الوهم وصناعة الألم

يظن بعض الناس أن الأوهام شيء غير موجود، وأنه لا تأثير لها على حياتنا، إلا أن الأوهام موجودة في واقع الأمر، لا في العالم الخارجي، ولكن في أذهاننا، ولا نبالغ إذا قلنا: إن تأثيرها -عند كثير من الناس- قد يفوق تأثير الواقع الملموس والحقائق الموجودة يقينا في العالم الخارجي.

عندما نتأمل تفاصيل حياتنا، ونقرأ سير العظماء والمؤثرين، ندرك كم للأوهام من أثر في حياة الإنسان، إذ إنا قد لا نجد إنسانا إلا وقد عاش أوهاما في فترة من حياته، أو حتى القسم الأكبر من حياته، دفعته أحيانا إلى سوء الظن بأقرب الناس إليه، أو تسببت له بخصومات وآلام أرهقت فكره وروحه، أو جعلته يجري خلف سراب الأحلام الوردية والطموحات المثالية، التي لم يكن يمتلك مقومات الوصول إليها، أو صوّرت له حياته قصة أسطورية، وأوحت له بأنه بطلها المطلق، وأن العالم يدور في فلكه و أنه خُلق من أجله، وثمة قصصٌ كثيرةٌ، من الشرق ومن الغرب، لا مجال لسردها هنا، شاهدة على أشخاص يصابون بالجنون من أجل أن يعيشوا أوهامهم.

الغاية من هذا المقال

الموفق من اكتشف سراب الأوهام الثاوية في أعماقه، وقطعها بسيف الحقائق قبل فوات الأوان. والمسكين من مات وما زال الوهم مسيطرا على عقله وساكنا في قلبه، ولم يسعَ بجدٍ سعيا تنجلي به الحقائق.

هذه المقالة لا تهدف لتقديم حلول جذرية لهذه المعضلة، لأن ذلك محال، ولا تجيزه الطبيعة الإنسانية، لكن هي دعوة إلى إعادة التفكر في ذواتنا، والتأمل في دوافعنا، ومراجعة أنفسنا. وقد رأيت أن ألقي الضوء على خمسة أوهام اخترتها من أكثر من خمسين وهما لاحظتها تعمل عملها في دنيا الناس، وتشكل البشر والأحداث والعالم من حولنا، وإليك إياها باختصار.

 وهم الراحة

عصرنا هذا هو عصر السهولة، ويقولون أيضا هو عصر السرعة، وعصر السيولة، وعصر جيل رقائق الثلج، وجيل الورق، وغير ذلك. هذه مقولات صارت تجري على كل لسان، ونرجح أن يوافق عليها معظم الناس، إذ إنا صرنا نلاحظ تكاثر مطالب التسهيل والتخفيف في كل شيء في الحياة المعاصرة.

طلبة العلم عزفوا منذ زمن عن قراءة الكتب التراثية استثقالا للغتها العالية، ثم صاروا بعد ذلك يشتكون من طول الكتب المعاصرة، ثم صرنا نسمعهم يلحّون في طلب الملخصات والمختصرات، واقتصروا عليها في المذاكرة وتحصيل الشهادات، وحتى المقالات العلمية لم يعودوا يصبرون على قراءتها، وكذلك الأبحاث والدراسات حتى لو كانت قصيرة.

وأما عامة الناس في عصر المعلومات والخوارزميات فقد ملّوا كل مكتوب، ويمّموا وجوههم نحو المرئيات والمصوّرات لما في الصورة من حيوية وبهجة، لكنهم سرعان ما بدأوا يتبرمون بالمقاطع الطويلة، فشرعوا إلى مطالبة صناع المحتوى بالاختصار، وألحّوا عليهم بألا تتجاوز مقاطعهم العشر دقائق، وهؤلاء هم أصحاب الهمة العالية، أما غيرهم فقد جعل الحد الأقصى في مقاطع الخمس دقائق، والباقي وجد كفايته في مقاطع الدقيقة والدقيقتين.

وهكذا الحال في سائر المجالات: فهذا الذي يجري وراء الثراء السريع، وذاك الذي يريد أن يتعلم لغة جديدة في ثلاثة أيام، وآخر يريد أن يتجاوز سنوات الدراسة الجامعية وما فيها من جهد وعناء، فيقرر البدء بمشروعه الخاص سيرا على خطى الأغنياء من المشاهير من أمثال ماسْك وغيتس وجوبز وغيرهم.

لقد توهمنا أن المجد يُنال بالراحة، وأنه يمكن صعود الجبال بالرقود في ظلال الأشجار. ولقد توهمنا أن المشقة والتعب يمكن تفاديهما بذكاء، إذا عثرنا على الطريقة السحرية التي غابت عن القدماء.

ولعلك تسأل: ما هو المطلوب؟ هل تريدنا أن نسعى إلى المشقة بأرجلنا، ونطلب العناء بأنفسنا؟

إنا لا نقول إن المشقة مما ينبغي أن يُسعى إليها، لكنها مفسدة ملازمة لكل مصلحة، وخسارة متلبسة بكل فائدة، وكلفة مجبولة بكل واجب، وألم معجون بكل لذة.

بل إن المشقة لا بد حاضرة في كل سعي دنيوي وأخروي {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، حتى النشوة الإيمانية لا يذوقها إلا من يكابد الزهد والترك، والقرآن لا يذوق حلاوته إلا من عانى في مسالك الطلب وكابد مشقة العمل.

فليس هناك مكاسب سريعة تدوم، ولا مكاسب كبرى -سواء دنيوية أو أخروية- لا تتطلب أن تتصبب في طلبها عرقا أو تنزف دما، وما سوى ذلك أوهام لا يشعر بها المرء إلا عند الانكسار والفشل، أو بعد الرحيل.

وهم التقدير

كثرت الشكاوى في أيامنا هذه من التجاهل وقلة الاهتمام، فالأبناء يشكون انشغال الآباء، وهؤلاء يتألّمون من انصراف الأبناء، وأصحاب المعروف الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الناس يحزنهم قلة العرفان واستنكار الجهود، والأصحاب يتحسرون على انقضاء أيام الألفة والأخوة، ويشكون الانقطاع والجفوة، والمصلحون الذين ذابت أيامهم وهم يسعون إلى ردم التصدعات وفض النزاعات، يشكون النسيان ويتطلعون إلى من يجبر خواطرهم ويؤنسهم وحدتهم، والعلماء والمفكرون الذين أناروا الدنيا وملأوها علما وأدبا، يشكون التجاهل، وأحيانا التعتيم والإقصاء.

ونحن لا ننكر أن التقدير حاجة إنسانية، وأن التشجيع يضاعف طاقة الإنسان ويشعل حماسته في سعيه لبلوغ غاياته، ولا نتهم من ينتظر التقدير بالنفاق وضعف الإخلاص، بل نتفهم أن الطبيعة الإنسانية تفرح بالتقدير على الجهود والتضحيات التي تقدمها، وعلى الإبداع الذي يميزها. وعليه فليس وهمًا أن ننتظر التقدير على ما نقدّم، وليس وهمًا أن يكون له وقع جميل في أنفسنا، لكن الوهم الحقيقي أن يتوهم الناس أن التقدير هو ثواب أعمالنا، والمكافأة الكبرى على جهودنا ومعاناتنا، فصار غايتنا ومبتغانا، وتركنا العمل والسعي إن علمنا أنه غير متحقق؛ وقد توهمنا أيضا أن التقدير لا بد أن يكون على قدر الجهد، وعلى كل جهد، ومن كل أحد.

إن توقع تحصيل التقدير والاحترام على قدر الجهد لا يتفق -يا للأسف- مع التجربة الإنسانية الطويلة المستفادة من كثير من المجتمعات ومن مختلف المجالات. فمن يدخل مثلا ميدان الفكر والإصلاح، يجب أن يعدّ نفسه للأذى والتجاهل والتطاول والإنكار، إن لم نقل التآمر ومحاولات التصفية، والنماذج المحزنة أكثر من أن تعد، ولعل ذلك يكون تكفيرا له عن أي تقصير أو خلل طرأ على مسيرته.

وأفضل ما يفعله الإنسان ليضعف أثر النكران وكفران الجميل أن يستعين بدواء الإخلاص لله تعالى {لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]، ففيه شفاء من كل أذى يصيبه أو إساءة تحيق به، وأن يتذكر أنه مهما علا شأنه فلن يبلغ مقام الأنبياء والمرسلين. ونحن نعرف أن منهم من يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، ومنهم ليس معه أحد. وهؤلاء أقوام أعماهم الغرور والجهل، فما عرفوا حق قدر رسل الله عز وجل، وما أنزلوهم منزلتهم. فلنا في تلك الرسل في معاناتهم مع أقوامهم والأذى الذي أصابهم سلوى وعبرة، وعلى الناظر أن يستحضر أن ليس بيد المسلم وعدٌ من المولى عز وجل بأنه سيأخذ جزاءه في الدنيا كاملا، وينبغي أن يعلم أيضا أن كل إعراض وتجاهل يزيد من أجره، فهو يدخر الكنوز لعباده الصابرين، فعلى ماذا الحزن والحسرة؟!

ومن الأدوية النافعة أن يتواضع الإنسان، فلا يرى لنفسه على غيره فضلا، فإذا هو أعان ضعيفا أو سعى في حاجة فقير، فالفضل لله وحده، فهو اختاره وسخّره وأعانه، فلا يحسب نفسه شيئا بين الناس. وعند ذلك لا يعود يلحظ أن فلانًا من الناس قصر في حقه، أو أن آخر لم يعرف قدره، أو يرد جميلا أسداه إليه يوما.. إلخ. ولا يرى آنئذٍ أن له عند غيره حقا، ويصبح همّه أن يلقي بذار الخير في كل مكان ويمضي، ولا يقف ليلتفت إلى المدّاحين أو الساخطين.

ومن الأدوية النافعة أن يعذر الناس، فكثير من الناس مشغولون بالسعي على أرزاقهم، وآخرون عندهم من الرزايا والهموم ما يشغلهم عن الأحياء والأموات، وعن الدنيا وما فيها، وجديرٌ به أن يعلم أن التقدير حصيلة الذائقة السليمة، أو الإخلاص والوفاء، أو الفطنة والذكاء، أو سلامة الصدر والنقاء، وقليل من خلق الله من تجتمع عنده هذه الصفات جميعا أو بعض منها.

وليس آخر ما يجب أم يتفحصه هو أن يراجع نفسه، فلعل المشكلة فيه، ولعله قد سيطر عليه وهمٌ آخرٌ أفضى إلى وهم التقدير، ألا وهو وهم الأفضلية. فما هو ذاك؟

وهم الأفضلية

أنا خير منه.. إنها مقولة إبليس، وأول معصية في قصة الإنسان، وقد تمخضت من الكبر والغرور. وغريبٌ حقا أن يتلقّفها الإنسان من عدوه، ويظل يردّدها في وجه أخيه الإنسان في كل وقت وحين، وكل ابن آدم من تراب. يقول: أنا خير منه، عرقي خير من عرقه، قومي خير من قومه، عشيرتي خير من عشيرته، نسبي خير من نسبه، بلدي خير من بلده، لغتي خير من لغته، طعامي خير من طعامه.. إلخ.

لا تقف المسألة عند أقوال، بل كثيرًا ما تتحول إلى كراهية وقطيعة وسلب للحقوق واقتتال وحروب واعتداءات وانتهاكٌ للأعراض وإزهاقٌ للأرواح، وأحيانا قد يصل الأمر إلى التطهير عرقي والإبادات جماعية.

محزنٌ جدًا أن كل ذلك لا يُبنى على أي دليل أو منطق مفهوم، وليس هناك إلا شبهة واحدة هي: أنا، وأنا خير من غيري.

ما أعجب اعتزاز المرء بقناعاته، وما أشد جلده وعناده في الدفاع عن أفكاره، وإن كان لم يجربها بنفسه ولم يختبرها. كل ما في الأمر أنها قناعاته وتصوراته هو، جزء من الأنا، فكيف يغيّرها، أو يقبل أن يشكك بها أحد؟! ولذا لا يحيد الإنسان في الغالب عن رأيه، وإن كان لا يقرأ، أو يشك، أو يتأمل، أو يبحث، أو يراجع نفسه..

لقد توهّمنا فظننا أنفسنا شيئاً متفرداً لا نظير له في الوجود، وغمرتنا مشاعر الريادة، وأحقية الرياسة، وصرنا ننتظر الحفاوة والتبجيل والثناء من الناس، فإذا لم نحصّلها، اجتاحتنا مشاعر الخيبة والألم وسوء الظن بهم.

وهمُ الأفضلية أو الأهمية يجعل الإنسان يعيش في برج عاجي، ويدفع الناس إلى النفور منه، فتنهار علاقاته، ولا يبلغ رسالته، ولا يقضي مصلحته، ولا يتعلم من غيره، لأنه يظن أنه أفضل منهم، وعنده كل ما عندهم. والحقيقة الواضحة كما علّمنا الإسلام أن الأفضلية لا تكون إلا في الأعمال، كما ورد في الأثر عن رسول الله ﷺ (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) [أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وأبو نعيم في حلية الأولياء]، فالفضل في نتيجة العمل لا في الأصل أو العرق أو سوى ذلك.

 وهم الإقناع

إذا كنت تظن أنه بمجرد تمكنك من إظهار الحقيقة واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء مدعّمة بالأدلة القاطعة والحقائق الساطعة، أنك بهذا قد كسبت معركة الإقناع، وألزمت الخصوم بالحجة، وأديت كل ما عليك، فهو حديث الوهم، إذ إن قوة الحجة ومهارة الإقناع لا تدفع الناس دائما إلى اتباع الحق وسلوك سبيل الرشاد، لأن الإنسان ليس عقلا فقط، بل روح ومشاعر وعواطف وذوق ومصالح أيضا، وغير ذلك، وهي أمور لا يمكن تجاهلها في معركة الإقناع. ومن هنا يتبين لك أيها الداعية الذي تطمح إلى أن تُفتح العقول لرسالاتك وإرشاداتك كم أنت بحاجة لدماثة الخلق وحلاوة اللسان ورحابة الصدر وإعذار الناس وتشجيع النجباء، وذات الشيء يقال للمفكر والمربي والسياسي وغيرهم.

كما أن هناك طائفة من البشر لا تشغلها الحقيقة التي تبشر بها، ولا يعجبها الخير الذي تعمل على نشره بين الناس، بل هؤلاء قد أعمتهم شهواتهم، وحرصهم على إشباع غرائزهم، ولو كان ظلم الناس والاعتداء على حقوقهم ثمنا لذلك. فهؤلاء لهم آذان لا يسمعون بها، وقلوب لا يفقهون بها، وأعين لا يبصرون بها. وإن مِن هؤلاء مَن حين يرى العذاب يوم القيامة، يتمنى العودة إلى الدنيا، ولكنه لو عاد، لعاد إلى ما كان عليه من قبل.

 وهم دوام النعم

وليس كل من اقتنع بشيء عمل به، ولا كل من عرف اغترف. كل واحد منا يعلم يقينا أنه راحل عن هذه الدنيا، وأن أيامه معدودة، لكنه يتناسى ذلك، ويتملكه الوهم القاتل أنه سيغادر عندما يكون قد أتم استعداداته واتخذ إجراءاته الاحترازية. إن الساعات التي نقطعها ونحن أحياء على الأرض أجلُّ نعمة يرزقها الإنسان، لكنا توهمنا أن النعم تدوم، وأنها لا تغادرنا إلا بإذن منا، فانشغلنا بالتلذذ بها، وصرفنا العمر سعيا إلى حيازتها، وتضخمت أوهامنا في سبيل ابتكار الوسائل الموصلة إلى ذلك، واستقللنا ما أعطينا من نِعم، وغفلنا عما كُفينا من رزايا ومِحن، (ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب) [أخرجه مسلم في الصحيح]

والمطلوب أن ينظر الإنسان في كتاب الله المسطور، ويجيل النظر في كتابه المنظور، فيعرف ثم يشكر. وإذا ارتقى في درجات العلم، انكشفت حقائقٌ، وزالت أوهام، وتسللت إلى نفسه الخشية، واكتسى باليقين ورزق الحكمة والبصيرة، وعمل بما هو واقع، ولما سيقع، ولم يتعلق بالأوهام والخيالات الزائفة.. عند ذلك تتوقف مكونات نفوسنا عن صناعة الألم.

شارك المقال