انتقائيات التعاطف مع قضايا المرأة!

image_print

شكّلت قضيَّة الفتاة السورية “آيات الرفاعي” صدمة في الوسط السوري حين لقيت مصرعها على يد زوجها وأهله، وذلك بعد الإسراف المجرم في الضرب الذي انتهى بمقتلها!

ورغم بشاعة الحادثة، وشدّة الإجرام الذي تعرَّضت له الضحية رحمها الله، إلا أن التعاطف -واسع الانتشار- الذي نالته، كان في كثيرٍ منه تعاطفاً انتقائياً وموجهاً ومنحازاً، فهي لم تنل تعاطفاً مجرداً لكونها ضحية قُتِلت ظلماً، أو لكونها امرأة حتى، بل نالت التعاطف لأنها ضحية منتقاة بعناية من قبل مؤدلجي تعاطف وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يظهر لنا أننا أمام ظاهرة خطيرة في التعاطف الانتقائي!

يبرز هذا التعاطف “الانتقائي” حين ينتقي الجمهور قضايا معيّنة ليعلنوا تعاطفهم معها، وينضمّون لحملة التضامن، بانتقائية بحتة، ذات قسمة ضيزى، رغم عدالة الشكل العام لتلك الحملات، كما يظهر للوهلة الأولى.

كيف نعرف التعاطف الانتقائي؟

تبرز الانتقائية وتتجلى حين يصطدم الجمهور مع أنواع أخرى من الضحايا، لنرى أنه ليست كلّ امرأة تتعرض للعنف أو الاضطهاد أو حتى القتل تلقى هذا التعاطف، وليست كل امرأة تصبح حديث –أو ترند- الجمهور الذي تداعب نوعيّات محددة من القضايا شهوته للكلام والحديث والغضب والتضامن والتعاطف، بينما يظهر الوجه الآخر للانتقائية في قضايا المرأة، حين يكون للضحية سمة معينة، تتناسب مع توجهات الجمهور، وذلك ليكون التعاطف بحد ذاته موجهاً وممنهجاً، وكأن الجمهور المتعاطف ينتظر بفارغ الصبر هذا النوع من الضحايا ليعلن عمّا وراء التعاطف، وهو إثبات وجهة نظره وطرح أيديولوجيته في المرأة، ليقول: أما قلت لكم؟!

وكي تنال الضحية حالة التعاطف الانتقائي، الذي يتجلّى من بين كثير من الحالات، لابد لها بعض سمات الانتقائية كأن تكون في البداية مسلمة ومحجبة، فهذه سمة رئيسة من سمات الضحايا الأكثر تعاطفاً، إلى جانب ذلك فلا بد أن يكون المجرم من أقرب المقربين لها كالأب أو الأخ أو الزوج، وهنا نرى أن حالة التعاطف تزداد أكثر فأكثر إلا أن التوجيه الخفي لهذا التعاطف يكرس انتقائية التعاطف والتضامن.

ولعلنا نلاحظ أن كثيرًا من اللواتي قُتِلن على يد لصٍّ عابرٍ مثلاً، أو ربِّ العمل، أو على يد امرأة أخرى، لم تنل التعاطف الذي نراه في حالاتنا التي نشير إليها، والسبب أنها ليست من النوع الذي يستهوي هذا الجمهور.

إضافة إلى ما سبق فإن عمر الضحية له دور كبير في تأجيج المشاعر وجلب أكبر عدد من المتعاطفين، لا سيما المتزوجة، فالتي تتعرض للظلم وهي متزوجة وصغيرة السنّ، فضلاً عن كونها محجّبة، فإنها تلقى ذروة التعاطف الجماهيري.

وذلك لأن الجمهور اليوم مولعٌ بإثبات أن هذا الصنف من النساء دائماً مظلومٌ ومضطهدٌ، وأنَّه من العار على المرأة اليوم أن تضمّ ثلاثية الحجاب والزواج وصغر العمر، ولا بد للبيئة أن تلعب دوراً أيضاً في انتقاء الضحايا الحائزات على التعاطف، فالبيئات المسلمة تعتبر بيئات خصبة للتضامن والتعاطف، ففي هذه البيئات: العادات والتقاليد، والتدين التقليدي، والأسرة المنغلقة، والتربية التقليدية، والأم ربة المنزل، فضلاً عن ترديد تهمة ثنائية (الإسلام والتخلف) فكلها تعتبر محفزات للجمهور كي يتعاطف ويدلي بدلوه.

صورة تعبر عن التعاطف الانتقائي

طبعاً لن ينتظر الجمهور أيّة حيثيات للقضيّة قبل الحديث عنها، فالجمهور المؤدلج لديه مسلّماته المسبقة، وهو ينتظر بشغف وعلى أحرّ من الجمر، وقوع الضحيّة ليتسلّق منبره ويشحذ قلمه ويفتح فيسبوكه، ثم يكتب عن العادات والتقاليد والموروث والتدين السطحي ودور الدعاة والفهم الخاطئ للدين والتربية التقليدية..إلخ. قبل أن يعرج قليلاً على الهامش للحديث عن الضحية صاحبة الشأن..!

ومن المهم أن نذكر أن التعاطف مع حالات القتل على يد الزوج انتقائية، فلابد أن يكون للضحية مواصفات لتلقى التعاطف كصغر السن وسمات الالتزام كالحجاب، والعيش في بيئة متدينة إلخ، بينما المرأة التي تضطهد في بيئات أخرى، فإنها خارج هذا التصنيف، فهي في أحسن أحوالها، رقمٌ في إحصائية عن عدد المعنّفات، وبالتأكيد فإن جمهور التعاطف الانتقائي بمجمله لا يعرف اسم بعضٍ منهنّ، بينما يحفظ أسماء المعنّفات المحليّات واحدةً واحدة.

انتقائية المعنِّف

أما المعنِّف أو الظالِم نفسه، فالمثير فيه للجماهير، انتقائية لم تعد تخفى على أحد، فأشهر عنف يجذب إليه الجمهور كالنار التي تجذب الفراش هو عنف الزوج، فكل الشرور في العالم في عقلية المرأة الحديثة محصورة في الرجلين الأولين في حياة المرأة، أي الأب والزوج.

فإن وقعت امرأة ما ضحية عنف زوجي، فإن المقالات “المعدّة مسبقاً”، والأفكار “المتأهّبة”، والأقلام “المشحوذة”، تبادر للتنديد والبكاء والنواح، على العالم الذي يضطهد فيه (الأزواج) نساءهم ويعنفونهنّ ويظلمونهن، وقد وصل الحال إلى ذروة العنف والظلم، بتجريم محاولة الرجل طلب الحلال من زوجته ووصمه في كثيرٍ من الأحيان بما بات يعرف بـ “الاغتصاب الزوجي”.

لقد بات روّاد التنظير لمحاولات التعاطف يحذرون من محض رأي الأب أو الزوج أو الأخوة باعتباره عنفًا، فهؤلاء لا يملك كل أحد سواهما أن يقترب من المرأة وأن يعاملها وينصحها ويشير عليها بنفس القدر الذي يملكونه..

ضحايا مروا بصمت!

بالمقابل فإن هنالك نوعيات أخرى مختلفة، من ضحايا العنف والظلم والاضطهاد، لا يكاد تلتفت لهنّ امرأة، أو يأبه لهنّ رجل، أو لا تكاد تُشحَذ لأجلهن الأقلام، أو يكتب عنهنّ أحد، وأولى أولئك النسوة هنّ اللائي تعتقلن وتقتلن على أيدي الطغاة والظلمة، ويغتصبن في سجونهم، فالتعاطف معهن –في أعلى حدوده- محدود وضحل ونادر، وإن جاء بوتيرة عالية فإنه يأتي محكومًا بردّ فعل أيديولوجي أو في سياق معيّن، كأن تكون المعتقلة التي أُفرج عنها قد تبرَّأ منها زوجها، أو تخلَّى عنها أبوها أو تنكّرت لها أسرتها، أما الاعتقال بحد ذاته أو جريمة الاغتصاب والتعذيب، فلم يعد ظاهرة تلقى هذا الاهتمام.

وثمة صنف آخر لا يلقى التعاطف، ولا يشفع له الظلم بدخول عالم (الترند)، وهنّ اللواتي يُسلمن فيتعرضن لاضطهاد الكنيسة، ويمارس عليهنّ الاختطاف والتعذيب، ثم الإجبار على ترك الإسلام، بينما لو وقع مثل هذا الفعل من المسلمين فإن التعاطف سيتصاعد ويدوّي كدويّ هيروشيما فتحوّل فتاة إلى النصرانية أو الإلحاد أجذب للتعاطف من تحوّل فتاة إلى الإسلام وإن جرى تعذيبها لتعود إلى دينها السابق.

ولا حاجة في الأصل أن تتعرض الفتاة للضغوط لتعود إلى دين الله تعالى، بل يكفي أن تتعرض لضغوط من أهلها أو من حولها بالالتزام بنوعية ملابس أو حجاب ما، لتصبح “ضحية” تتجمع حولها النائحات وكأنهن الثكالى، وليبدأ موسم اللطم على ظلم تلك المسكينة التي لم يسمح لها أهلها أن يلامس الهواء شعرها.

راقبوا حملات التعاطف، أترونها تركز على نساء بورما أو ميانمار أو الأويغور أم أنهن محرومات من أفضال جوقة التعاطف، أم أنّ هذه الجوقة مشغولة بالعويل على نساء أفغانستان فقط! فبيت القصيد لا المرأة ذاتها، ولا الحجاب المفروض عليها، ولا التعليم الذي مُنعت عنه، وإلا فإن تلك الجوقة حين ترى أفغانستان فإنها أولى بأن تصل إلى مسامعها صرخات المسلمات في بورما وهنّ يُحرقن، أم أن قتل المسلمات هناك يجعلهن خارج المعايير والمواصفات التي تقتضي التعاطف؟

إننا لا نعرف شكل المرأة البورمية أصلاً، ونتوه عن مكانها على الخارطة، بينما نحفظ شكل برقع نساء أفغانستان بوضوح، فنحن مشغولون دائماً هناك.

ومن تلك الانتقائية الصارخة في التعاطف، ما تناله امرأتان لهنّ نفس الظروف، ونفس الظلم، ومن نفس الظالم، ولكن إحداهنّ متحجبة، ذات حجاب محتشم، ومن بيئة متدينة، والأخرى غير محجبة، فإن التعاطف هنا يكون مقلوباً، والانتقائية تكون صارخة، حيث تصبح غير المحجبة هنا هي الترند، والمحجبة يتم تجاهلها بالمطلق، وإن ذكرنا أمام اسم عهد التميمي –على سبيل المثال- اسم مئة أسيرة فلسطينية من الحرائر المقاومات، فإن أحداً من مؤدلجي الجمهور الانتقائي –على الأغلب- لن يتذكر اسم معتقلة واحدة منهنّ!

ولا عجب، فالكل مشغول بهيستيريا تعاطف الترند، فالشهرة هي داعي التعاطف، لا الاعتقال أو الاحتلال أصلاً.

هَوَس الشهرة الليبرالية

لعلها الهيستيريا الناجمة عن التفاعل -أو الترند- وملاحقة الحالات المشتهرة التي يجعلها الجمهور كذلك -فهو صانع الترند- وهو من يتجاهل التفاعل مع الأخريات فيحرمهنّ من الحديث عنهنّ.

هنالك أيديولوجيا ليبرالية تحكم أفكارنا، وترسم سيناريو توجهاتنا، وتقولب ضمائرنا، ولذلك ننصاع لذلك التوجه الذي ينتقي الضحايا انتقاءً، قبل أن يضعها ضمن الإطار الذي يوجه الناس نحوه، فقد رسّخت الليبرالية الحديثة في عقولنا أفكاراً محدَّدة وممنهجة، وجعلها نمط حياتنا، بل ونمط عواطفنا كحزننا وتأثرنا النفسي، فنحن حين نبكي، نبكي للضحايا بعينها وليس لكونها ضحية، ونتأثر حد الهلع على ضحية ذات نمط معين، ونفوسنا نفسها تتجاوز أختها، فلا تعبأ بها، ولا يتحرك لأجلها أي شعور!

هل هي حالة الكذب والنفاق في التعاطف الأول؟ أم هو العداء المسبق والموجّه تجاه التعاطف الثاني؟

في الختام، أسرد لكم ما شهدته عيناي يوم كتابة هذا المقال، وهو مما لم ينل تفاعلاً أو تعاطفًا، رأيت منذ لحظات مشهداً تقشعر له الأبدان، فتاة نزلت من السيارة، تحمل كيساً أسود، ثم رمته في الحاوية ومضت…  لقد كان ذلك نهاراً، إلا أن الكاميرا وثّقت ليلاً مدى فظاعة إجرام الإنسان وقلة وجدانه حين يريد، فعند تلك الحاوية، وقف جامعو القمامة يستخرجون الأكياس، فعثروا على ذلك الكيس الأسود، فإذا فيه رضيع يبكي، وقد كان ما يزال حياً يرزق!

لم يضجّ العالم بهذا الخبر، ولم يطالب أحد بحقّ الجنين، ولا القصاص من القاتلة، فالقاتلة مجرد فتاة أجنبية في الثامنة عشرة من عمرها، ترمي رضيعاً لعلها لا تعرف أباه أصلاً، ولم يسأل أحد من الأسرة ولا من الحي، ولا من ذوي العادات والتقاليد الذين فاتتهم حفلة المباركة، عن الطفل، أين هو، ولم هو غائب؟ ولولا الكاميرات، لما علم بالحادثة والطفل أحد.

لعل عالم هذه الفتاة الليبرالي يدعوها لأن تتخلص –ربما بهذه الطريقة أو بغيرها- مما يريدنا الجمهور أن نتخلّص منه، وهو الأسرة والأهل والمجتمع والعادات والتقاليد، وقبلها الضمير والوازع الأخلاقي والديني.

لم يضجّ مجتمعنا بهذه الجريمة، ولم تشحذ الأقلام عن الموءودة، فالموءودة في عرف مسلمي الحداثة لا تنطبق عليها مواصفات هذا الرضيع.

فهل حرمتنا الليبرالية مشاعرنا ودموعنا وتعاطفنا، كما شكّلت لنا نمط ملابسنا، وتسريحة شعرنا، ووسائل تواصلنا؟

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد