جامع سنجقلار في إسطنبول.. هل حققت عمارته طفرة روحانية

image_print

لكل أمة بصمتها في العمارة حيث تستمدّ خصائصها البنائيّة من الهويّة الفكريّة والروحانيّة لعقائدها وأدبياتها وتاريخها، والنماذج التي تظهر فيها فنون العمارة الإسلاميّة كثيرة، بدءًا من المساجد فالمدارس والمنازل والجسور والمستشفيات والتكايا والقلاع، حيث تنتظم فيها رؤى الإسلام وعقائد المسلمين بشكلٍ واضحٍ وبسيط، فتتجسد فيها قيم العدل والتواضع والرحمة والتوحيد وغيرها.

تحريف العمارة الإسلامية
في الصورة الآتية نرى مسجد سنجقلار الذي يفخر مصمموه بأنه يحقّق التوازن بين الطبيعة والتجريد والعبادة.

التصميم الخارجي لجامع سنجقلار

يعرَف المسجد بأنه المكان الذي يصلح للصلاة، وتجوز الصلاة في أي مكان طاهر من الأرض إلا المقابر والحمّامات، وقد كان مسجد المدينة المنورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بسيطًا في عمارته، فلا قباب فوقه، ولا مئذنة تدلّ عليه.

إذًا فإنّ مفهوم المسجد والمصلّى لا يقتصر على وجود مئذنة أو قبة وزخارف لتتحقق فيه شروط العمارة، إذ يكفي أن تتحقق فيه سمة صحّة الصلاة وقبولها -إن شاء الله- فيه، سواء كان المصلون يصلون تحت قبة او مظلّة أو أوراق شجيرات، فما هذه إلا شكليات تعين الإنسان على القيام بواجبه من صلاة وواجبات اجتماعية بطريقة تحميه من الشمس الحارقة أو المطر أو مختلف تقلبات الجوّ، إذ الغاية هي أداء العبادة مع الجماعة.

ونسأل هنا: هل الإنسان مجرد لهذه الدرجة التي نراها في التصميم الخارجي والداخلي للمسجد؟ هل يمكن أن يصل الإنسان لهذه المرحلة من التجرد، بحيث تصبح النية والوظيفة والنتيجة الفعل الأهم بغض النظر عن الظروف المحيطة؟ أم هل يجب أن توجد عوامل خارجية تحفز الإنسان على الصلاة، مثل وجود حوافز تشعره بالانتماء للمكان الذي يصلي فيه؟

هل التجرد مطلوب في النية فقط أم يجب التقشف والتجرد في الظروف الموضوعية الخارجية أيضًا؟

محاولات لمسح الهوية
في الهندسة المعمارية يمكن الإشارة إلى أن البساطة المفرطة (Minimalism) -الإفراط في استخدام البساطة- يجرّد الشيء من كل خصائصه، وربّما يؤول بعض المهندسين ذلك بالاستشهاد بالحديث: “إنما الأعمال بالنيات”.

وعلى الرغم من اتساع هذه الظاهرة في الهندسة المعمارية المعاصرة، وانتهاجها مسلك التجريد المبالَغ فيه، ومحاولة بناء وظيفة جديدة لكل آلة ومادّة، إلا أنّ الإفراط في استخدامها –في نهاية المطاف- يتعارض مع طبيعة الانسان وفطرته.

يمكننا تشبيه ذلك بحالة من يلبس معطف والده، فيتذكّره ويحنّ لذكرياته العاطفيّة معه، فالمعطف بوجوده ومكوّناته لا قيمة عاطفيّة له، إلا أن الإنسان يستجيب له بخواطره عند رؤيته، وذلك بسبب ارتباط هذه المادة –أي المعطف- بذكريات غير مرئية.

دعنا نسأل: هل للمادة خواص عاطفية؟

بكل تأكيد: “لا”، إلا أنّ ارتباط المادة والشكل بالذكريات قد يعطي للمادة المجردة بعدًا عاطفيًّا، وهو ما يمكن ترجمته في العمارة بالشعور بالانتماء للمكان.

وجود الأرض ومواد البناء بشكل موضوعي لا يشكّل قيمة عاطفية، إلا أنّ تشكيلها في شكل وسياق معين يعطيها أبعادًا غير مادية تجعل الإنسان يستجيب لها بعاطفته؛ وهنا حين تميل العمارة للتجريد المبالَغ فيه، فإنها تدخل في سذاجة وضيق أفق واضح.

لقد أدركت الحكومة الصينية أهمية وجود هوية للمكان، ولا بدّ لمواجهة الحضور الثقافي من إزالة الهوية أو البصمة الروحيّة للمكان، فقامت بتعديل أشكال أهم مساجد المسلمين في محاولة منهم لإزالة الارتباط العاطفي وتقليل نفوذ الهويّة الإسلامية فيها، وزيادة شعور المسلمين بالغربة، وذلك كما تظهرُ الصورة الآتية.

مسجد ينتشوان في الصين

فوفقًا لتقريرٍ لمجلة تيليغراف، أزالت السلطات الصينية القبة المميّزة لمسجد ينتشوان، ومحَتِ كلًّا من الزخرفة الذهبية ذات الطراز الإسلامي، والأقواس الزخرفية، والنص العربي الذي كان يزين المبنى، ثم حُوِّل المسجد لاحقًا إلى مبنى رمادي مستطيل الشكل.

أهميّة التصميم الداخلي للمسجد
الأصل في المسجد أن يكون عادي المظهر، وأن يتوافق مع ذلك بالبيئة المحيطة به بشكل عفوي، وبالرغم من أن الجماليات مهمة، إلا أن الأصل هو التركيز على العبادة، وأن لا يصبح المسجد عبارة عن متحف للزيارة أو قطعة فنية للتصوير.

دعنا ندخل هنا في صلب المقال.

أطلب أن تتمعّن في الصورة التي تظهر التصميم الداخليّ لمسجد سنجقلار، وقارِنها بالصورة من المتحف اليهودي في برلين

التصميم الداخلي في جامع سنجقلار

 

لقطة للتصميم الداخلي في المتحف اليهودي في برلين

ألا ترى أن التجريد في كلا التصميمين جعل المكانَين متشابهين إلى حدٍّ كبير، أين هويّة المكان؟

حين ننظر إلى تصميم المسجد المذكور ونقف عند مئذنته وبقية تفاصيله، فإن خواطر كثيرة تأتينا لفهم هذه الأشكال المختارة.

لكن المهندس المعماري للمسجد يخبرنا أنه يريد إعادة حضور “الكهف” و”غار حراء” في نفوس المصلّين، وذلك بهدف العودة لأصل الاسلام وتعزيز البساطة في حياته.

بالرغم من النيّة السليمة والغاية النبيلة إلا أن تميّز المئذنة في مساجد المسلمين لا يعارض مفهوم البساطة، كما أن التقشّف والتجريد المبالَغ فيه ليس من مبادئ الإسلام ومفاهيمه، بل إن الجمال العفوي المتميز في العمارات الإسلامية تكاد تكون أقرب لروح الإسلام.

إن شكل المئذنة التي بين أيدينا لا يختلف في صورته عن شكل أبنية بعض المعابد الوثنية، وقد أخفق المعماري في تصميمه حين جعل مئذنة سنجقلار على هذا الشكل الخشن.

قارِن بين الصورة الآتية أي مئذنة المسجد وبين الصورة التي تليها وهي صورة معبد شاماني في ألمانيا.

التصميم الخارجي للمئذنة في جامع سنجقلار

التصميم الخارجي لمعبد bruder Klaus field chapel

قد يقول بعضنا: من المحتمل أنها مصادفة، فكلا الشكلين تجريديان، ويمكن رؤية تجليات التجريد في الكثير من الأمثلة، إلا أننا نؤكّد أن الهويّة الإسلامية تعطي للمئذنة شكلاً بصريًّا مختلفًا ومتميزًا عن دور العبادة الخاصة بغيره من الأديان.

وقبل أن تأخذنا العاطفة بالجماليات في فهم تصميم المسجد المذكور، دعونا نقف عند نقطة بالغة الأهمية. إنه الضوء.

يجب إدراك أن التركيز على الضوء بهذا الشكل –الذي يظهر في الصورة الآتية- قد يخالف الغاية من عبادة الله، إذ إن فهمنا لكون الله “نور السموات والأرض” لا ينبغي أن يتجسّد في شكل ماديٍّ مشابه لعقائد أخرى.

إن التوافق بين الصور القادمة لا يندرجُ في الإخلال بالتجريدِ وإنما قد يقرَأ في إطار الدعوة للوحدة المدّعاة بين الأديان، حيث تركّز التصاميم الحديثة على تسليط الضوء مقابل المتأمّل أو العابد، وهو ما نراه –على سبيل المثال- في كنيسة النور في اليابان، ومعبد التأمل لأتباع جميع الأديان في جامعة MIT, وحتى المعبد الشاماني -الذي سبق ذكره- في ألمانيا.

التصميم الداخلي للجدار الداخلي المتجه للقبلة في جامع سنجقلار

 

التصميم الداخلي لكنيسة النور في اليابان

 

التصميم الداخلي لمعبد التأمل في جامعة MIT

 

التصميم الداخلي لمعبد bruder Klaus field chapel

المراوغة في التصميم
عندما يدرس المسلم الهندسة المعمارية يجد أن هناك وصايا في القرآن الكريم بخصوص طريقة البناء، ويتجلى له ذلك في آيات عديدة، منها قوله تعالى {وقدِّر في السرد} [سبأ: 11] حيث تشير الآية إلى وجوب الإتقان في العمل، إلا أن القرآن والسنة النبوية لم تحدّد شكلًا أو طريقة للبناء خاصة بالإسلام، فَتُرك هذا الأمر مفتوحًا للاجتهاد بما يتطلبه الواقع وبما يتوافق مع عقائد الإسلام.

على سبيل المثال فإن البناء عندما يعجّ بالرموز الوثنية والشركيّة – التركيز على العناصر الخمسة للطبيعة الأرض، الماء، النار أو النور، الهواء، أو الأثير والفضاء، التي يركز الباطنيّون عليها كثيرًا- في عملية التصميم والتنفيذ المشروع، فإن هذا أمر ينبغي على المسلم أن لا يوافق عليه، خاصة إن كان مسجدًا..

بكل تأكيد فإن كل بناء يحوي قدرًا من هذه العناصر، وعليه فإن وجودها الطفيف ليس دليلا على وسم المكان بصبغة معيّنة، إلا أن التركيز على إظهار تمازج هذه الرموز بشكل مبالغ فيه ومتفق مع عقائد باطنية، أمرٌ يحتاج لإعادة النظر فيه مرارًا وتكرارًا، خاصة إن كان التصميم لا يوصل لوظيفة محددة له، حيث يجب أن نسأل هنا: هل كان هذا التصميم لأغراض جمالية أم لمعانٍ تأويلية وباطنية أخرى؟

تظهر الصور الثلاث الآتية الشكل الخارجي لجامع سنجقلار، تأمّلها!

يقول مصمم المسجد:
إن وجود بركة مياه منخفضة وأشكال بسيطة للمساحة المفتوحة أمام المساجد يؤدي لحالة ذهنية عاكسة وهادئة، وتهيئة المصلين لدخول الصلاة، فالفضاء المفتوح أمام المساجد يعدّ “مساحة للتأمل” أيضًا، حيث “ينسجم المبنى تمامًا مع التضاريس، وبهذه الطريقة السلمية، يعيد تشكيل الأرض” كما أن وجود شجرة زيتون واحدة فقط وقديمة ترميزٌ للخلود.

هنا نسأل المعماري الذي أراد التخلّص من القِباب والمآذن ليرجع إلى روح الإسلام، هل حقّقت ذلك بتصميمك هذا؟

ما الفائدة من تصميم مسجدٍ يزخر بالترميزات التي تتعارض مع جوهر الإسلام؟

أم أن المصمّم يريد إعادة بناء هويّة الإسلام على نحو جديدٍ كما أعاد بناء المسجد في شكله الجديد؟

(وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) [الإسراء: 37]


المراجع:

https://dajran.com/posts/295

https://swarajyamag.com/insta/china-pulls-down-domes-islamic-decorations-from-mosques-turns-them-into-grey-structures

https://www.floornature.com/eaa-emre-arolat-architecture-sancaklar-mosque-istanbul-essen-15232/

https://emrearolat.com/project/sancaklar-mosque/

https://www.archute.com/church-of-the-light/

https://www.archdaily.com/106352/bruder-klaus-field-chapel-peter-zumthor?ad_medium=widget&ad_name=recommendation

 

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد