حيّ الشيخ جرّاح بداية محنة جديدة

image_print

إنّ من أغرب القصص التّي قد تسمعها في واقعنا المُعاصر أن يأتي أُناس غرباء إلى حيّنا السّكني،الذّي نقطنه منذ سنوات والذّي بنينا منازله بأيدينا والذّي نملك الوثائق التّي تُثبت حقّ ملكيّتنا ووُجودنا فيه، فيقتسمون مساكننا معهم قسرًا، ويُطالبوننا بإخلائها مع ادّعائهم بأنّ هذه المساكن تعود لأجدادهم كذبًا وزُورًا، ومن ثمّ يخرجون بعضنا من مساكنهم، وفي المُقابل يُصبح هؤلاء الغرباء أصحاب هذه المنازل مع عائلاتهم، ولا تنتهي القصّة هنا بل يسخّرون قوّاتهم الأمنيّة والعسكريّة من أجل قمعنا والاعتداء علينا إذا ما قُمنا بالدّفاع عن حيّنا ورفضنا الامتثال لهم.

ما هذه القصّة في عصر التغنّي بقيم الحريّة والعدالة والدّيمقراطيّة إلاّ وصفٌ مختصَر لما يحدث في حيّ الشيخ جرّاح في فلسطين المُحتلّة!

ولا تنتهي القصّة هنا، بل من غرابتها أن يُحاول هؤلاء الغرباء الذّين استوطنوا بالقوة والقهر في أحياء أخرى من مدينة القدس من الاحتفال بذكرى احتلالهم لفلسطين ومنع المُصلّين في شهر رمضان من دخول المسجد الأقصى الذي سيكون مكان احتفالهم بجُرمهم وظُلمهم، ويصلُ بهم الأمر بأن يقمعوا أصحاب الأرض إذا رفضوا هذا الأمر، ويصفونهم بالمُمُتمرّدين والخارجين عن القانون!

من هُنا تنقلب المفاهيم ويُصبح المُحتلّ صاحب الأرض الذي يُصبح غريبًا عن وطنه، ومصدر تهديدٍ للأمن والاستقرار في المنطقة، وكلّ ذلك أمام أنظار العالم الذي يدّعي التحضّر واحترام حقوق الإنسان وكرامته!

وما هذه القصّة الغريبة والمؤلمة إلاّ جزء من المُعاناة اليوميّة التّي يعيشها شعب كاملٌ بتعرّضه للقتل والتّشريد والظّلم والقهر، ورغم ذلك ما يزال يُقاتل ويُجاهد ويُرابط انتصارًا لحقّه، ودفاعًا عن كرامةّ الأمّة الإسلاميّة التّى أصابها مرض الوهن والضعف والعجز والجمود.

صورة أيقونية تعبر عن حيّ الشيخ الجرّاح

الشيخ جرّاح

كانت البداية يوم 4 يوليو سنة 1187 بعد انتصار جيش المسلمين بقيادة القائد صلاح الدّين الأيّوبي في معركة حطّين، ومن بين الأمراء الذّين شاركوا مع القائد صلاح الدّين في جهاده الأمير حسام الدّين بن شرف الدّين عيسى الجرّاحي، والذّي عاش بجانب المسجد الأقصى في القدس بعد فتحها لمدّة 15 سنة، وكان يُعرف باسم الشيخ جرّاح، وبعد وفاته عام 598ه قام الأهالي ببناء زاوية خاصة به ومن ثمّ مسجدًا يحمل اسمه الموجود إلى اليوم في المنطقة الشماليّة من القدس وأصبح يُطلق على المنطقة السكنيّة المحيطة بالمسجد بحيّ الشّيخ جرّاح.

ولنا هنا وقفة أولى مع فتح القائد صلاح الدين لفلسطين التي كانت تحت قبضة الصليبيّين فلم يتمّ استرداد بيت المقدس إلاّ بالجهاد الصّادق في سبيل الله، ولم يصل صلاح الدّين لهذه النّتيجة إلاّ عن طريق مراحل وجب الأخذ بها، أولها رسوخ العقيدة وقوّة الإيمان فلا يُمكن اليوم من إقامة الجهاد في سبيل الله وتحرير الأقصى في حالة ضعف الدّين في النّفوس وترك تعاليمه وهجر العمل بشريعته، وكلّما ازداد التعلّق بالدّين والأخذ به ازدادت رغبة الأمّة بنصرة الحقّ وبذل المال والنّفس من أجل تحرير المُقدّسات والدّفاع عنها، فنحن بحاجة أوّلاً إلى تحرير نفوسنا من سطوة الجهل والجبن والاستبداد السّاعي لطمس معالم الهويّة الإسلاميّة، والتّطبيع مع الكيان الصّهيوني، وبالعودة للإسلام ومنهجه سنكون قادرين على استرداد بيت المقدس، ومن الغريب أن يحاول البعض منّا عزل القضيّة الفلسطينيّة عن الدّين وربطها فقط بالحقوق الإنسانيّة وتهوينها في النّفوس، بينما في المُقابل يُقيم الصّهاينة دولتهم على أساس عقيدة دّينيّة، وربطها بالهيكل المُزمع إقامته، وربط بيت المقدس بالطّقوس التعبّديّة لليهود، وغرس هذه المفاهيم في أبنائهم وجعل ما يقومون به في فلسطين هو من صلب عقيدتهم ودينهم، فحقيقة الصرّاع قائمة على أساس العقيدة، ولن ننتصر عليهم إلاّ إذا عُدنا إلى حقيقة الإيمان قولاً وعملاً.

ثاني هذه المراحل كان بالتّركيز على محور التّحرير وجعله من الأهداف الكُبرى ومن مسؤوليّات كلّ فرد مُسلم حيث كان القائد صلاح الدّين يقول: “كيف يطيب لي الفرح والطعام ولذة المنام وبيت المقدس بأيدي الصليبيين؟!!”(1) ونحن نقول: كيف لنا أن نحرّر الأقصى من الصّهاينة إن لم يكن دائم الحضور في نفوسنا ووعينا؟! وكيف لنا أن نُحرّر الأقصى إذا كنّا نجهل بتاريخه؟!

إن من أكبر المخاطر أن يتمّ تزييف الحقائق وعرضها بطريقة مُشوّهة للنّاشئة، وهذا ما يحصل في الدول التي أعلنت التّطبيع مع دولة الاحتلال، حيث أعلِن عن إدراج التّاريخ الصّهيوني في المناهج الدّراسيّة، ومن المعلوم أنّه سيتمّ تحريف التّاريخ وطمس حقيقة الصّراع القائم وإظهار الصّهاينة على أنّهم فئة مظلومة ومُضطهدة، وسينتج عن ذلك ولادة عدد كبير من الجيل القادم لا يُبالي بما يحصل في فلسطين، ولن يكون هدفه تحرير الأقصى، لأنّه تشبّع بادعاءات أنّ للصّهاينة حقّ في فلسطين، وأن ما يحدث فيها شأن داخلي أو حملات بين متطرفين ضد دولة ديمقراطية، وليس مقاومة للاحتلال!

وثالث هذه المراحل العمل على توحيد البلدان الإسلاميّة ونبذ الخلافات الثانويّة والتّركيز على النّهوض والصّناعة والعمل المُشترك لتُصبح قوّة عالميّة جديدة تُحقّق العدل وتُقيم الحقّ في العالم، وهذا مافعله صلاح الدّين عند تولّيه السّلطة في مصر، فالأمّة المُتناحرة لن تستطيع الدّفاع عن نفسها وسيسعى الجميع من أجل السّيطرة عليها، والأمّة المُستهلكة القانعة بالتبعيّة الاقتصاديّة والعلميّة والصّناعيّة لن يحترمها أحد، بل تجعل نفسها رهينة لأعدائها يتحكّمون في قراراتها ومصيرها، وخير دليل على ذلك ما صرّح به رئيس وزراء ماليزيا السّابق مهاتير مُحمّد في لقاء صُحفيّ أجراه سنة 2020 بعد استقالته من منصبه، حيث يقول إنّ الطّائرات الحربيّة التّي تشتريها ماليزيا والدّول المُسلمة من الولايات المُتّحدة الأمريكيّة ليس بإمكانهم استخدامها وتحميلها بالصّواريخ من أجل استهداف مواقع مُعيّنة إلاّ بعد مُوافقة الحكومة الأمريكيّة، لأنّه عند الشّراء تبقي الولايات المُتّحدة مُحتفظة بالبرمجة الخاصّة لهذه الطّائرات وتُباع مُشفّرة ولا يُمكن لأحد فكّ هذه الشّفرة إلاّ عن طريق الحكومة الأمريكيّة، فمن الواضح هنا أنّه عندما تُقرّر دولة مثل ماليزيا أو أي دولة مُسلمة أخرى شنّ حرب أو استهداف مواقع معينة بهدف الدّفاع عن الأمّة المُسلمة ومُقدّساتها، فإنّها يجب أن تأخذ مُوافقة الحكومة الأمريكيّة التّي لن تمنح البرمجة لدولة مُسلمة تُريد الانتصار لدينها، ولن تمنح البرمجة لدولة مُسلمة تريد استهداف مواقع لا تخدم مصلحة الولايات المُتّحدة الأمريكيّة أو قد تضرّ بصفة مُباشرة أو غير مُباشرة بمصالحها، فكيف لنا أن نتحدّث بعد ذلك عن تحرير الأقصى و كيف لنا بعد ذلك أن نقوم بحماية ديننا و الأقليّات المُسلمة المُضطهدة في مُختلف بقاع العالم، والوقوف في وجه الظّلمة والمُعتدين إن كنّا لا نملِك قرار استخدام الأسلحة التي نشتريها بأيدينا؟

لقد فهمت المقاومة الفلسطينيّة هذا الدرس، وهي اليوم تعمل ليل نهار لصناعة أسلحتها بيدها والتحرّر من كلّ تبعيّة، وإن لم تفعل ذلك فلن يُغيثها أحد وستحكم على نفسها بالإعدام وستضيع فلسطين للأبد.

ولنعد الآن للحديث عن حيّ الشيخ جرّاح حيث لعب أهاليه دورًا كبيرًا في مُقاومة الاحتلال الصّهيوني ومنعه من السيطرة التّامة على بيت المقدس سنة 1948 وكما تمّ إجلاء إليه-تحت الوصاية الأردنية- ما يقارب 28 عائلة قام الاحتلال بترحيلهم من مساكنهم في أماكن مختلفة من فلسطين أيّام النّكبة وتوطين اليهود مكانهم. وأخذت هذه العائلات سندًا قانونيًّا من الحكومة الأردنيّة لامتلاكها الأراضي في حيّ الشيخ جرّاح وقامت مُنظّمة الأونروا من دعمهم في بناء مساكن لهم في هذه الأراضي. وبعد أن تمكّن الاحتلال من بسط نفوذه على الضفّة الغربيّة طالب الصّهاينة بهذه الأراضي مُدّعين أنّها ملك لأجدادهم وتحوّلت القضّية إلى المحاكم الصّهيونيّة الظّالمة التّي لن تقف إلاّ مع اليهود الذّين لا يملكون سندًا قانونيًّا واحدًا يُثبت انتماءهم لهذا المكان.

إن العبرة هنا أنّ على صاحب الحقّ ألّا يثق إلا بمن يؤمن بقضيّته ويُناصره وعليه الانتصار لحقّه ولا ينتظر من ينوبه في ذلك، ومن المواقف المُخزية لدولنا العربيّة أن تنتظر من الغرب والمنظّمات الدّوليّة الذّين باعوا فلسطين للصّهاينة بأن يُوقفوا العدوان والاحتلال!

ما هو دورنا؟

يقول رئيس دولة الاحتلال الحالي بنيامين نتنياهو في تدوينة سابقة له على تويتر:” أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام ليست زعماء الدول التي تحيط بنا بل هي الرأي العام في الشارع العربي الذي تعرض على مدار سنوات طويلة لدعاية عرضت إسرائيل بشكل خاطئ ومنحاز”.

إن أهم ما نملكه اليوم هو إثارة الرّأي العام وجره لصالحنا؛ فغالب حكوماتنا المُسلمة إمّا مُطبّعة علنًا أو في الخفاء مع الاحتلال الصّهيوني من خلال إقامة علاقات اقتصاديّة ودبلوماسيّة معهم، وإما تختار الحياد الكذب إرضاءً للقوى العالميّة، وقد تناسَوا جميعًا أنّ التّطبيع جريمة وخيانة لله ولرسوله بصريح نصّ القرآن حيث يقول لنا الله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].

والحقيقة التي يجب أنْ تُقال أيضًا: إنّ كلّ من يوافق على هذا التطبيع ولا ينكره -ولو بالقول- ويحاول إعطاءه شرعيّة دينية كاذبة لتضليل الرأي العام، فهو ظالم وخائن مشارك للكيان الصهيوني في جرائمه، فكل من يركن للتطبيع يصدق عليه قول الله فيه {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [هود:113].

فالرّكون لبني صهيون والتقرّب إليهم ومحاولة نيل مودّتهم رُكونٌ للظَلَمة، وانحراف عن مفهوم العدل والحقّ، وهو انخلاع عن المبادئ الإسلامية، وليس من العجب أن تكون عاقبة كلّ دولة أو نظام حاكم رَكَن للظالمين الذلّ والهزيمة والهوان، فهذا قانون ربّاني لا يتخلّف ولا يتغيّر، وستبقى خيانتهم وصمة عار تُلاحقهم حتّى يرث الله الأرض ومن عليها..

إنه من المخزي أيضًا أن نرى دعاة وعُلماء يلتزمون بالصّمت إزاء ما يحدث في القدس من عنف واعتداء، وإزاء القصف العنيف الذّي يتعرّض له أهل غزّة، ولعل ما هو أكثر خزيًا مباركة إجرام الصّهاينة إرضاء لطغاةِ التطبيع، ومُحاولة لتنويم الشّعوب وتمييع القضيّة في نفوسهم، فيا حسرةً على من أورد نفسه المهالك!

أهمية الرأي العام

إن العقبة الوحيدة في وجه الصّهاينة اليوم هي الرأي العام لدى الشّعوب المُسلمة بأن تكون الأغلبيّة مُتمسّكة بالقضيّة الفلسطينيّة وداعمة لها ولأهلها، وأن تستغلّ كلّ الوسائل المُتاحة لإيضاح موقفها هذا.

إن قدرة الشعوب على صناعة الرأي الشّعوب ستجبر حكوماتها المتخاذلة عن نصرة المظلومين والأقصى على الخروج من صمتها أو تدفع الناس للانتفاض عليها ودفعها لأخذ المُبادرة العمليّة في الدّفاع عن الأقصى، ومن ثمّ فإنه من واجب كلّ فرد مسلم أن يكون له دور في تجييش رأي عامّ قويّ، يأمر بالمعروف وينهى به عن المنكر، لا يسكت عن المظلمة أو التجاوزات التي تقع في حقّ أمّته؛ وذلك عملًا بقوله صلّى الله عليه و سلّم: “الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ” [أخرجه أحمد في المسنَد والترمذي في السنن].

ابدأ أخي المسلم أوّلاً بنشر الوعي بين النّاس وتثقيفهم بالقضيّة الفلسطينيّة وأبعادها، واحرص على توريثها لأبنائك وللأجيال القادمة، إذ إن من أهم واجبات الوقت أن تغرَس في عقول النشء الجديد –جيلا بعد جيل- أن فلسطين قضيّة كلّ مسلم، وأن ذلك نابع من عقيدتنا الإسلامية أولا.

كما أن علينا أيضًا مقاطعة كلّ الشّخصيّات والمنابر الإعلاميّة التي تدعو للتطبيع مع المحتلّ ولا ترى ضررًا فيما يفعله الصّهاينة، وعلينا كذلك فضح كلّ سياسة أو حكومة تتّخذ موقفًا سلبيًّا ممّا يحصل في فلسطين، ومُطالبتهم بتغيير منهجهم أو تغييرهم، فالحراك الشّعبي الواعي قادر على تغيير مجرى التّاريخ ودفع أصحاب القرار على اتّباع الحقّ.


الإحالات:

(1): من مقال بعنوان صلاح الدّين الأيّوبي، عن موقع قصة الإسلام بإشراف الدّكتور راغب السرجانى، تاريخ النّشر 13 ديسمبر 2010.

 

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد