الهوة المتسعة.. هل من سبيل لتضييقها؟

image_print

أقرأ لبعض الأقلام المتسامية وأرى بصرها الممتد نحو السماء، المتطلعة إلى الأفق البعيد تريد أن تصله وتؤكد إمكانية قطعه رغم المسافات البعيدة والجبال الصخرية التي تعوق المسير لها، فبلوغ ما كان عليه الأجيال الأولى هي الغاية وغلق المنافذ الذي يتسرب من خلالها دخان التأويل والشك والقلق ونفاذ الطاقة هو الأصل والمطلوب.

ثم أنظر للجهة المقابلة فأسمع صخبًا وهرولة وقطعا للمسافات للوصول إلى عالم رمادي ليست تظلله سماء صافية ولا ينبع من تحته ماء زلال، هنالك حيث يكون المباح ما جربه الناس ووجدوه حسب أذواقهم ممكنا، نافعا أو مريحا لهم، والانتقال من منطقتنا الخصبة التي تنبح علينا فيها الذئاب لمنطقة توافق عليها الناس هو الأولى والأنفع، وهذان طريقان متغايران تكاد تراهما في كل باب من أبواب السير، خاصة تلك التي تغيرت كثيرًا وعلاها ركام الأحداث حتى طمس أصلها فما تكاد ترى وما يكاد يعرفها من أهل العصر إلا قليل..

حذار من ضياعِ الطريق

إنّ أبين مثال له، طريق الاتباع لما جاء به صاحب الرسالة وطريق من يؤول أو يعرض المتن على قلبه أو يجادل لسبب أو لآخر. وكذلك ما يخص المرأة من قضايا ما بين من يغلق عليها الباب فلا ترى ولا يسمع لها حسًا، وطريق من لم يعد يرى فرقا جوهريا بينها وبين صاحبها، مادامت أقدامها مغروسة مثله في واقع تساوت فيه الأعمال والتحديات المفروضة على كليهما.

لدينا طريق من يغلق عينيه على واقع -نشأت فيه أجيال متتابعة ولم تعرف غيره وترى الحديث عن غيره ضربًا من الخبال أو التشدد في غير محله- وطريق من لا ينظر خلفه، لا يتوقف حتى ليبحث إن كان في سيره سيصل إلى غاية أم أنه يسلك ما سلكه الآخرون ويمضي لأنه يريد ولأنه لا يرى بأسًا ولأن أبناء حضارة البنيان قد تواضعوا على ذلك..

هنا ينشطر القلب الذي يعرف أن له أصلا يرجع إليه ونورا يريد أن يستبقيه مضيئا، هنا تتنازعه المشاعر من هم وغيرة لأن صاحبه يريد ألا يخالف ما يظنه صوابا لكنه يشفق على المبتعدين أو الساخرين أو الجاهلين. يريدهم أن يعودوا معه، ليس لأنه وحده على حق، بل لأن هناك أمر يجمعهم مكتوب في السطور ومحفوظ في الصدور..

كيف نغلق الهوة المتسعة؟

نستطيع إن أردنا معًا أن نجعل منه عالمنا البرّاق، الذي تشرق في جوانبه المنارات يتبعها الحيارى المنهكين.. نستطيع لو أردنا أن ننسج معا ثوبًا يليق بنا، نزينه بما شئنا من هنا وهناك لكن خيوطه من هنا.. من أرضنا، من فقهنا وفهمنا وواقعنا الذي لا يشبه واقعهم.

ليس المؤلم أن الهوة في كل يوم تزداد حتى يكاد ينفصل العاَلَمَين، بل أن تضم صغارا كانوا بالأمس خضر القلوب لا يعرفون غير ما يقدم لهم، فماذا قدمنا لهم غير مزيد من الصرخات والأسى تدفعهم للحاق بمن سبقوا، من اختاروا الركض بعيدا عنا، مروا على المنتصف مرورا سريعًا ثم تجاوزوه إلى الضفة الأخرى بحماس يشعله الصخب المتسارع وطبول المتعة المؤقتة وفرح الإنجاز السريع.

ولا يعني وجود الهوة أنه لا جسر يصل بين الطريقين، فأهل الصدق والإخلاص ما زالوا ببنون الجسور يوما بعد يوم، لكن بعضها واه يتساقط في الفجوات ويضحك منه أولئك المغادرون..

فالمشكلة هنا إذن تلك الفجوة الكبيرة التي تحتاج لتضييقها جهودًا مضنية تتكاتف فيها الأيدي لتقيم على ضفتها بناء متكامل الأركان تشرق جوانبه بالنور الهادي، ينظر إليه البعيدون فيعجبون كيف تركوا مكانهم هناك، وكيف لم ينتبهوا إلى أنهم قد تجاوزوا وتعدّوا على حدود ليست لهم، فيقررون أنهم لابد عائدون كي يتدثروا بدفء النور ويلتحموا به.

قلبك قلبك!

إن أشرف ما في الإنسان قلبه، فإنه العالم بالله العامل له، الساعي إليه، المقرب المكاشف، بما عنده، وإنما الجوارح أتباع وخدام له يستخدمها القلب استخدام الملوك للعبيد إما في الخير أو الشر. ومن عرف قلبه عرف ربه، وإن أكثر الناس جاهلون بقلوبهم ونفوسهم، فمعرفة القلب وصفاته أصل الدين وأساس طريق السالكين.

المعلوم أن القلب بأصل فطرته قابل للهدى، وبما وضع فيه من الشهوة والهوى، مائل عن ذلك، والتطارد فيه بين جندي الملائكة والشياطين دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما، فيتمكن، ويستوطن، ويكون اجتياز الثاني اختلاساً، ولا يطرد جند الشياطين من القلب إلا ذكر الله تعالى، فإنه لا قرار له مع الذكر.

إن مثل القلب كمثل حصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن، ويملكه ويستولي عليه، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يعرف الحراسة أصلاً، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد، وهي كثيرة، إلا أننا نشير إلى الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد