ثنائية السعادة والحزن

image_print

كثُر الحزن والألم في عالمنا هذا وذاع صيته في مُجمل بقاع العالم، لا لشيءٍ غير أنَّ الإنسانَ أصبح قلقًا من شتاته وإدراكه -بعض الشّيء- معنى الحياة، حيث أكثرَ من طرح الأسئلة الميتافيزيقيّة، وفي رمشةِ عينٍ صار الجميعُ ناقدًا وفيلسوفًا من طرازِ استعمال الشكّ على وجهه الحقيقيّ وعلى النّحو المراد منه، ولعلّ الكثيرين ممّن يتلاعبون بالقول ويتفنّنون في ضرب المثال شنّوا حروبًا بفكرهم على القلم، حتّى أذعنَ لما يملون عليه من صميم ذواتهم وسراديبها المخيفة، ولكنه لم يعُد طوع بَنَانهم وقبضتهم.

الصمت والاتكاء على الذات

جميعُنا وُلِعْنا بالكتابات الحزينة وادّعاء الصّمت عِوض الكلام والطّرب له، فعادت نفوسنا تستمدّ طاقتها وشغفها من رسومات ڤان جوخ التّجريديّة ورسالته التي لا تخلو من هاتفٍ، بعدما أن كان الأمرُ رهينًا بما جُبلنا عليه في قالبٍ بيولوجي محض، وبعد لم نعُد نريد غير العيشِ وسط كياننا والاتّكاء على ذواتنا. من منّا لا يقرأ لفرانز كافكا وألبير كامو ولا يطبّل لهما ويصفّق؟ أمَا عادت أفواهنا تردّد أقوال الفلاسفة عن الحياة، فأخذنا من الشّعراء حكمتهم حولها ورؤيتهم الثّاقبة إليها، ونظرنا إلى شعر أبي العلاء من هذه الزّاوية فقط وتركنا الباقي في سلّة النّسيان؟

في العزلة والوحدة وحُسن الإصغاء والإنصات لأنّاتنا أصبحنا بارعون وَوُعّاظًا، فولّى زمن اللّمّة وعهد الابتسامة واستُبدِل ذلك بالرّكون عند مستودعِ الألوان القاتمة المشحونة بالصّداع والألم الدّاخلي، وما زاد هذا الزّعم بلّة هاتف اليوم ومصاحَبَته السّاعات، فنحن نجتمع مع أصدقائنا أو من نكنّ لهم حُسن الودّ لا لأمرٍ آخر غير مفهوم الاجتماع، نجتمع لنُكملَ رحلةَ البحث وراء المنصّات الافتراضية ونتسكعّ بين دروب دكاكيننا، فقدنا حوار المباشرة وتأثيره وما يمكن أن يقدّمه الآخر لنا من ابتسامة، أو ما قد يتركه البوح من تجديد النَّفَس وإعادة  النّبض إلى مجاريه الصّحيحة.

نحن عاشقون من الألبسة وألوان الموسيقى ما يخفى تشكيلهما على الأذهان، وتكييفهما على بالِ مستمعٍ أو ناظرٍ؛ فالدّلالات لم تعُد مشتركة بيننا بل عليك أن تجيدَ التّجديد لصياغة عوالم جديدة، تترُك الآخر في غياهبِ التّأويل وتوليد المعانيَ الكثيرة، واستخراج البيانات الغامضة.. هكذا أصبحت رتابة حياتنا الآنية، على أنغام سيمفونيّة بيتهوڤن وألحان الانزياح على أطباق الفطرة السويّة، التّي تنبت في حوض الاستقامة والطّريق الجَلَل، وما تلبث أن تضرب في قعر الخواء حتّى يُسمع صدى الإتلاف.

حتمًا ستعاني إن تبعت تلك العقول التّي رمَت الحمم وقذفتِ البراكين من أذهانها في سبيل تفسير المُبهم من هذا الكون، ولا شكّ ستموت من كمدٍ وحزنٍ إن أذعنتَ لهوى هذه الحياة التراجيديّة السّخينة وجادلتَها في محاولة قشع الضّوء؛ فالعامل والمسبّب الرّئيسي وراء تقمصّ رداء السّؤال، إنه (الوحدة)؛ هذه الأخيرة تفتح للمرء ينابيع الكلام عكس ملاقاة الآخر الذي يؤخّر التّفكير ويقتل الكلمة حتّى وإن كُتِبَ لها أن تحيا في الاستعمال اللّغوي، على حسب زعم فيرناند بيسوا في كتابه اللّاطمأنينة، فأنا أمام الآخر أفقِدُ القدرةَ على الذّكاء، على التّفكير، وحتّى على الحديث أيضًا، لذلك أصبح يحاول الإنسان الهروب ممّا يقزّم حرّيته والتّعبير عن ذاته.

فيرناند بيسوا

حاجتنا للحزن جزء من السعادة

الوحدة عاصفة ساكنة تقصف صاحبها وتُطعمه وجبات مستهلكة لِيموتَ بأسلوبٍ بطيءٍ، فهي أشرس الأعداء لأنّها تتركه يخاطب ذاته وتُسمِعه الأصوات المخيفة، وتتربّص به داخل الكهوف والغابات حينما يصمت العالم -على حدّ قول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه-، كما يخبرنا آخر بأنّها جزءٌ ملازمٌ لكينونة الإنسان، لكنّ السّؤال الذي يَطرح نفسه. كيف يمكننا أن نعيشَ مع هذا الوحش الصامت المخيف الضّخم داخل خيمة واحدة؟ ونتقاسم معه المأكل والمشرب؟ والأصعب أن نشاركه التّفكير؟

إذا ولّينا شطرَ الجمال والشّعر والكتابات الخلّاقة وكلّ ما يطرب النّفس -بحسب قول ابن طباطبا العلوي في كتابه عيار الشّعر- وَجدنا مناهج الفكر بمثابة تلك الحشرة التّي تنخر هذا الإبداع من الدّاخل، وتنهك قواه في سبيل دراسته واستكناه ما لم يُذكر على العتبات؛ وإنّي لأجد في هذا التّقييد حربة قاتلة عالقة في حلقوم تعدِيَةِ الحياة على نهجها الطّبيعي وسلامتها الكونيّة، وليس غايتنا من هذا الذّكرِ سوى أنّ الإنسانَ صار يتفنّن في طرح السّؤال واتّباع المعنى واللّغز القابع أينما ذهب به الرّمز وهربت به الكناية، ولا ننكر بأنّ الحياةَ فقدت بريقها ولَمَعانها مع هذا الحصر المقذع.

على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي نسعى ونلحّ بقوّة أنْ نظهر أسعدَ جزءٍ منّا، لكن من الواضح والمُشاع أنّ معدّلات الاكتئاب المتزايدة في جميع أنحاء العالم، تدلّ على مدى كفاح الإنسان ورغبته في ممارسة السّعادة والارتماء بين أحضانها. هل علينا أن نعيد التّفكير في الثّنائيّات الحياتيّة ولا سيّما ثنائيّة (السّعادة والحزن)!؟ ونروم جانب الشّاعر الرّومانسيّ جون كيتس في قصيدةٍ له عن الكآبة حينما يقول: “الألم والفرح وجهان لعملة واحدة؛ كلاهما ضروريّان لنحيا”، كما علينا تبنّي الألم كجزء من الحالة الإنسانيّة.

وفي مقال للأستاذ النّفساني باستيان بروك يقول فيه: “ليس المغزى في أنّنا يجب أن نحاول أن نكون أكثر حزنًا في الحياة، بل تكمن المشكلة في محاولتنا تجنّب الحزن ورؤيته على أنّه مشكلة وسعينا لتحقيق السّعادة التّي لا نهاية لها، بينما لسنا سعداء جدّا في الواقع، وبالتّالي لا يمكننا التمتّع بفوائد السعادة الحقيقية.” [ميدان الجزيرة، لماذا نحن بحاجة للحزن في حياتنا] فنفهم من ذلك أنّه يجب أن نقضي على الحزن في سبيل السّعادة -وهذا خطأ-؛ لأنّ تقلّب المشاعر يولّد المرونة ويشكّل تلك المادّة التّي بها يمكننا أن نتماشى مع صعوبات الحياة من النّاحية النّفسيّة.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد