الوسائل الرقمية بين صناعة المحتوى وصناعة الفرجة
“أهل مكة أدرى بشعابها” مقولة عربية درج العرب على التلفظ بها عند الاستسلام للأمر الواقع أمامهم، وفي المثل المغربي هناك مقولة شعبية قريبة من الدلالة الأولى “سول المجرب لا تسول الطبيب”، هذه المقولات وغيرها كلها تصب في نبع واحد يخدمنا في الإجابة على عدة أسئلة.
كيف تأثرت البيوت المسلمة بالوسائل الرقمية؟ ما الفرق بين صناعة المحتوى وصناعة الفرجة؟ كيف يتفادى المرء المحتوى السام؟
كيف تأثرت البيوت المسلمة بالوسائل الرقمية؟
في الآونة الأخيرة شهدت معظم البيوت العربية “تقريبًا” طفرة رهيبة في مجال الأجهزة الإلكترونية، حيث أصبح البيت ذو الدخل المتوسط والمحدود، يتوفر على عدد من الأجهزة الذكية، كالتلفاز، والهاتف الذكي، والآي باد، والتابلت، إلخ… الشيء الذي سرّع من غزو البيوت بالمحتوى الذي توفره هذه الأجهزة الإلكترونية على منصاتها الرقمية -كالفيسبوك، واليوتيوب، وتيك توك-.
انتشرت ولا زالت تنتشر هذه المحتويات بين البيوت المسلمة بأفرادها كانتشار النار في الهشيم، حتى أصبحت الأم تترك واجباتها ووظائفها نحو أبنائها وزوجها من أجل مشاهدة مقطع مصوّر لأشخاص لا يقدّمون إضافة تذكر غير عرض مقاسات أجساد زوجاتهم، حتى أصبح الابن يقول لوالديه (لا) بغية إتمام مشاهدة فيلم قصير أنتجه مجموعة من القاصرين.
هناك بعض الأطفال الذين تدهورت حالتهم الصحية بسبب طول جلوسهم أمام التلفاز، منهم من يعاني من صعوبة في النطق بسبب عزلهم وعدم الاهتمام بهم وإسكاتهم بالتلفاز أو الهاتف الشيء الذي تسبّب في تأخر نمو وظائفهم الحسية.
بعض قنوات “يوتيوب” التي تحمل أفكارا نسوية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ساهمت في نشر الفكر النسوي بين النساء، حتى أصبحت الأم تحتج وتتمرد، تريد أن تمتلك السلطة العليا على أفراد البيت.
ساهمت هذه القنوات في نشر الفكر المادي حتى أصبح عوام الناس لا يفرقون بين الحياة الواقعية وبين الحياة التي يعيشها أصحاب هذه القنوات، أو بعبارة أصح يحاولون التظاهر بعيش حياة مثل تلك التي تصوَّر لهم؛ مما شكّل نوعًا من عدم الرضا بالوضع المادي في البيوت.
كل هذا جعل هؤلاء المتابعين يفعلون أي شيء -التخلي على الأخلاق والقيم- في سبيل الحصول على تلك الحياة المادية المزيفة التي يروج لها أصحاب القنوات.
ظهور جنس من الرجال يتاجر في المرأة ويعرضها للآخرين من أجل جلب أكبر عدد من المشاهدات، هؤلاء غالبا ما يستترون وراء قنوات “الروتين اليومي” على اعتبار أن المحتوى يمثل روتين أسرة صغيرة تعيش حياة بسيطة مع بعضها البعض، لكن إن أمعن الانسان النظر فسيجدها عكس ذلك.
من هم المؤثرون في المنصات الرقمية؟
يمكن إعطاء تعريف شامل لهذا المفهوم الرائج من خلال القول بأن المؤثر هو كل شخص يمتلك مجموعة من الوسائل تجعله بطريقة أو بأخرى قريب من الرأي العام وقادر على التأثير من خلال تدوينة أو مقطع فيديو على صفحته الخاصة، ولا يمكن إطلاق تسمية المؤثر في هذه الحالة على الشخص ذي المصداقية العلمية أو مدى تمكنه من المادة العلمية التي يقدمها، بل يتم إطلاق التسمية انطلاقا من عدد المشاهدين، بحيث كلما زاد عدد المتابعين له صحّ نعته أو تلقيبه بالشخص المؤثر.
يرى أحد -المؤثرين العرب- أن المؤثر هو الذي يؤثر في طريقة كلام المتابع وفي شكل حلاقته وفي طريقة لباسه وفي تفكيره، بمعنى أن التأثير هو أن ينظر المتابع إلى شيء أعجبه في الشخص الذي يتابعه فيقلده لأنه يتمنى أن يكون مثله، أو أن يرى شيء في شخصية المؤثر توجد في شخصيته هو ما يجعله يحافظ عليها ويتباهى بها كونه يشترك معه فيها.
إن قول ما هو حقيقي وهادف وطرح الأفكار النافعة على المنصات الرقمية لا يقدم إضافة ولا يأتي بالمشاهدات، مما ينقص من المدخول الشهري للمؤثرين على حد زعمهم، الشيء الذي يجعل تقديم ما يريد المشاهد أولوية لهم وإن كانوا يعرفون أن ما يقدمونه سام وغير نافع للذين يتابعونهم.
ما الفرق بين صناعة المحتوى وصناعة الفرجة؟
كونك صانع محتوى يعني أنك لا بد أن تمتلك محتوى معينًا تقدمه للمتابع، وتختلف الصناعة من شخص لآخر على حسب اهتمامات كل شخص وما نشئ عليه، ويقدم هذا المحتوى غالبا على منصات التواصل الاجتماعي -الفيسبوك، تيك توك، انستغرام- إما على شكل تدوينات أو على شكل مقاطع مصورة.
يمكن تعريف صناعة المحتوى: على أنها عبارة عن الشيء الذي يتم التعريف عنه من خلال مجموعة من الوسائط والأساليب المعبرة، فيتم ذلك إما من خلال الكلام أو من خلال الكتابة أو الصور أو من خلال الفنون المعبرة أو من خلال فيديوهات تعبر عن المحتوى بالشكل المناسب، فمن السهل على أي شخص كان أن يقوم بصناعة محتوى معين ولكن من الصعب أن يكون هذا المحتوى معبِّرًا ويعطي المعنى الحقيقي للهدف المطلوب[1].
في صناعة المحتوى قد يتم إنتاج محتوى هادف عند البعض وقد لا يكون كذلك على حسب ما تم تقديمه عند البعض الآخر، لكن في نهاية المطاف يكون البناء في صناعة المحتوى على مادة علمية بغض النظر عن صحتها من غلطها.
تتجلى صناعة المحتوى في العديد من المنصات الرقمية من بينها على سبيل المثال لا الحصر “القنوات التعليمية” التي تسعى إلى تقديم مادة معرفية معينة لمتابعيها “تعليم الإنجليزية، تعليم قيادة السيارات، تعليم التربية الأسرية.. إلخ”، قد تكون هذه المادة المقدمة كما قلنا غير صحيحة في بعض الأحيان لكن يبقى هدفها في الأخير تعليميًّا.
صناعة الفرجة
هناك شخصيات مشهورة لا يهمها انتاج أو تقديم محتوى جيد للمتابعين، بقدر ما تهمها صناعة الفرجة وبيعها للمشاهد.
لا يهم أن يكون المقطع الذي أضعه بين يديك هادفا، المهم أن تستمتع بالفرجة ومقابل هذه المتعة التي حصلت عليها أتلقى الأجر الشهري من المنصة التي أضع فيها المقطع المصور، لا يهم إن استفدت في الأخير، ولا يهمني تقديم الفائدة لك أو حصولها، المهم حصولي على الأجر عند نهاية المقطع، سواء استدعى ذلك مني خلع الملابس أو جلب فتاة وتصوير مشاهد غير أخلاقية، أو تبادل السب والشتم مع شخص آخر يصنع الفرجة هو كذلك. هكذا يمكن لنا أن نعبر عن مفهوم صناعة الفرجة بشكل أدق.
لماذا اشتُهِرت صناعة الفرجة؟
هذا الصنف من المقاطع أو التدوينات، لا يحتاج إلى جهد كبير ولا إلى سعة اطلاع في المجال الذي تشتغل به، لا يحتاج إلى قراءة كتب من أجل التعبير عن قضية معينة، ولا يحتاج إلى تعلم مهارة من أجل نقلها إلى شخص آخر، ولا يهتم بالمستوى العلمي للشخص، يكفي أن يمتلك الجرأة ويستغني عن القيم والأخلاق من أجل صناعة الفرجة، أشياء بسيطة تجعله يتصدر المشهد العام بسرعة فيما يسمى “البوز” ذلك أن الغالبية العظمى التي تتصدره في عصر طغيان التفاهة لا تمتلك أي شيء غير أنها تبيع الفرجة للذي يشاهدها.
صناعة الفرجة تؤدي لزيادة عدد المتابعين بشكل أسرع بالتالي الحصول على فرجة أكبر مما يسجل نسبة بيع أكثر من غيرها، نلاحظ بذلك أن كل شيء قائم على الدرهم والدينار عند هؤلاء، قال رسول الله ﷺ : (تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط). [أخرجه البخاري]
كيف يتفادى المرء المحتوى السام؟
يقول البشير عصام المراكشي في إحدى تدويناته: ليس المطلوب منك أن تسميها “تفاهة”، وأن تشاهدها ثم تعلق عليها بالاستهزاء والتحقير والإنكار؛ ولكن المطلوب منك شيء واحد فقط: ألّا تشاهدها مُطلَقًا! الأمر سهل، ولكنك لا تفعله.. فهنيئا لأهل التفاهة بك، فإن متابعتك إياهم تنفعهم، وأما تعليقاتك عليهم فلا تضرهم. فمتى تفهم؟!
لا يمكن أن تتفادى هذا المحتوى التافه إلا إذا اشتغلت بما هو نافع، ولا يمكن إدراك قيمة هذا المحتوى إلا عندما تتجرع من مشاربه وتقف على مكنوناته.
معرفة خطورة المحتوى السام وكيف يؤثر على الفرد والمجتمع طريقة من طرق تفاديه وعدم الاشتغال به، فلا يقترب من النار من أصابه لهيبها.
مراقبة الأهل مراقبة جدية والاهتمام بهم وملء ذلك الفراغ الذي يجعلهم يولون وجوههم شطر المحتوى التافه من أجل سد الفراغ الروحي والنفسي.
الاهتمام بالجانب الروحي من بوابة القرآن الكريم وهذا يعد من أهم الطرق لتفادي كل ما هو تافه بحيث أن القرآن الكريم يجعل المقبل عليه انسان إيجابي يسعى لجلب المنفعة ودفع المفسدة.
عدم إعطاء ذلك الاهتمام الزائد بمواقع التواصل الاجتماعي لأنه فضاء مليء بالأشخاص التافهين، يقول الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو بقوله: “إنَّ أدوات وسائل التواصل الاجتماعي تمنح حقّ الكلام لجيوش من الحمقى، ممن كانوا يتكلَّمون في الحانات فقط بعد تناول كأسٍ من النبيذ، من دون أن يتسبَّبوا بأيِّ ضرر للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فوراً. أما الآن، فلهم الحقّ في الكلام، مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنَّه غزو البلهاء”[2].
وبالجملة فإن إعطاء تعريف للفرق بين صناعة المحتوى وصناعة الفرجة قد نختلف في بيانه، لكننا لا بد وأن نشترك في الأخير على أن المحتوى التافه سم قاتل ينخر جسد الأمة، وجب التعرض له ومحاربته تنظيرا وتطبيقا.
[1] https://www.alwefaak.com/blog تعريف صناعة المحتوى
[2] https://www.alqabas.com/article/4128-%D8%BA%D8%B2%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%84%D9%87%D8%A7%D8%A1 إقبال أحمد
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!