حصاد الغربة
كأسراب الطيور المهاجرة في كل عامٍ تمامًا في ذات موعد العام المنصرم، باسطةً أجنحتها، محلقةً في أعالي السماء إلى غايةٍ ترنوها من الرحيل، تطير بجناحي الألم والأمل، تألم من ترك مكانٍ استوطنته لشهور، آملة في مُقام انتظرته أيضًا منذ أشهر، تبلغ مرماها وتحط أجنحتها وما تلبث حتى يشتعل لهيب الشوق بداخلها، فتارة يكون دافعًا وأخرى مثبطًا، وتبقى بين تلكم الدوافع حتى تعود أدراجها إلى الموطن الأول، وهكذا دواليك، فلا راحة، والكَبد هو الشعار، والغاية الدافع والمحرك.
لسان حال كل مغترب مهما تفاوت عمره ومهما كانت غايته، فموطنه الأول وبقايا الذكريات لا تلبث حتى تشتعل بداخله، فيطفئها تارة وتحرقه أخرى، ولكن رغم كل هذه الآلام والتحديات الحقيقة التي تواجه كل مغترب إلا أن ثمة دروس دمثة لا يبلغها المرء وهو مقيم حتى يرتحل، سأذكر في هذا المقال بعضًا من تلك الدروس علّها تنفع غيري.
خُلِقَ الإنسان في كَبد
إنَّ الحقيقة الكبرى في تلك الحياة التي لا يجب أن يغفل عنها عاقل هي كون طبيعة هذه الحياة كبد وشقاء، وأن الدار الدنيا فانية ومليئة بالابتلاءات سواء كانت ابتلاءات بالعطاء أو بالشدة والشقاء، قال الله عز وجل {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء-٣٥] قال الإمام ابن كثير “نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( ونبلوكم ) يقول: نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية والهدى والضلال” [تفسير ابن كثير].
إن الحياة في ذاتها بلاء قال الله سبحانه وتعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك-٢]، فعندما يدرك المؤمن هذه المعاني ويتشربها في نفسه ويوقن بها؛ تهون في عينه الدنيا بمصائبها، فمن أدرك حقيقة الأمر لن يُذهب نفسه حسرات عليه، بل يحتسب كل بلاء ومصيبة ويبتغي بها وجه الله والأجر والثواب ويسأل الله الرضا والصبر الجميل.
كل شيء له ثمن
من أهم ما يجب على الإنسان إدراكه أيضًا في هذه الحياة أن لكل شيء ثمن يجب بذله حتى يصل إلى مراده، فحتى جنات الخلد والنعيم لها ثمن قال الله عز وجل{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ}[التوبة-١١١]، فحتى يبلغ المؤمن غايته العظمى في هذه الحياة عليه أن يبذل نفسه وماله لله عزّ وجل، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من خاف أدلجَ ومَن أدلج بلغ المنزلَ ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ} [رواه الترمذي] أي مَنْ خاف ألَّا يَصِلَ إلى غايتِهِ سار أَثْناءَ الليلَ؛ ليَكونَ ذلك أَرْجى له في الوُصولِ إلى غايتِهِ، “ومَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ”، أي: ومَنْ سار بالليلِ وَصَلَ إلى غايتِهِ ونال مُبْتغاهُ، ويعني النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا أَمْرَ الآخرةِ: فمَنْ شَمَّرَ ساعِدَيْهِ واجْتَهَدَ في عِبادةِ اللهِ وأدَّى ما عليه مِنْ الحقوقِ والواجباتِ؛ فإنَّه أَرْجَى أنْ يَصِلَ إلى غايتِهِ مِنْ مَغْفِرةِ اللهِ ورحمته والفوزِ بجنَّتِهِ، “ألَا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ غاليةٌ”، أي: إنَّ ما عِنْدَ اللهِ غالٍ وعظيمُ القَدْرِ، ولا يَنالُه إلَّا مَنْ اجْتَهدَ في تَحصيلِهِ وسعَى له حَقَّ السَّعي، “ألَا إنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةُ”، أي: إنَّ ما عِنْدَ اللهِ هي الجَنَّةُ، فمَنْ أرادها فلا بُدَّ له من السَّعي والتَّشميرِ لأَجْلِ الظَّفَرِ بها؛ فجَنَّةُ اللهِ لا تُنالُ بالأماني ولا بالتَّمنِّي، ولكِنْ بالعملِ والاجْتِهادِ، ثمَّ هي بعدَ ذلك لا يَدخُلُها أحدٌ إلَّا برَحمةِ اللهِ تَعالَى [شرح الموسوعة الحديثية]. وكذلك أيضًا في أمور الدنيا، فلكل مجتهد نصيب، فأنت سافرت وتركت الدار والأهل طالبًا للعلم أو قاصدًا نصرة الحق أو فارًّا بدينك، فاعلم أن لهذا ثمن يجب أن تبذله، فكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي *** وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
وَما اِستَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ *** إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُم رِكابا
فيجب أن تعلم أنه لا يمكنك بلوغ مناك أيًا كان دون أن تبذل له وتجهد في طلبه، وتصدق في قصده، وتقارب وتسدد والتوفيق من الله.
اللجوء الحق لله عزّ وجل
لا أعتقد أنه يوجد أحدٌ كابد الغربة ولم يتعرض لشدائد على كافة الأصعدة وخصوصًا على مستوى حالته النفسية، فلابد وأن تجد حزمة من الأشياء تعصف بنفسه حينًا بعد حين، وتثقل نفسه فينة بعد فينة، فيكون لسان حاله يقول:
أمُقامٌ في غربةٍ فيه راحة الجسد***ولهيب الشوق بين جنبينا مُتقِد
فنرتحل لنطفئ لهيب الجوف ***فإذا بالجسد من التعب يرتعد!
فنربت عليه بأيادٍ فيها رجاء***ونسـقيه دواء هو له وِجـاء
فيستدوينا من أدواءٍ عِدَدِ
فهنا عليه أن يتعلم كيف يلجأ إلى الله عزّ وجل حق اللجوء، ذاك اللجوء الذي يكبح جموح الأحزان من أن تنهش نفسه وروحه، يجب أن يثبّت عقيدته ليعلم أنه لن ينفعه أحد ولا يضره إلا بإذن الله، يجب أن يجعل هذا الحديث نصب عينه ويوقن به تمام اليقين، فعن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما ، فقال: (يا غلام، إني أُعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سأَلت فاسأَل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) [رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح]. الإيمان بهذا الحديث يجعل في القلب رضا وفي النفس طمأنينة مهما تقلبت بها الأحوال، وليجعل في صدره بل يذكرها في كل نَفَسٍ من أنفاسه قوله سبحانه وتعالى {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد ٢٢-٢٣]، فتسكن روحه وتهدأ نفسه وتركن إلى بارئها مهما حدث، وتعلم أنه القوي العزيز الجبار، وتوقن أنه إذا أراد شيئًا فيكفي أن يقول له كن؛ فيكون.
كيف تتغلب على الفتور
الإنسان في سياق حياته الطبيعية يتعرض لفتور وملل طبيعي جدًا، ولكن تزداد فرصة الوقوع في هذا الفتور مع الغربة بسبب الوحدة واختلاف الثقافة، واختلاف العادات والتقاليد، وتحمّل مسئولية نفسه كاملة وربما أهله، ومكابدة أعباء جديدة كثيرة، مما يجعل فرصة التثبيط والفتور أكبر بكثير، لذا فعليه أولًا: أن يستعين بالله ويتعلم كيف يلجأ إليه سبحانه وتعالى كما ذكرنا آنفًا، فتضيء نفسه بهدى الله ولا ينتظر أي سراج خارجي يوقدها.
ثانيًا: عليه أن يجعل دومًا الغاية التي ذهب لأجلها نصب عينيه، ويبتغي بها وجه الله، ويتذكر أجرها الأخروي قبل مثوبتها الدنيوية، ويتذكر فرحته ببلوغه مناه وفرحة أحبته، ولو كان ذاهبًا فارًّا بدينه فيتذكر أجر هذا وقدره ويحتسب لعل الله يكتب له أجر المهاجرين في سبيله، وما أعظمه من أجر وما أجلّها من مثوبة.
ثالثًا: يجب أن يكوّن علاقات اجتماعية قوية وموثوقة في مجتمعه الجديد، فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي، لا يطيق أن يعيش وحيدًا دومًا، ومهما غالب نفسه وكابر ولم يعترف بذلك، سيأتي يوم يكون أشد ما يؤلمه فيه هو كونه وحيدًا بلا صحبٍ أو رفيق، فيجب أن يبادر بالانخراط في المجتمع دون أن يفقد دينه وهُويته، ودون أن يُذوّب مبادئه وقيمه فيه لو كان هذا المجتمع مخالفًا لها، ويجتهد في التواصل والتعرف على أناسٍ يحملون نفس قضيته ونقاط التماسّ بينهم كثيرة حتى يكوّن تلك الدائرة الصغيرة المريحة الصادقة بالنسبة للإنسان.
رابعًا: يجب أن يكون الإنسان منظم لحياته ومخططًا لها، فالفوضوية الحياتية من أكثر الأشياء التي تجعل المرء تائهًا ولا يملك يومه، ومن ضاع يومه ضاع عمره، فيجب أن يتعلّم مهارات التخطيط ويجتهد في تنظيم وترتيب حياته حتى يبقى في حالة مستقرة ولا يشعر بالتيه.
خامسًا: يجب أن يتبع سياسة الثواب والعقاب مع نفسه، ويتعلم كيف ومتى يرفهها، حتى لا تجمح نفسه وتجنح للمتعة والحياة، وهذا طبعها ودأبها، وحتى لا يجني هو عليها فيكبحها بقسوة ويثقلها فتُهدم أمامه دفعة واحدة، بل يعاملها بتوازن دون إفراط أو تفريط.
فرصة ذهبية لتغيير الشخصية
كما أن الذهب الخالص لا يخرج إلا بعد لهبٍ خالص، فكذلك الإنسان، تكون الشدائد والابتلاءات الكبرى في حياته بمثابة فرصة ذهبية لتحسين شخصيته وتزكيتها وترويضها وتهذيبها، فالألم الشديد يجعل النفس في حالة من الانكسار والرقة التي بها يحصل الصلاح للقلب، ويفتح لها آفاقًا لطالما أغلقتها عليها العجرفة والقسوة، ويزيل عن العين غشاوة القدرة والغلبة والتملك، ويجعل المرء يوقن أن كل ما كان فيه من فضل فمن الله سبحانه وتعالى، وكل فضلٍ آت فكذلك منه عز وجل، وأن ليس له من الأمر شيء، فتخبت نفسه لبارئها، فتجده بسّامًا بعد عبوس، ورحيمًا بعد قسوة، وكريمًا بعد شح، ومُنجِدًا بعد جبن، فيعلم بعد ذلك أن هذا اللهب كان خيرًا له من ألف نعيمٍ ونعيم.
استثمر في نفسك
الكثير من البوابات تُفتح لك في الغربة، والكثير من الثقافات والمعلومات والفرص، فبادر دومًا باختيار الأنسب والأفضل لك واستثمر وقتك في تعلم مهارات جديدة وتطوير نفسك، وخير ما يمكن أن تقدمه لها هو تعلم أمور دينك التي بها تنجو.
بادر لتعلم القرآن وتدبره وإتقان قراءته، وبادر بالتفقه في الدين خصوصًا لو كنت في بلدٍ كافرة يكثر فيها الشبهات، فيجب أن تعلم من الفقه على الأقل ما لا يسعك جهله، وما تقيم دينك به، تعلّم أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتعرّف على نور الهدي النبوي الشريف، تعلّم اللغة العربية وغُص في بحرها ستجد من الدر أنفسه، واللغة العربية بوابة كل المعارف المذكورة هنا وغيرها الكثير، فاجعلها في مقدمة أولوياتك، فمن ملك مفتاح الباب، فُتِحَ له كل شيء، واطلع على سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، واقرأ تاريخك لتتغلغل عزة الإسلام في نفسك ولا تسمح لثقافة غالبة أن تبهتك.
وكذا الغربة بمثابة بوابة للحياة، فهي تمنحك فرصة للتعامل مع أطياف واسعة من الناس، فاستثمر في تطوير قدراتك ومهاراتك التواصلية مع الناس، واجعل دومًا رسالة الإسلام هي سمتك، واجعل كل من يراك أو يتحدث معك يتمنى أن يعتنق هذا الدين الذي شكّلك ورفعك هكذا، واستعن بالله ولا تعجز.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!