توجهات العمارة في تيار ما بعد الحداثة

image_print

أنتجت الفلسفات المتعددة أنماطًا معماريّة مختلفة، لعل آخرها نمط التكثيرية، والمحاكاة مع الطبيعة، وقد أتاح ذلك ظهور فلسفات جديدة تتخذ من أفكار ما بعد الحداثة ديدنًا لها، وهنا يمكن أن نتساءل إلى أين يمكن أن تتجه هذه الأفكار؟

بينما لم تكن أطروحة فينتوري بالتأكيد بيانًا سياسيًا، إلا أن كلماته تقرَأ اليوم على أنها دعوة لمجتمع شامل، حيث قال: “أتحدث عن بنية معقدة ومتناقضة حول ثراء التجربة الحديثة وغموضها، أرحب بالمشكلات وأستغل الشكوك، أحب العناصر الهجينة بدلاً من “النقية”، والمساومة بدلاً من “النظافة”، أنا مع الحيوية الفوضوية على الوحدة، يجب أن تجسّد بنية التعقيد والتناقض الوحدة الصعبة التضمين بدلاً من الوحدة السهلة للاستبعاد.” (1)  وقد أدّت أفكاره للتوجه تحو فكرة التعددية التي بلغت أوج الترويج لها من خلال بيارك انجلز في عام 2009.

ما بعد ما بعد الحداثة: نعم هو الأكثر(Yes is More)
سنأخذ مثالاً على مفهوم (نعم هو الأكثر) من خلال دراسة مشروع (كوبنهاجن المستقبل –منتزه سوبركيلين) وهو أحد أعمال وإشراف المعماري بيرك انجلز، والذي حاز على جائزة آغا خان في العمارة بسبب تركيزه على دمج وصهر الأقليات في المجتمع.

منتزه سوبركيلين

مفهوم الجمال والقيمة الجمالية في المشروع
يقول جيكوب فيغنير، الفنان من الفريق الاستشاري في مشروع (منتزه سوبركيلين) والمسؤول عن القطع الفنية الموزعة في المشروع: “أعتقد أنه يشكّل نوعًا غريبًا .. أعني الأشياء التي لها وظيفة ولكنها مجمّعة معًا ولديهم هذا النوع من الجماليات التي تتعارض مع بعضها البعض، وهو على ما يبدو شيء لطيف، يبدو المكان جيدًا على ما أعتقد”(2).

مفهوم الهوية والانتماء: جدلية السياق
حتى نفهم الهوية، من الجيد تعريف السياق الذي يجعل الإنسان ينتمي وينحاز لفئة معينة من زمان ومكان وأحداث وأشخاص، إذ إن المكان العام بشكله المجرد لا قيمة عاطفية له، إلا أن الذكريات في الإنسان هي ما تجعله يشعر بالانتماء للسياق وتدفعه ليستجيب بعاطفته للمكان، ومن المهم جدًّا التفصيل في مفهوم السياق ومفهومي الزمان والمكان في هذا العصر حتى نحافظ على المعنى والهوية دون عبثية ودون تسطيح لهذه المفاهيم حتى لا نخسر جوهر القضية.

تصاميم متناقضة خارجة عن السياق. هذا لتأكيد أهمية السياق من أجل الانسجام مع المحيط

تصاميم متناقضة خارجة عن السياق. هذا لتأكيد أهمية السياق من أجل الانسجام مع المحيط

تسطيح الهوية بالتمسك بالمادة
حين نقول إننا نشتاق لتراب الوطن -على سبيل المثال-، فإننا نقول ذلك بشكل مجازي، فنحن لا نركض لشم وتجميع التراب حين وصولنا لوطننا، وإن تحمس بعض الأشخاص وفعلوا ذلك بالفعل، فإنه أمرٌ مبالغٌ فيه أو هو مظهر لعاطفة زائدة؛ إذ ليس الأصل من مفهوم الاشتياق للمكان تلمّس جدرانه وأجزائه، لكن بعض المعماريين أخذوا الموضوع بشكل حرفي، وهو ما حصل في مشروع (منتزه سوبركيلين)، حيث خُصّص مكان من المشروع لفتاتين سافرتا لإحضار تراب من فلسطين ووضعه في بعض أجزاء المنتزه.

قد نرى بعض الأشخاص في زمن الحرب من تأخذهم العاطفة ويبدأون بتجميع أحجار بيتهم المدمر للاحتفاظ بذكريات البيت، وهذا موضوع محزنٌ جدًّا ويدفع للتعاطف، إلا أنها لا تخرج عن كونها ردة فعل عاطفية لا يمكن بناء منظومتنا الفكرية وتوضيح مفهوم الهوية والانتماء بناء عليها، إذ الموضوع أعمق وأكبر من ذلك.

تراب أحمر من فلسطين في منتزه سوبركيلين

تسطيح الهوية بالتمسك بالزمان
إلى جانب تسطيح الانتماء للمكان، سيتم تسطيح الزمان في العمارة، وستصبح في المستقبل مثل بيع السلع اليومية كالأجبان، حيث أصبح للزمن قيمة وعُرِّف المنتج الأقدم بأنه الأكثر جودة، فقط لكونه قديمًا ونقيًّا لم تلمسه أيدي البشر الحداثيين، فالتاريخ لم يعد مصدرًا للمعرفة والفهم فحسب، وإنما أصبح مقدسًا بذاته لأن عامل الزمن مرّ عليه، وإن لم يكن يرمز لشيء معين.

صور مشروع منتجع شرعان في العلا

قد يكون الاتجاه مقبولًا لمن يهتم بالتاريخ الأصيل بهدف أن تكون المعلومات المستخرجة أصيلة وصحيحة، إلا أن هذا الاتجاه يلجأ لجعل الأرض والبشر والزمن المعيار لتحديد قدسية المكان، وحينها يصبح المكان مقدسًا لقدمه، بغض النظر إن كان فيه قيمة ثقافية أم لا. وهو ما سنراه أكثر في دراسة المشروع (منتجع شرعان في العلا).

مشروع (منتجع شرعان في العلا)
سيتضمن المنتجع الذي ينحَتُ في جبال العلا بالمملكة العربية السعودية -المتوقّع إنجازه في عام 2023-، أجنحة فندقية، ومنتجعاً صحياً، وموقعاً لعقد القمم. كما يتميز المنتجع بتصميم مستوحىً من مملكة الأنباط وهو من تصميم المعماري الفرنسي جون نوفيل.

الإنصات لصوت الطبيعة Genius Loci
يوضح الفيديو السابق النمط المستخدم في العمارة، وهنا نرى أهمية هوية المكان عند المعماريين، لكن الهوية هنا غير مرتبطة بالثقافة أو للناس بل متعدية لها بهدف فهم إيحاءات المكان وطبيعة الميتافيزيقا، وهو ما يعرف في العمارة بمفهوم “Genius loci”. حيث نشأ مصطلح “Genius loci” من الأساطير الرومانية ويشير إلى الروح الحامية للمكان. أو الطابع السائد أو الجو العام للمكا ويقصد به  رئيس أو روح مكان.(3)

في الدين الروماني الكلاسيكي، كان “Genius loci” يمثل الروح الواقية للمكان، وغالبًا ما كان يصور في الأيقونات الدينية كشخص يحمل سمات مثل الوفرة أو باتيرا أو على هيئة ثعبان، وقد تم تخصيص العديد من المذابح الرومانية الموجودة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية الغربية لمواقع “Genius loci” معينة.(4) وهذا يذكر بقوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}. ]الجن: 6[

من المهم الإشارة إلى أن من جملة عمليات تسطيح مفهوم الهوية حصره برموز من المادة أو الزمن، مما يجعل المعنى الكامن فيه بلا معنى، حيث يجعله التسطيح شيئًا ثانويًّا قد يتركه الإنسان حالما يرى أنه غير فعال أو مستدام، أو عندما يدرك أنه موجود لبعد عاطفي وحسب، مما يجعل العاطفة بحد ذاتها لا معنى لها وبذلك يتشتت ويثقل ويأخذ من مساحة المكان ويصبح مثل الرمز والوثن بلا عملية أو وظيفة له، ومع الوقت، إما يتخلى عنه الإنسان لعدم وجود وظيفة له أو أن يتوجه لعبادته وتقديسه لأنه الشيء الوحيد الذي تبقّى دليلًا للحفاظ على هويته، وبكلا الحالتين فقد تم تسطيح مفهوم الهوية ليصبح مفهوماً متنقلاً غير مستدام وعائقًا في الحياة العملية.

التحيز والإقليمية
الطبيعة تحكم والمعماري يرفع يديه ويستسلم للعفوية والفوضى، وهنا نعود لحركة (نعم هو الأكثر)، حيث نرى أن المكان أصبح يحدّده المستخدم وليس المعماري، فعندما تترجم الهوية بإحضار تراب من بلد ما، أو وضع رمز على شكل عيادة طبية من مكان ما، فإننا نرى أمامنا أن العبثية تحاول إيجاد معنى بطريقة أكثر عبثية.

نرى في حركة (نعم هو الأكثر) أنها تحاول إيجاد معنى وهوية للثقافات المختلفة من خلال إحضار رموز مختلفة مهما كانت رأسمالية، تاريخية، ثقافية، دينية، وطنية.. إلخ، وبنفس الوقت تحاول إيجاد الترتيب والتنظيم والهيكلية في المدينة من خلال ضم كل الثقافات للخضوع للمجتمع التعددي والاندماج القسري.

هو وهم الحرية والانفتاح إذًا، أحضر ما تريد من بلدك وثقافتك، يمكنك إحضار الزعتر والملوخية، لكنك يجب أن تعيش في نهاية المطاف مثلنا وتستمتع بما نراه مناسبا لك، ونريد أن نأكل معك أيضا.

تدافع الحيوانات الإقليمية عن منطقتها ضد الغزاة

يمكن اعتبار هذا الواقع بأنه اشتراكية جديدة على مستوى عالمي، حيث يخضع كل البشر لسلطة رموز الأم الطبيعة، وحين نجعل هويتنا وكينونتنا مقتصرة على الحيز الذي نحتله خاصة عند فقدان معنى الوطن الذي غدا ظاهرة عالمية، فإن ذلك سيعيدنا لغريزتنا الحيوانية في القتال من أجل الحيز للتعبير عن هويتنا، كما في الصورة الأخيرة، حيث نرى مدافعة الحيوانات عن منطقتها ضد الغزاة.


الهوامش:

  1. https://cutt.ly/Nh8ls6N
  2. https://cutt.ly/ph8lUvj
  3. https://cutt.ly/Fh8lInI
  4. https://cutt.ly/8h8lOQx

مصادر الصور:

https://cutt.ly/Ph8lQG5

https://cutt.ly/0h8lPZ2

https://cutt.ly/Sh8lWON

https://cutt.ly/yh8lENR

https://cutt.ly/Gh8lR0A

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد