النسوية: حريّة أم عبوديّة؟

image_print

تعجّ مواقع التواصل بأخبار الحركة النسوية وفعاليّاتها، بين مطالبة بتعديل قوانين، وإلغاء تشريعات، ورفض أحكام إلهية، في إطار ما يقال: إنه مطالبة بحقوق المرأة وتحريرها من الظلم الواقع على عاتقها.

لكن، قبل أن نشرعَ في تعريف هذه الحركة والإجابة على ما إذا كانت هذه الحركة تحريراً للمرأة فعلاً أم عبوديّة لها، ينبغي أن نعرفَ سياق تأسيس وتطور هذا التيار، بدءًا من نظر المرأة الغربيّة للنّصوص الدينية المحرّفة التي لديها، حيث يتقرّر عليها أن تصمت وتخضع لزوجها –فهي جزء من أملاكه- ولا يحقّ لها أن تتعلّم أو أن تخالفه.

لقد كان هذا الفكر متجذّرًا في السياق النصراني عمومًا وفي الغرب خصوصًا، باعتبار أن المرأة هي أصل الخطيئة، وأنها التي أغوت آدم وكانت سبباً للشقاء البشري، ونتيجة ذلك الربّ عاقبها بالحمل والولادة والتبعيّة للرجل؛ ومن هنا، انطلقت ثورة “تحرير المرأة الغربيّة” التي كان مردّها نظام وضعي لا يعترف بوجود الدّين، فبات الدّين خصماً لا مردّاً وحكماً.

مُخادَعَةُ النفس

معلوم أنّ أيّ نظام وضعي لا يحتكم إلى الدين، مصيره التّخبّط والضّياع والضلال. فالإنسان مهما بلغ من العلم، ومهما كانت مكانته وأصله ومكانه وخلفيّته، لا بدّ له أن يخضع لهواه، فيخطىء تارة ويصيب تارة. وعلينا أن نفقه مصطلحًا في غاية الأهميّة لما له من ارتباط بالحركة النسوية -سيُذكر لاحقاً- ألا وهو “مخادعات النّفس”.

يمكن أن نقول إن مخادعات النّفس مصطلح شرعي، وهو بصيغته العلمية قريب من “آليّات الدّفاع” التي تحدّث عنها فرويد ومن بعده ابنته آنا، وهي آليّات يقوم بها الإنسان للتخلّص من التوتر أو لتخفيض الشعور بالألم، فتُوهم الإنسان أن الأمور على ما يُرام.

حين يحتكم الإنسان لأهوائه فإنه يخادع نفسه في حقيقة الأمر، ويندرج تحت هذه المخادعات الكثير من المغالطات المنطقيّة -سأضع مقالاً عنها في نهاية المقال للاستزادة-، وما يهمّنا هنا أن نعرف أن أنظمة الإنسان الوضعيّة لا شكّ ستشوبها المخادعات والمصالح الشخصيّة فيُظلم البعض وتتحقق مصالح البعض الآخر في المقابل.

أما المنظومة الإلهيّة الذي يأتي بها الوحي، فهي منظومة ومرجعيّة ثابتة تراعي الجميع وتحفظ حقوق القويّ والضعيف، والغني والفقير، والذكر والأنثى.

النسوية وأبرز مبادئها

إن الثورة على ظلم المرأة والنص الديني الذي أنتج ذلك الظلم، سرعان ما تحوّلت إلى “حركة نسوية” لها فلسفتها ومبادئها، وهذه الحركة كما يُوحي اسمها ترمي إلى تحقيق مصالح النّساء في زعمهنّ.

إلا أنها قائمة على الندّيّة والخصام مع الذكور وتُطلق على المجتمعات التي لا تراعي حرية المرأة بأنها مجتمعات “ذكورية”. ولديها عدّة مطالب بلَبوس المبادئ، هي:

  1. الرجل لا يؤتمن أبداً (men are not to b trusted)، وبناءً على ذلك فإن المرأة ندٌّ له وتنافسه في كل شيء.
  2. على المرأة ألّا تضحّي من أجل أيّ شخص.
  3. رفض أيّ سلطة على المرأة، فالمرأة حرّة ومسؤولة عن نفسها، وتتضمّن هذه السلطة أي رجل سواء كان أباً أم زوجاً ام ابناً.
  4. مركزيّة الاستقلال المادّي للمرأة، فهو وسيلتها للخروج على الرجل وعدم الخضوع له.

وأحب أن ألفت هنا إلى ملاحظة جوهرية –استفدتها من قراءتي لفرويد بحكم تخصّصي-، حيث يمكن عدّ النسوية المعاصرة ثورةً على أفكار فرويد ونظريّاته، فأفكار النسوية ومنطلقاتها تناقض أقواله، ففرويد -مثلاً- يعتبر أن المرأة ناقصة، لعدم امتلاكها العضو الذكوري، وهنا ظهر لنا تياران داخل النسوية، -وقد شاهدتُ آثار هذين الحزبين أثناء دراستي وانخراطي في مجتمع الجامعة الأميركية- أما الحزب الأول فلا يتفق مع فرويد باعتبار المرأة ناقصة، ويرى أن المرأة قوية باعتبار مفاتنها، والرجل يخضع لفتنتها، حيث إن قوّتها بمفاتن جسمها وبما توقعه من إثارة للرجل من خلال ذلك.

هنا تصاعدَ داخل هذا التيار دعوة النّساء لارتداء الملابس الغريبة والمُثيرة للغرائز، وتسريح شعورهنّ وتلوينها بطريقة غريبة، بهدف قهر الرجل بالقوة التي بين أيديهن.

أما الحزب الثاني فيتّفق مع فرويد ويرى أن المرأة ناقصة بالفعل، لذلك ترى نساء هذا الحزب يرتدين لباساً فضفاضاً وقاتماً أقرب إلى لباس الرجل، وتراهنّ يقصصن شعرهنّ لتكون قريبة من تسريحة الرجل. إضافة إلى عدم اهتمامهنّ بنظافتهنّ الشخصية في كثير من الأحيان، ولذلك نرى بعض الشعارات التي تُرفع على مواقع التواصل مثل “no shaving November”، فيكنّ بذلك أقرب إلى جسم الرجل. ويبرّرن ذلك بأن المرأة ليس عليها أن تبذل جهداً لتكون جميلة، فهي لا تريد أن تكون وجهاً جميلاً، -سنأتي على هذا التناقض فيما بعد- والجدير بالذكر أن هذا التبرير والتناقض الذي يقعن فيه من مخادعات النفس التي تحدثنا عنها.

جسد المرأة .. حريّة شخصيّة أم قَيدٌ ثقيل؟

تعني الحرية الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق، وهي على مراتب ومنها مرتبة التحرّر من الشهوات، [التعريفات، الشريف الجرجاني]. ونظير ذلك، فإن الحرية هي “أفعال وأخلاق محمودة لا تستعبدها المطامع، والأغراض الدّنِيَّة، وألّا يجري على الإنسان سلطان المُكوَّنات”، [معجم مقاليد العلوم، الإمام السيوطي].

والحرية في الإسلام -بمعنى أشمل- تعني التحرر من سلطان كلّ شيء سوى الله، وألّا يكون الإنسان عبداً إلا لله، والرسول صلى الله عليه وسلّم إنّما أُرسِل لتحرير الناس من عبودية الخلق إلى عبودية الخالق وحده، وهذا مقتضى معنى توحيد الألوهية (لا إله إلا الله) وهي فرعٌ من الإيمان بالله تعالى. فالحرية الشخصية –اللانهائية بحسب مقاييس البشر- لا مكان لها في ديننا الإسلامي.

إنّ مبدأ “دع الخلق للخالق” مُستبدلٌ في شريعتنا بـ”ادعُ الخلق للخالق”، وهذا منوط بركيزة مهمّة في ديننا ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي لها أصول وضوابط بحثها علماء الإسلام في مؤلفات وموسوعات مطوّلة، -وليس هنا المقام للتفصيل في بحثها-.

تؤمن الفلسفة النسوية المعاصرة بأن جسد المرأة حرية شخصية، وأن لها حق التصرّف فيه كيفما شاءت، فهي وكيلة أمرها وتستطيع ارتداء ما شاءت من الثياب، سواء كانت مُحتشمة أم كانت شبه عارية، والعجيب ههنا أن اللباس المحتشم تُشنّ عليه –بشكل مستمر- الهجمات الإعلامية والسياسية، بحجة أنه رجعي –وربما- إرهابي، أما التعري فهو حرية!

ولكن، إذا كانت من حرية المرأة أن تلبس ما شاءت، إذاً، أليس من حرية الرجل أن يفعل ما يشاء؟

قد يُردّ على هذا أن المرأة لا تؤذي غيرها بلباسها، أما الرجل فيفعل، لكن هذا التفكير يكشف لنا جهل هؤلاء النّساء بالتكوين البيولوجي لجسم المرأة وجسم الرجل والذي له علاقة مباشرة بسلوكهما، وأقتبس هنا من المفكّر الكندي جوردان بيتيرسون: “إن النساء اللاتي يضعن مساحيق التجميل كأحمر الشّفاه على سبيل المثال لا الحصر والذي يصبغ ثغر المرأة باللون الأحمر، هم يضعنه لأنّ ثغرهنّ يتحوّل للحُمرة أثناء الإثارة الجنسية”.

نظير ذلك، بعض الدراسات التي أثبتت أنّ النّسوة اللاتي يردن علاقات –جنسية- عابرة، فإنهن يرتدين ملابساً فاضحة، وأكدت دراسات أخرى أن النسوة اللاتي يلسبن اللباس الجنسي يفعلن ذلك طلباً لإقامة العلاقات، وسأكتفي هنا بذكر آية واحدة تكشف لنا الكثير {وخُلِق الإنسان ضعيفاً} [النّساء: 28]. حيث فسّر البعض ضعف الإنسان في هذه الآية بأنه لا يصبر على فتنة النّساء.

هذه الطبيعة البشرية الجبليّة التي فطرها الله تعالى في الذكر تفسّر لنا انجذاب الذكر للأنثى الشديد رغم إنكار النساء لذلك واتهامه بـ”الشهوانية”، والعجب كل العجب كيف يُتهم الإنسان بشيء ليس له يد فيه، إلا أن ذلك لا يبرر له الاغتصاب وإقامة العلاقات المحرّمة، ولذلك ضبط الشرع هذه الشهوة بغض البصر سداً للذرائع ودرءاً لمقدّمات الزنا. وكذلك المرأة ضبط فطرتها المُحبّة للتزيّن بفرضية الحجاب، فالشرع لا يأتي موافقاً لأهوائنا، وإنما يُشرع الأحكام بما يحفظ حقوق الجميع ويحفظ المقاصد.

 

تناقض النسوية في الواقع

على الرّغم من زعم النّسويّات أنهن لا يكترثن بالمظهر ويطالبن أن يُعاملن مثل الرجال وأن يُخاطبن بعقلهن لا بجسدهن -وهذا ما يؤول إليه الحجاب-، إلا أنّهنّ يقعن في تناقض في الأقوال والأفعال ولا يصدُقْن مع أنفسهن.

فمثلاً، حين تخرج امرأة إلى العمل أو للتسكع، تراها لا تترك مكاناً إلا و تضع عليه مساحيق التجميل -التي تكلّف مبالغ مالية باهظة، وقد تدّخر بعض المال من مدخولها فقط لشراء هذه المساحيق-، ثمّ تراها تمكث ساعة وأكثر أمام المرآة للتبرج وانتقاء الثياب المناسبة والتي تليق بالشخص المراد مقابلته وبالمكان المقصود، ولا سيما طلاء الأظافر التي –ربما- لن تنسى أن تضع منه على أصابع رجليها إذا أرادت إظهارها عمدًا.

وهنا لا نقصد أن الاهتمام بالنفس غير محبّذ، بل إنه مقصد شرعيّ في حال وضعه في المكان والشخص والمجتمع المناسب كالمحارم والزوج والنّساء، إلا أني أسوق هذا المثال لتبيين التناقض الذي تقع فيه “إمّعات” النسوية، فهنّ يردن أن يكنّ إنساناً بلا تسليع أو تشييء، لكنهن في الوقت نفسه يركّزن جلّ اهتمامهن للاعتناء بمظهرهن بالذريعة الشهيرة: أنا حرة بجسدي ومظهري. في إطار تقديم المخادعات التي يندرج تحتها التناقض والتبرير.

إن التّشييء أو التسليع (objectification) لا يكون إلا حين ترتدي الإناث ما يستدعي رؤيتهنّ كشيء أو سلعة، وهذا ما أثبتته الدراسات -سأحيل إليها أسفل المقال-. فهي من جهة لا تُريد أن يُنظر لها أنّها “جميلة” كما أشرنا سابقاً، لكنها في المقابل تبذل الجهد لإظهار جمالها، واجتماع النقيضين يتنافى مع العقل السليم، فالجسد الجميل لا يمكن أن يُعامل إلا بنوع من الشهوة أو الانجذاب ونحوه.

الحجاب ونظرة الرجل للمرأة

عزيزتي النسوية، أنت واللهِ أصبحتِ سجينة لكل نظرة من ذَكَر عابر، ولكل نظرة تكاد تخترق جلدك عند التدقيق بكِ حتى تكادي أن تتلقفي بثيابكِ كي تسدّيه عن النظر المحرّم. لكنّكِ فضّلتِ أن تدّعي أنّكِ قوية ورفعتِ شعار النسوية “أنا حرة”، دون أن تفقهي أنك أنتِ من تركتِ الباب مفتوحاً على مصراعيه ليدلف إليه من يشاء وينظر فيه ما يشاء.

وكما أن احتشامكِ يحميكِ من هذا كله، ويحررك من نظرة ثاقبة لمفاتنكِ، فإنه “واجب” عليكِ -ليس باعتبار الدين-؛ ما دمتِ تؤمنين بالعقل والعلم وما يندرج تحته، أن تتصرفي بما يمليه منطق الرافض للتسليع، فكما أنك تريدين أن يُنظر إليكِ إنسانةً لا سلعة -وهذا من حقكِ طبعاً-، فإنه بالمقابل من حق الذكر عليكِ في أي مكان أن لا تدعيه ينجرف لغريزته بسبب إظهاركِ للمفاتن التي تثيرُ –لا شعوريًّا- الشهوة لديهِ، وبذلك تحمين نفسكِ وتُعينينه بنهي نفسه عن الانجراف والانصياع لهواه، مما قد يؤدي -قطعاً- إلى تقليل حالات الاعتداء الجنسي.

وكما أن قوانين السير وُجدت لتقليل الحوادث -وليس العكس- فإننا لا نستطيع منع الحوادث قبل وضع القوانين والضوابط كإشارات المرور وغيرها-، فكذا أيضاً الاحتشام وُضع للتقليل من حالات التحرش والاعتداء. فقبل رفع شعار المساواة والحرية، “ترفّعن” عن التناقض والجهل، بعدها قلن ما تردن.

إن دور الحجاب –في النتيجة- يكمن في إقامة المساواة بين الرجل والمرأة التي يسعين لها النّسويات. فالحجاب يجعل المرأة إنساناً طبيعيًّا شأنه شأن الرجل، ولا يقوم بجنسنتها لانّه يقتضي إخفاء المرأة لزينتها. وكذلك، يُعين الرجل على التعامل مع المرأة دون إثارة جنسية لعدم وجود الباعث الذي يُثيره، ويُعينه على غض البصر.

والحجاب أو الزي الشرعي هو منظومة تحمي كلا الجنسين وتحفظ حقوقهما. والجدير بالذكر، أن المرأة والرجل -سواء في العقائد والعبادات والأخلاق- مطالبان بالسعي والعلم والعمل والاجتهاد. فلا خشونة الرجل تهب له فضلاً من تقوى، ولا نعومة المرأة تنقصها حظًّا من إحسان [الشيخ محمد الغزالي، قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة]. وهذا إن أشار إلى شيء، فإنما يشير إلى مبدأ المساواة في العبودية والفضل في منظومتنا الإسلامية، فلا أحد فوق الشريعة! وما يُحتّم هذه النتيجة، هو التزام كلا الرجل والمرأة بالفرائض خاصة المنوطة بالجنس الآخر، والتي تؤثر فيه.


مصادر ومراجع إثرائية:

مشهد من سلسلة المرأة د. إياد القنيبي استفدت منه في هذا المقال:

https://youtu.be/r2M_YyM8dpU

مقطع جوردان بيتيرسون عن مساحيق التجميل:

https://youtu.be/S9dZSlUjVls

  • دراسات ذكرتها في المقال:

دراسة أثبتت أن النسوة اللاتي يردن علاقات على المدى القصير يرتدين لباسًا فاضحًا، والنسوة اللاتي يردن العلاقات على المدى طويل يرتدين لباسًا أكثر حشمة:

https://link.springer.com/article/10.1007%2Fs10508-013-0188-8

وهنا دراسات أثبتت أن النسوة اللاتي يرتدين لباسًا فاضحًا أو ذا طابع جنسي هن الوحيدات اللاتي يتعرض للتشييء objectification. وأشعة الfMRI أثبتت أن الذكور على الرغم من اشتهائهم لهن إلا أنهم يرونهن مقززات وأشياء، مقارنة مع المحتشمات.

الدراسة:

https://www.mitpressjournals.org/doi/abs/10.1162/jocn.2010.21497

وهنا دراسة أخرى أثبتت بواسطة أشعة الfMRI أن كلًّا من الذكور والإناث يروون هؤلاء النساء كمجرد أشياء، ووجدوا أنهم لا يشعرون بالشفقة تجاه هؤلاء النسوة عند رؤيتهم في حالة ألم. بينما رأوا النسوة المحتشمات كبشر.

الدراسة:

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0010945217304045

وهنا دراسات أخرى أثبتت أن النساء اللاتي يرتدين اللباس الفاضح أكثر تعرضًا للتحرش الجنسي وأكثر تعرضًا للتشييء وعدم الأنسنة dehumanisation. ووجدوا أن الذكور يجدون متعة في التحرش بهن.

الدراسة:

https://journals.sagepub.com/doi/10.1177/0146167212436401

 

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد