تغييب العقول تحت دعوى العلم أو التسلية والفضول

image_print

عناوين برّاقة تغوي ضعاف العقول والنّفوس..

هل تريد أن تعرف ماذا يختبئ خلف الجدار؟ أو هل تريد أن يخبرك أحدهم بكم ستتعثّر من أحجار؟

هل تريد أن يحددوا لك مزاجك حسب الشهور، هل ستكون سعيداً أم ستخيّم على سماء روحك الأكدار؟!

تلك معادلة التغييب التي يعتمدها التنجيم، بأن تحمل العقل وتضعه كهديّة في جعبة من يطلقون كلاماً من الشرق والغرب غير مترابط، ويدّعون بوجود علم قائم بذاته، فكيف يقوم علمٌ على مبدأ وهميّ هابط؟!

ذاك شيء له فورة ببداية كلّ سنة يخرج الرجل منهم أو المرأة يبدآن بإطلاق توقّعات مستقبلية، بتسخيرٍ من محطات مقروءة أو مسموعة أو مرئية.

والنّاس للأمانة نائمون، مع العلم أنّ القلم رُفع عن نائمي الجسد لا نائمي العقول، فتراهم يتابعون ذاك الهراء بين إيمان أو تسلية أو فضول.

وقائل منهم يقول: لمَ تحمّلها يا أخي، هكذا يسير التيار ونحن مع التيار نسير.

وسائل يسأل ولمَ يحكمنا التيار ولا نصنعه؟ ولمَ كلّما صفع العدوُّ لنا مبدأ قدمنا له على طبق من ذهب مبدأ آخر ليصفعه!

الفرق بين علم الفلك والتنجيم:
علم الفلك علم يدرس الأجرام السماوية كالكواكب والنجوم والنيازك وكلّ الظواهر الموجودة خارج الكرة الأرضيّة، بينما التنجيم هو دراسة تأثير الأجرام السماوية على حياة الإنسان ويتنبأ استناداً لها.

وقد أورد ابن القيّم في كتابه الذي حمل عنوان مفتاح دار السعادة، الحجج التجريبية في علم التنجيم من أجل رفض الممارسة القضائية لعلم التنجيم الأقرب إلى العرافة، لقد أدرك أن النجوم أكبر بكثير من الكواكب وبالتالي فقد جادل قائلًا:

“وإذا أجبتم كمنجمين أنه بسبب هذه المسافة والصغر بالتحديد، فإن تأثيرهم لا يذكر، فلما تدعي تأثيرًا كبيرًا على أصغر جسم سماوي، عطارد؟ لماذا امتلكت تأثيرًا على الرأس والذيل وهما نقطتان وهميتان (العقد الصاعدة والهابطة)؟”.

اعتبر ابن القيّم مجرة درب التبانة أنها “عدد لا يحصى من النجوم الصغيرة المتجمعة في مجال النجوم الثابتة”، وبالتالي فقد جادل بأنه “من المستحيل بالتأكيد معرفة تأثيراتها”.

صيغة عامّة تُلقى على الأسماع لتمرير الوهم والخداع:
انتشرت الصّفحات التي تبحث في الأبراج اليوميّة والطوالع الشهريّة بين هزل وجدّ، وانهال عليها المتابعون بين مؤمن وفضوليّ وطالب للتسلية ناسياً أنّ لكلّ شيء في الشريعة حدّ.

رغم أنّنا إن صادفنا أحد المنجّمين رأيناهم يطلقون ألفاظاً عامّة ليمرّروا للعقول ما تهواه الأنفس، كأن يقولوا لأحدهم ينتظرك إنجاز عظيم، فإن تخرّج من جامعته أو نجح في عمله أو تزوّج أو وهبه الله أولاداً رأيته يعزو كلّ ما يصيبه لذلك التوقّع الذي سمعه منهم، ويبدأ يرتّب حياته بشكل مقصود أو غير مقصود على ما ينطقه أولئك المنجمون، وبشكل أو بآخر سيصبح من المؤمنين بما يصدر عنهم، تنفرج أساريره بتبشيرهم له بالمراد، وتتكدّر روحه بمجرّد توقّعاتهم له بعكس ما أراد.

وتجد آخراً يقلّب محطات التلفزة أو وسائل التواصل في نهاية كلّ سنة، وبداعي الفضول أو التسلية يستمع لما يقوله هؤلاء المنجمون من توقّعات على جميع المستويات، وتلك أدهى السموم إذ أنّ القائمين على هذه المحطّات يعرضون ما يؤيّد صحة ما قاله هذا المنجّم في سنة ماضية أنّه حدث على أرض الواقع، ولو أمعن أحدنا النظر ولو قليلاً لأبصر عمومية الإطلاق في التوقّع ولا يخفى على ذي عقل ما يحرّك هؤلاء من دوافع.

موقف الشّرع من التنجيم:
المشكلة قطعاً لا تكمن في علم الفلك بحدّ ذاتها وإنّما تكمن في خلط هذا العلم بعلم التنجيم وربط النجوم بالكهانة والتنبؤ بالغيب وهذا هو المحرّم قطعاً لأنّه لا يوافق صريح القرآن الكريم إذ لم يرد في القرآن الكريم ولا في السّنّة النبوية الشريفة أنّ للنجوم علاقة بالغيب.

قد يقول قائل ولكنّ النجوم ذُكرت في القرآن الكريم بشكلٍ كبير ولكن هناك مفصليّة يجب الانتباه لها وهو أننا عندما نبحث عن ذكر النجوم والكواكب في القرآن الكريم نجده ورد على ثلاثة أوجه:

الوجه الأوّل: أنّها زينة للسماء، قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}   [الصّافات: 6]

الوجه الثّاني: أنّها علامات يُهتدى بها وبوصلة للمسافرين أثناء سفرهم ورحلاتهم، قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}   [النّحل: 16]

الوجه الثالث: أنّها أداةٌ من أدوات حفظ السماء من مردة الشياطين، قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ۝ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ۝ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ۝ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [سورة الصافات:6-10].

بكلّ ما سبق من آيات كريمة نجد أنّ النجوم لا علاقة لها بعلم الغيب، إذ إنّه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحَدًا إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}   [الجن:26-27]

قال القرطبي رحمه الله في تفسير آيتي الجن السابقتين: ” قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير، ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله، مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه”

وورد عن سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثاً يشخّص هذا الحال.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (مَن أتى عرَّافًا أو كاهنًا فصَدَّقَه بما يقولُ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)  [المحدّث: الذهبي بإسناد صحيح]

منهج النبيّ والصحابة الكرام في الردّ على التنجيم وما يتّصل به:
وفاة إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عندما توفّي إبراهيم ابن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من السيّدة مارية القبطية وهو ابن ثمانيةَ عشر شهراً قال النّاس أنّ الشمس كُسفت لموته فنهاهم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك وبيّن لهم الصّواب وكعادته عليه أفضل الصّلاة والسّلام يصنع من كلّ موقف منبراً للتعليم والدعوة والإيضاح.

عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كَسَفَتِ الشَّمْسُ علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ، فَقالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (إنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ لا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أحَدٍ ولَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا، وادْعُوا اللَّهَ.)  [صحيح البخاري]

عليّ كرّم الله وجهه ورحلته إلى أهل النهروان: “قال  مسافر بن عوف لعليّ كرّم الله وجهه حين انصرف من الأنبار إلى أهل النهروان: يا أمير المؤمنين، لا تسر في هذه الساعة، وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار؛ فقال له علي رضي الله عنه: ولِمَ؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك ظفرت وأصبت ما طلبت؛ فقال عليّ رضي الله عنه: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده ـ في كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل ـ فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً، أو ضداً؛ اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك؛ ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتَ وبقيتُ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان؛ ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم، وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح مسلم.

ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل: سار في الساعة التي أمر بها المنجم؛ ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده؛ فتح الله علينا بلاد كسرى، وقيصر، وسائر البلدان؛ ثم قال: أيها الناس! توكلوا على الله، وثقوا به فإنه يكفي ممن سواه”. [الكنز ج5 ص 235]

في النهاية جاء في تفسير القرطبي عن بعض العلماء ردّ لطيف وحجّة مقنعة لمن يعتقد بالتنجيم

” قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَلَيْتَ شِعْرِي مَا يَقُولُ الْمُنَجِّمَ فِي سَفِينَةٍ رَكِبَ فِيهَا أَلْفُ إِنْسَانٍ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، وَتَبَايُنِ رُتَبِهِمْ، فِيهِمُ الْمَلِكُ وَالسُّوقَةُ، وَالْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، وَالْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، وَالْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، مَعَ اخْتِلَافِ طَوَالِعِهِمْ، وَتَبَايُنِ مَوَالِيدِهِمْ، وَدَرَجَاتِ نُجُومِهِمْ، فَعَمَّهُمْ حُكْمُ الْغَرَقِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ الْمُنَجِّمُ قَبَّحَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا أَغْرَقَهُمُ الطَّالِعُ الَّذِي رَكِبُوا فِيهِ، فَيَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الطَّالِعَ أَبْطَلَ أَحْكَامَ تِلْكَ الطَّوَالِعِ كُلِّهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا عِنْدَ وِلَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَمَا يَقْتَضِيهِ طَالِعُهُ الْمَخْصُوصُ بِهِ، فَلَا فَائِدَةَ أَبَدًا فِي عَمَلِ الْمَوَالِيدِ، وَلَا دِلَالَةَ فِيهَا عَلَى شَقِيٍّ وَلَا سَعِيدٍ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُعَانَدَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَفِيهِ اسْتِحْلَالُ دَمِهِ عَلَى هَذَا التَّنْجِيمِ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّاعِرُ حَيْثُ قَالَ:

حَكَمَ الْمُنَجِّمُ أَنَّ طَالِعَ مَوْلِدِي … يَقْضِي عَلَيَّ بِمِيتَةِ الْغَرَقِ

قُلْ لِلْمُنَجِّمِ صُبْحَةَ الطُّوفَانِ هَلْ … وُلِدَ الْجَمِيعُ بِكَوْكَبِ الْغَرَقِ”

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد