بعد الإساءة للإسلام.. هل ستؤثر المقاطعة الاقتصادية على فرنسا؟
بعد إساءة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الفجة لنبي الإسلام صلوات ربي وسلامه عليه وتعديه على دين الحق بالقول والفعل، أطلق ناشطون على مواقع التواصل دعوات إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية كردٍ سلمي ومباشر يتناسب مع حرية التعبير والليبرالية التي يقدسها الغرب.
وفي نفس الوقت وفي خضم الحماس الذي اشتعل في قلوب معظم المسلمين نصرة لنبيهم ودفاعاً عن مقدساتهم تنطلق دعاوى سلبية معاكسة فحواها أن هذه المقاطعات لن تؤثر في الاقتصاد الهائل للجمهورية الفرنسية التي ولا شك سيدعمها الاتحاد الأوروبي وستجد سوقاً بديلة عن البلاد الإسلامية ولن يضرها خسارة زبائنهم شيئاً.
ولأهمية الموضوع وأثره على حراك المسلمين، قررت أن أفرد له هذا المقال لجمع الأدلة والتقارير التي تفصّل أثر المقاطعة الاقتصادية على بلد مثل فرنسا، وتوضيح الخطأ في خطاب من يقول: عملكم هذا لن يؤثر، ولذلك أختار تجاهل القضية كلها!
توضيحٌ قبل البدء
قبل النظر في جدوى المقاطعة الاقتصادية المتوقعة، واحتمالات قد تحدث أو لا، ينبغي علينا كمسلمين أن نسأل: هل وجود النتيجة الدنيوية شرطٌ للعمل؟ وهل الأجر متوقف على حصول ثمرة الفعل المادية في الإسلام؟
من ثوابت الإسلام أن المرء محاسبٌ على السعي لا على نتاجه، فالله تبارك وتعالى يقول عزّ من قائل {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ} [النجم:104]، وقال كذلك {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فالعمل والسعي هما الأساس. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي اعتبره علماءٌ شطر الدين أن الأعمال بالنيات وأن للمرء مانوى (رواه البخاري)[1]، فإن كانت غاية المرء النبيلة نصرة هذا الدين بنفسه وماله بأي وسيلة ممكنة فثمرة هذا حاصلة عند الله وإن لم تظهر في هذه الدنيا الفانية الزائلة بإذن الله.
والمسلم حين يعمل يوقن أنه أجيرٌ عند الله تبارك وتعالى، لا شأن له بمسار العمل، إنما يتوجه حيث أمره مولاه تبارك وتعالى،[2] ولعل من أصدق الأمثلة على ذلك سيرة الصحابي مصعب بن عمير الذي دخل الإسلام في بداياته وذاق في سبيله العذاب والمشقة وجفاء الأهل وحرمان المتع الدنيوية، إلى أن استشهد رضي الله عنه وليس له كفن يكفي لستر جسده، فلم يشهد نصر الإسلام ولا رأى ظهوره، وليس ذلك بمنقصٍ من أجره شيئاً.
يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه في الصحيحين: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نبتغي وجه الله ووجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد شيئاً نكفنه فيه إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، فإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه بها، ونجعل على رجليه إذخرا، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهذبها.
من التاريخ
بعد تذكير نفسي والقارئ بضرورة إخلاص النية وانتظار الثواب من الله لا من النتائج المادية، لننظر في أمثلةٍ تاريخية تقرر جدوى المقاطعة وأثرها المرجو بإذن الله.
في ورقتها البحثية المعنونة “Democratizing The Economic Sphere” أو دمقرطة المجال الاقتصادي، كتبت تيريزا لي: يمكن تعريف المقاطعة السياسية برفض المستهلك شراء سلعٍ معينة من منتجٍ أو مجموعة منتجين بهدف إحداث تغيير سياسي أو اجتماعي مطلوب. ومن الناحية القانونية، فالمقاطعة مغروسة في مبادئ حرية التعبير والاستقلالية والحكم الذاتي للأفراد[3]. وكما أن بإمكان الشركات تغيير مكان الاستثمار والبيع لأهدافها الخاصة، فإن المقاطعة تسمح للزبائن الذين لا يملكون إلا شراء حاجياتهم أن يجتمعوا مع من يشاركهم الأفكار والأهداف لإحداث التغيير السياسي الذي يريدون.[4]
فالمقاطعة من الناحية القانونية تضع أقل فردٍ في المجتمع على صعيدٍ واحدٍ مع المنتجين وصناع القرار السياسي تماماً كما تنادي الديمقراطية.[5] ولا شك أن لهذا النشاط قوة فاعلة على أرض الواقع تتجاوز قوة السلاح أوالانتخاب في كثير من الأحيان، ولذلك أمثلة كثيرة من التاريخ. فقد أظهر ليود كاتلر أن الأمة الأمريكية ولدت نتيجة مجموعة من مقاطعات الاستعمار التي قادت التجار البريطانيين لدعم مطالب الشعب الأمريكي بالاستقلال والضغط على الملك حتى يوافق عليه.[6]
وتظهر السجلات التاريخية العائدة إلى النصف الأول من القرن العشرين أن المقاطعات كانت ذات تأثير كبير في إنهاء التمييز العنصري في الولايات المتحدة، فبين عامي 1900 و1906 قامت مقاطعات لسيارات الأجرة في أكثر من 25 ولاية جنوبية رفضاً لقوانين الفصل العرقي.[7] وامتداداً لتلك الحركات قامت مقاطعات واسعة لباصات النقل عام 1950 في البلاد رفضاً لفصل الأعراق في المواصلات.[8] وقد كان لهذه المقاطعة أثر كبير في المساهمة بتأمين حقوق الأفارقة الأمريكيين ومنع الفصل المبني على الأعراق في البلاد.[9]
وقد ظهر الأثر السريع والكبير لأسلوب المقاطعة في ولاية أركانساس الأمريكية عام 1971 حين اتفق المجتمع الأفريقي الأمريكي على مقاطعة التجار البيض في مدينة ماريانا لجذب الانتباه إلى التمييز العنصري الذي عانوه، وبعد ثمانية أشهر من المقاطعة المركزة قدم قادة المقاطعين عريضة بمطالبهم، وتم الاتفاق على حلولٍ مرضية لإنهاء المقاطعة. ويشير الباحثون في تفسير التأثير الكبير للمقاطعات إلى أن المحاكم العليا لا تعمل في معزل عن الواقع البتة، ولذا فإن حراك جزء كبير من الناس في مقاطعةٍ محددة وما ينتجه ذلك من جدل إعلامي وخسائر مادية للمستثمرين المحليين يولد ضغطاً كبيراً على القضاة وصناع القوانين.[10]
وكثيراً ما تكون المقاطعة بطيئة وتراكمية الأثر، ففي عام 1966 بدأ ناشطون في ولاية ميسسبي الأمريكية مقاطعة طويلة الأمد من أجل مطالب متعلقة بمساواة الأعراق من حيث الألقاب، والمهن المتاحة، والفصل في المرافق العامة.[11] ورغم النتائج الكبيرة والدراماتيكية لتلك المقاطعة، إلا أن ظهورها تأخر 16 سنة عن بدايتها.
ولعل أحد أوضح الأمثلة على فعالية المقاطعة يظهر في الاستخدام الواسع لمبدأ العقوبات الاقتصادية التي تمارسها الدول القوية ضد تلك التي لا تتفق معها. وهدف هذه الممارسة بسيط و واضح: الضغط على دولة معينة عبر إحداث ضرر في كيانها الاقتصادي لتغير مواقفها وترضخ لما هو مطلوب منها. فالعقوبات الاقتصادية كمبدأ تنطوي على إيقاف المبادلات اقتصادية مع الدولة “المذنبة”.[12] ورغم أن هذه العقوبات غالباً ما تتركز في النفط، أو في سلعة لا بديل لها في الدولة المُعاقَبة، إلا أنها تشبه كثيراً المقاطعة التي تقوم بها الشعوب المسلمة ضد فرنسا اليوم من ناحية إحداث الضرر للاقتصاد.
بهذه النظرة التاريخية السريعة يتضح أن المقاطعة الاقتصادية ليست كما يدعي كثيرون، “حلٌ عاطفي بائس وغير مجدٍ”، بل إن الدراسات والخبراء يشيرون إلى قدرتها الكبيرة في إحداث التغيير إن التزمت التركيز والمثابرة اللازمين لإيصال صوت الشعوب والأفراد.
اقتصادٌ هزيلٌ وفرصة
تحاول كثيرٌ من دول العالم اليوم التعافي من انكسارات شديدة أصابت اقتصادها نتيجة وباء كورونا، فهذه الدول ذات اقتصاد مبني على الحركة الدائمة من بيع وشراء مستمرين مما يجعلها سريعة التأثر ببطء الحركة الاقتصادية في ظل الإغلاق والحجر وارتفاع معدلات البطالة.
من ناحيةٍ أخرى فقد دعى الرئيس الفرنسي إلى إغلاق جديد للبلاد بتاريخ التامن والعشرين من أكتوبر الحالي بسبب تسارع انتشار الفيروس، أدى إلى هبوط مباشر للأسهم الاقتصادية الفرنسية في تاريخ 29 أكتوبر الحالي. وكل ذلك يزيد فرصة تأثر فرنسا بمقاطعة البلاد الإسلامية لها.
على صعيدٍ آخر، نفت شبكة فرانس-24 أن تؤثر المقاطعة في اقتصاد البلاد، مقررةً أن المقاطعة لن تشمل منتجات الرفاهية أو قطاع الطيران ذوي الأثر التجاري الكبير، وقال خبراء على الشبكة نفسها إن مبادلات السلاح مع قطر والكويت لن تتأثر بحركات دينية منطلقة من المساجد لأن الوصول إليها وإقرارها يأخذ سنوات عديدة، ولأن الدول العربية تعتبر أوروبا شريكاً تجارياً مهماً لن تخاطر باحتمال عقوبات اقتصادية منه.[13]
ولعل هذه البيانات تظهر أهمية اشتمال المقاطعة لكل المنتجات الفرنسية، بما فيها رحلات الطيران، إضافة إلى ضرورة استثمار الموقف للحديث عن حاجة بلاد المسلمين لاكتفاء يغنيها عن الاعتماد على عدوها والرضوخ لإساءاته. فبإمكان المسلمين اليوم وهم مجتمعون على نصرة نبيهم والدفاع عنه توجيه ضربة قوية لهذه الدولة المتكبرة التي تسيء بكل فجاجة لمقدسات ملايين المسلمين حول العالم.
هذا والأمر كله لله، له الحكم والأمر وإليه المصير، مع استحضار أن لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء (رواه الترمذي)، لكي لا نحزن على مافات منها، ولا ننجرّ للنظر في الأرقام على حساب تزكيتنا لنفوسنا ويقيننا بنصر الله والاستعداد لدار المقامة الحقيقية.
[1] من درس صوتي للشيخ ابن باز، بعنوان “من قوله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”: https://binbaz.org.sa/audios/2123/01
[2] سيد قطب، معالم في الطريق، ص 181.
[3] Lee, T. J. (2012). Democratizing the Economic Sphere: A Case for the Political Boycott. W. Va. L. Rev., 115, 531.
[4] المصدر السابق.
[5] Lee, T. J. (2012). Democratizing the Economic Sphere: A Case for the Political Boycott. W. Va. L. Rev., 115, 531.
[6] Transcript of Petitioner’s Oral Argument at 5, Claiborne Hardware, 458 U.S. 886 (No. 81- 202)
[7] MONROE FRIEDMAN, CONSUMER BOYCOTTS: EFFECTING CHANGE THROUGH THE MARKETPLACE AND THE MEDIA 92 (1999)
[8] المصدر السابق.
[9] Gayle v. Bowder, 352 U.S. 903 (1956)
ولمزيد من المعلومات ابحث عن Montgomery bus boycott”” على محركات البحث
[10] CATHERINE A. BARNES, JOURNEY FROM JIM CROW: THE DESEGREGATION OF SOUTHERN TRANSIT 124 (1983).
[11] NAACP v. Claiborne Hardware Co., 458 U.S. 886, 889 (1982).
[12] Galtung, J. (1967). On the effects of international economic sanctions: With examples from the case of Rhodesia. World Politics: A Quarterly Journal of International Relations, 378-416.
[13] French firms urged to ‘resist blackmail’ as Turkey’s Erdogan joins calls for boycott. https://www.france24.com/en/middle-east/20201027-french-firms-urged-to-resist-blackmail-as-turkey-s-erdogan-joins-calls-for-boycott
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!