تنحية قُدسية العلم بالمنطق النفعي

image_print

اقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر، والتخلف عن منهج الوحي من غشاوة البصائر، لقد كان للعلم قداسة؛ إذ إنه جزء من العبادة لكنه أمسى المعبود مع طغيان المحسوس على المثال، فغدا العلم الذي به يُعرف الله ويُعمّق الإيمان، كما في قوله تعالى: {إنما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] إلا أنه غدا ملازمًا حتمًا للوظيفةِ وما لحقها من أغراضٍ ماديةٍ.

ترسّخ لدينا منذُ الصغر أن العلم لا يكون إلاّ داخل أسوار الأكاديمية، و أن بلوغ الهمم لا يتمُ إلا بالشهادات العليا، والفلاح لا يتحصّل إلا بهما، فلا يدرك المرء منا غاية العلم حتى يبلغ الكبر، بينما كان المتقدمون يتقنون جل العلوم وهم في ريعان شبابهم، الأمر الذي تخلّف عنه الخلف ولقوا إزاءه غيًّا كبيرا من الجهل، لأسباب معلومة مركبة تفشت في كل الأرجاء بدءا بالمحيط الأسري.

جناية الآباء

لا ريب أن الكثير من العوامل تدخل في تشكيل شخصية طالب العلم دون أن يعي ذلك، فللآباء دور كبير لا في رسم مسار أبنائهما فحسب، بل فيما هو أكثر من ذلك، فتجد من هم مهووسون بالنفع المادي كنتيجة لطلب العلم، يركزون في تربيتهم عليه، بترديدهم على مسامع أبنائهم في كل مراحل حياتهم الدراسية مقولات عديدة، مثل: “يجب أن تُحصِّل المراكز الأولى، وادرس لتحصُل على منصب مشرف في المستقبل”، وما زادوا إلا أنهم وضعوا أبنائهم في سجن أو داخل سياج أحلامهم المتعلقة بالمركز والوظيفة، مع انعدام اقتران العلم باكتساب الأخلاق والأدب وما شابه، مما يسهم في إنشاء أجيال خاوية الوفاض، متردية من أبراج الماديات، وإن حققت الهدف الموهوم وحازت على المطلوب، كانت أغلال الأكاديمية تُقيدها من كل طرف علم محدود، وإبداع مقتول، وانكبابٌ على ما عُلّم ولُقّن.

بالعودة إلى سِير المتقدمين نلحظُ بقوة بروز دور التربية السليمة في فلاحهم، وأحيانا كثيرة تكون نقطة مفصلية في مسيرهم، نستشهد بالإمام مالك بن أنس، الذي كانت والدته شديدة الحرص على سلكه سبيل العلم ومنهج العلماء، فعن ابن أبي أويس قال: (سمعت خالي مالك بن أنس يقول: كانت أمي تلبسني الثياب، وتعممني وأنا صبي، وتوجهني إلى ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وتقول: يا بني، ائت مجلس ربيعة، فتعلم من سمته وأدبه قبل أن تتعلم من حديثه وفقهه) [المنتخب من وصايا الآباء للأبناء].

ونستحضر قول والدة إمام من أئمة الحديث النبوي وأحد أعلام الزهد عند المسلمين، سفيان الثوري.
قال وكيع بن الجراح: قالت أم سفيان الثوري له: يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي.
يا بني، إذا كتبت عشرة أحاديث أو عشرة أحرف، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في مشيك وحلمك ووقارك؟ فإن لم تر ذلك فاعلم أنه يضرك ولا ينفعك. [المصدر نفسه]

والأمثلة كثيرة جدًّا لا تحصى فيما ذكرناه، فلا نكاد نجد شخصية تاريخية إسلامية خاصة العلمية منها، إلا والفضل يرجع فيها للتربية التي نشأت عليها.

فلا يُحسن القلم تدوين ما يليق بجلال هؤلاء الأمهات الّلائي سطرن لأبنائهن تاريخا لا ينسى مهما تقادمت العصور، جعلن منهم أبناء عظماء وعلماء أجلّاء بحكمتهن، وفرسان مذاهب خدمت الدّين بذكائهن، ورافقت الأمم عبر أزمنة مختلفة، هن من أدركن معنى العلم، فكان من حسن إدراكهن حصاد ما انتفعت به أمم، والاستشهاد هنا من باب إبراز المفارقة الكبيرة بين ما تربّى عليه السلف، من أن العلم يُراد به أصلاً وجه الله تعالى، وما نشأ عليه الخلف من ابتغاء الشواهد والمناصب، و المقارنة بين ما نُحصّله من العلم النافع المجرد عن المادية وبين الممسوخ، وأن للآباء لدورٌ يصنع التاريخ.

وصايا على طريق العلم

ألا ترى أن الوصايا التي ذكرناها ارتكزت على جانب التزكية والأدب في طلب العلم، فلا يستقيم أن يتجرد العالم عنهما، فـ “نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم” [من كلام الإمام عبد الله بن المبارك]، فكان لهم من الاستيلاء على العلوم المدعومة بالتربية الإيمانية من الحظ الكبير بفضل سلكهم سبيل هذا النهج القيمي في طلب العلم، وهذا ما غيبه السعي المادي، وقد حذرنا الرسول صلّى الله عليه وسلم من طلب العلم الذي يراد به عرض الدنيا فقال: (مَن تعلَّم علمًا مما يبتغى به وجهُ الله عز وجل لا يتعلَّمه إلا ليصيب به عرَضًا مِن الدنيا، لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة). [أخرجه أبو داوود وأحمد وابن ماجه]

والعلم الذي فرضه الوحي أيّاً كان مجاله هو علم يخدم المُثل العليا للإيمان، والتدليل على ذلك في أول آية نُزلت من سورة العلق حين قال الله تعالى: [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] {العلق:1}. فالقراءة هي البوابة الرئيسية لتحصيل العلم..

حاكمية الإعلام

كما لا نغفل دور الإعلام الذي يقوم ببرمجة وعي الجماهير وتقنينها وفقا لمعاييره، وما يزيد هذه المعايير ترسيخًا هو اعتماد المجتمع على الإعلام كوسيلة توجيه في جميع جوانب الحياة، وبذلك يستطيع إحكام قبضته وسيطرته على عقولهم، كما يقول الدكتور الحسان شهيد “إن مشروع العولمة، باعتباره أحد أشكال التعارف الثقافي والتدافع الحضاري، يبدو وكأنه تهديد للأسس القيمية لدى الثقافات المتعددة، سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو الأسري أو المجتمع أو العالم”[1]، لذلك كان لوسائل التواصل المرتبطة بالنهضة الرقمية دورًا لا يستهان به في تشكيل تعريفات جديدة ووهمية خطيرة متعلقة بطلب العلم، منها الترويج للمنطق النفعي، هنا تكمن خطورة الإعلام كما وصفها الدكتور “الحسان شهيد” من حيث كون المدخل الإعلامي من “المداخل الأكثر خطورة على القيم الإنسانية، لما يحمله من رموز فكرية عابرة للثقافات وخارقة للحضارات” فقد كان الإعلام الجديد السبب الأبرز “في تفكيك البنى الثقافية في المجتمعات العربية”، وكان منفصلا -في كثير من الحالات- عن منظومة القيم الهادية، ومتمركزا حول رؤية العالم بوصفه نمطا استهلاكيا تُعبد فيه الدنيا”، [2] فلا مقدسات ثابتة تحكم، ولا حدود أخلاقية تقف عندها ممارسات الشاشة والتقنية،[3] والحديث في هذا الشأن لا ينقضي.

مشكلة تفضي لأخرى، لكن أساسها واحد وهو  جرد العلم عن مُثله العليا وغاياته الكبرى  فينحل طالب العلم عن كل ما هو قيمي لانعدام ما قد ذُكر، كما ذهب “المسيري” إلى أن هذا العصر الإعلامي، “هو عصر الانفصال عن القيمة، وأن الهدف من الهجوم الإعلامي هو إشاعة النموذج الاستهلاكي، مرورا بخلخلة ثوابته القيمية وإعلاء قيمة الثقافة الواحدة -المعولمة- وتعزيز استهلاك كل ما تنتجه الإعلانات والشاشات، ووصولا إلى خلق الفصام داخل نفسية المواطن في مختلف مراحله العمرية؛ تجاه ثوابته وأخلاقيات مجتمعه، مما يؤسس للسؤال حول أهمية الإعلام البديل الذي يقاوم الاختزال ويتعامل مع الإنسان بوصفه إنسانا وليس موضوعا للاستهلاك، وأداة لتحقيق الأغراض، ويخرج به من كونه متلقيا سلبيا دون أن يكون له أثر في التفاعلات التي تحدث في الفضاء العام [4].

 [3] [2][1]-دون أن تشعر.. كيف يغير الإعلام نمط حياتك وأفكارك؟/سامح عودة/31/1/2018/الجزيرة
على الرابط: https://bit.ly/3Kr8BH7

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد