرات عدة، فالشعار الأكثر انتشارا يتضمن ستة ألوان فقط، حيث دُمج فيه اللونان السماوي والنيلي في لون أزرق واحد، ما يجعله مختلفا عن ألوان الطيف الموجودة في الطبيعة، وهناك أيضا نسخ أخرى من هذا الرمز بسبعة أو ثمانية أو تسعة ألوان، وبعضها يتضمن مثلثات أو خطوطا مائلة، إلا أنها أقل انتشارا.

مع ذلك، يتسرع البعض باتهام كل منتج يحمل ألوان الطيف السبعة بأنه جزء من مؤامرة الترويج للمثلية، وقد يتسبب ذلك بتشويه سمعة بعض التجار، فضلا عن خسارتهم المادية عندما تُسحب بضائعهم من الأسواق، مع أني أرجّح أن الكثير من التجار والمصنّعين لم يخطر على بالهم سوى تلوين منتجات الأطفال بما تواطأت البشرية على اعتباره ألوانا مبهجة.

والأسوأ من ذلك أن يمتد سوء الظن إلى التفتيش عن الرمز في منتجات قديمة، مع أن ارتباط تلك الألوان بحراك الشذوذ لم يصبح معروفا في العالم العربي إلا مؤخرا، وربما لم يسمع به معظم العوام إلا في السنتين الأخيرتين، بل ما زال البعض غافلا عن معناه حتى اليوم، فليس من العدل ملاحقة أي لعبة أطفال ملونة واتهام صاحبها بالتآمر.

مخاوف تربوية

قد يُطرح السؤال الآن عن الضرر التربوي المتوقع على الأطفال من شيوع رمز كهذا، فيقال إن الأمر لا يتعلّق فقط بالظلم الذي قد يلحق بتاجر يبيع لعبة ملونة، بل يتعدى إلى ما يتركه انتشار هذا الرمز على اللاوعي في عقول أطفالنا.

ومع أني اتخذت موقفا متشددا -في كتابي “قوة الصورة”- من الرموز التي تحشرها هوليود وغيرها في الأفلام والبرامج الموجهة للكبار والصغار، لكن هذا لا يعني توسيع دائرة الاتهام لتبلغ حد الهَوَس بملاحقة الرموز والخوف من تأثيرها، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بألوان موجودة في الطبيعة أصلا، وهي كانت وما زالت تُستخدم لأهداف أخرى.

مثلا، أنا أحذر من دسّ رمز المثلث الذي تتوسطه العين، فهو رمز خاص بالماسونية، وتحديدا بطائفة المتنورين (إلوميناتي) السرية، وقد يؤدي انتشار هذا الرمز الشيطاني إلى التطبيع اللاشعوري معه ومع ما يُربط به من أفكار، لكن حذف ألوان الطيف من حياتنا، ولا سيما من حياة الأطفال، ليس أمرا سهلا، ولا مقبولا.

الحل هو توعية الكبار والصغار، وفك الارتباط بين الألوان الطبيعية وبين الرمز الطارئ. وفي حال ثبوت تورط قناة أو شركة بالترويج لهذا الشعار بين الأطفال فينبغي على الوالدين منع دخول هذه المواد إلى المنزل، ولا سيما إذا كان الأطفال صغارا، فإن بلغوا قدرا كافيا من النضج يمكن أن تُقدم لهم جرعات مبسطة من التوعية، لأن المنع لن يكون شاملا مهما حاولنا، وستبقى الدعاية محيطة بالطفل في كل مكان.

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد