النسوية المتأسلمة بين الأصالة والتبعية
إن المجتمعات العربية والمسلمة -كغيرها من المجتمعات التي شهدت انحداراً ثقافيا- حاولت في مهمتها الإصلاحية أن تقتفي أثر الثقافات الغالبة متبنّية رؤيتها الكونية ومناهجها العلمية، ويشهد على ذلك حقل النسوية الذي لم يسلم من “التّأسلم” كباقي الأيديولوجيات التي احتفى بها بعض المفكرون العرب في القرن الماضي خاصة، على رأسها الماركسية. إذ أمست النسوية الإسلامية من أبرز ما تمخض عن هيمنة الغرب فكريًّا، ونتاجًا للعجز عن التمييز الثقافي أثناء التعريف بالذات المسلمة والعربية أو محاولة تجاوز ما لحقها من تشتت وانحدار.
الجذور التاريخية للنسوية الإسلامية
ترجع بعض الكتابات ظهور مفهوم النسوية الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي في تركيا، وبالتحديد مع كتاب “الحداثة الممنوعة” للباحثة التركية نيلوفر غول[1] سنة 1991م، والذي التقطت فيه مقولات نسوية وسط الإسلاميات التركيات، ثم ظهور المفهوم بعد سنة مع مجلة زنان الإيرانية.
توالى ذلك دخول الأفكار النسوية إلى الوسط العربي عبر البعثات العلمية إلى الغرب، وكذلك من الأعمال الذي قدمها رجالات النهضة المثقفين العرب من المسلمين والنصارى، وأيضا عن طريق تقليد الشرائح الاجتماعية شبه الأرستقراطية للثقافة الغربية ومسالكها، والملفت للانتباه أن دعاة النسوية -في بداية ظهورها في العالم العربي- كانوا رجالاً، كرفاعة الطهطاوي[2] وقاسم أمين[3] ومرقص فهمي[4]، ثم توالى ذلك ظهور شخصيات نسائية كهدى الشعراوي[5] ودرّيّة شفيق[6] وأمينة سعيد[7] وصولا إلى أواخر مراحل استقرار النسوية في العالم العربي على يد نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي، إلخ[8].

في الأعلى من اليسار إلى اليمين :هدى الشعراوي، درّيّة شفيق، أمينة سعيد في الأسفل من اليسار إلى اليمين: نوال السعداوي، فاطمة المرنيسي
منبت الصفة الإسلامية
قد يتبادر للذهن أثناء إطلاق وصف الإسلامية على النسوية، أن هذه الأخيرة تستنبط من الوحي حلولاً لمشاكل المرأة دون خروج عن إطار الشرع، لِما يقتضيه من حاكمية وإلزام. في مقابل النسوية العلمانيّة التي تعدّ الدين –صريحاً- عَقبة تحيل دون تحقيق المستقبل النسوي وبالتالي وجوب الفصل بين الدين والقضايا النسائية والسياسية. وهو أمر نجد له تفسيراً في الوسط الغربي الذي عانت فيه المرأة أشدّ معاناة باسم الدّين وتراث الفلسفة اليونانية، فقد اعتبر أرسطو الأنوثة تشوُّهًا[9] وجعل أفلاطون المرأة في مقام العبيد والأطفال، وجعلها رجال الكنيسة شرّاً لا بدّ منه ومدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، فأجبرها على الصمت في الكنائس وحرمها الميراث وحقها في التعليم، ونظر إليها توماس الأكويني[10] من خلال معيار الذّكورة، فوسمها بالرّجل الناقص، وذلك لأن الرجل -حسب اعتباره- يمثل المقياس الكامل للوجود البشري[11]، فظلت المرأة طوال هذه القرون سبب كل الآثام، حاملة الخطيئة الأولى، الملعونة التي أغوت آدم: “فَوَجَدْتُ أَمَرَّ مِنَ الْمَوْتِ: الْمَرْأَةَ الَّتِي هِيَ شِبَاكٌ، وَقَلْبُهَا أَشْرَاكٌ، وَيَدَاهَا قُيُودٌ. الصَّالِحُ قُدَّامَ اللهِ يَنْجُو مِنْهَا. أَمَّا الْخَاطِئُ فَيُؤْخَذُ بِهَا.”[12]
كلّ هذه العوامل مهّدت لظهور حركة نسوية علمانية في البيئة الغربية، والتي لم تكتفي فقط بإصلاح الدين ولكنها عمدت إلى إلغائه بالكلية، وحاولت إعادة صياغة ذاكرة جماعية تقوم على القوانين العقلية والوضعية فيما يضمن المساواة بين الجنسين ويلغي الفروق بينهما، الأمر الذي عمدت إليه النسوية الإسلامية كذلك فلم تكن مجرّد محاولة لإصلاح الواقع باستنباط حلول من الوحي ولكنها محاولة لإصلاح الوحي انطلاقا من الواقع.
“فمصطلح النسوية الإسلامية يظل عالقا بهن [النسويات الإسلاميات] من جهة واحدة على الأقل، هي أنهن جميعا يصرحن بأنهن يردن إصلاح الإسلام الذي يعني في بعض الحالات الأخذ بعلمانية صريحة، بينما يعني في حالات أخرى رفض الأساس الميتافيزيقي أو اللاهوتي الذي يقوم عليه الإسلام نفسه، وهو الأساس الذي لا يكون أحد مسلمًا على وجه الحقيقة بدون الإقرار به”[13].

أرسطو (اليسار)، توماس الإكويني (اليمين)
الصفة الشّاغِرة
أخذت النسوية صفة الإسلامية لاشتغالها بنصوص الوحي وتأويلها أكثر من كونها تعتمد على هذه النصوص كمرجعية ثابتة، فكان متنُ منهجها التأويلي الانطلاق من الكليات الإسلامية العامة وتطبيقها على باقي الأحكام دون اعتبار لخصوصيتها أو حدودها الشرعية، كاستنتاجهم من عدل الله لزوم تحقيق المساواة التامة بين الجنسين، الأمر الذي يستلزم إقصاء بعض الآيات والأحاديث النبوية التخصيصية كونها لا توافق الكليات أو المثل الأخلاقية العامة.
تقول آمنة ودود: “رغم قبولي بدور النبي سواء فيما يتعلق بالوحي كما هو مفهوم في الإسلام، أو تطور الشريعة الإسلامية على أساس سنّته أو سننه المعيارية، إلا أنني أضع أهمية كبرى على القرآن، وهذا يتطابق مع الفهم القويم لعصمة القرآن بمقابل التناقضات التاريخية الواردة في مصادر السنة، إضافة إلى ذلك أنني لم أسلم بأن المساواة المبنية في القرآن بين الرجل والمرأة يمكن أو يلغيها النبي. ولو وجد هذا التناقض فسوف أكون في صف القرآن”[14] ، وتضيف النسوية أميمة أبوبكر[15] في بيان مركزية القرآن التأويلية مقابل السنة “مركزيّة القرآن هذه والتكليف الإلهي للبشر جميعًا بمسؤوليّة تجسيد وتحقيق المثل الأخلاقية في الحياة الدنيا، هما أساس المشروع التأويليّ للنسويّة الإسلامية”[16] وتحفّظ بعض النسويات الإسلاميات من رفضهن المطلق للسنة نابع فقط من خشية فقدان السند الموضوعي للنسبية التاريخية لأحكام القرآن[17].
تقمّص دور المجتهد
الاعتماد على المبادئ العامة والمفاهيم الفضفاضة دون اعتبار ضوابطها وسياقاتها المحددة جعل النص القرآني قابلاً لاستيعاب جميع القراءات وتجاوز معناه القاطع أو ما يحتمله من معانٍ محدودة خدمةً للمنهج الهرمينوطيقي، أو ربط الدلالات القاطعة بالسياق التاريخي عبر قراءة تاريخية للنصوص.
من التطبيقات التي توضّح مدى هذه التجاوزات التأويلية -إمامة النسوية آمنة ودود صلاة الجمعة في مسجد تزيّن جدرانه أعلام حركة ما يعرَف بمجتمع الميم -أي أصحاب الميول الجنسية غير السويّة- وفي صف مختلط من الرجال والنساء على غير الهيئة الشرعيّة المُقدّرة، وإعادة تفسير مفاهيم من قبيل الحجاب والقوامة بما يضاد التفاسير المتفق عليها بشكل شبه كلّي، وهو ما سماه الإمام رشيد عمر “جهاد الجندر/الجنوسة” « Gender theory » والذي تبنته أمنة ودود وجعلته عنوان أحد كتبها .[18]
الجهود التأويلية النسويّة
ظهرت المهمة التأويلية موزعة بين رائدات النسوية الإسلامية اللواتي شغلن مناصب علمية وبحثية ذات وزن أكاديمي معتبر، إذ نرى الفكر النسوي في المغرب العربي ينمو على يد أسماء المرابط و”قراءة النماذج النسائية في القرآن الكريم قراءة للتحرّر” وعلى يد السوسيولوجية فاطمة المرنيسي في تبنيها المنهج النقدي لعلم الجرح والتعديل ممثلة دراستها في نموذج حديث “لم يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة”، وفي الحديث كذلك نجد ألفة يوسف ونقدها النسوي –من منطلق التحليل النفسي- لحديث “ناقصات عقل ودين”، ونائلة سليني وتبنيها للمنهج التاريخي في دراسة التفاسير تاريخانيا وصلة ذلك بالإرث، وفي المشرق –مصر تحديداً- نجد أميمة أبو بكر مشتغلة على مفهوم “القوامة” بنفس المنهج التاريخي، واهتمام أماني صالح بالجانب الاصطلاحي والمفاهيمي للنسوية الإسلامية.
وعلى هذا تلخّص المؤرخة مارغو بدران مقاصد الفلسفة النسوية الإسلامية في النقاط التالية:[19]
أولاً: تجديد فهم النصوص القرآنية وفق منهج الهرمينوطيقا القرآنية المعزز لمبدأ المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، مما يجعله تحريفًا صريحًا، إلا أنه السلّم الذي تتبعه النسويات لفرض آرائهنّ حيث تؤكد آمنة ودود أنه لا يتعين على المسلمات أن يمررن بالعلمانية لكي يفرضن حقهن الرئيس في المساواة، الطريق إلى ذلك هو إعادة تأويل النصوص المقدسة.
ثانياً: تأكيد حق المرأة في الاجتهاد وفي إعادة قراءة النص الديني تعزيزا للمبادئ الإسلامية في المساواة والعدل.
ثالثاً: تأسيس المساواة بين الجنسين على مبدأ الخلافة والتوحيد، إذ لا يستقل الرجل بخصوصية –في شأن الخلافة- عن المرأة.
خاتمة
إنّ عرض هذه المقاصد بيان لحقيقة النسوية الإسلامية التي تختبئ وراء مفاهيم شاغرة كالاجتهاد والتأويل متجاوزة الوحي، حيث تقوم بتصييره لموافقة الأصول الفكرية الكبرى للنسوية من علمانية وليبرالية وجنوسة وتاريخانية ومساواة مطلقة، الأمر الذي يجعل الوصف الإسلامي لا يتعدّى كونه مجرّد غطاء لستر السلوك العلماني المباشر في ردّ النصوص الدينية.
إنّ الوصف الإسلامي يقتضي التأسيس العقدي والقيمي والمعرفي والفكري على دين الإسلام، هذا ما لا ينطبق على النسوية الإسلامية التي لا تهتم بالبحث في الوحي إلا من باعث تبريري، فالأسس الفكرية للنسوية عموما دفعتها لتقف موقفاً معاد من الدين في أغلب حالاتها وموقف الإصلاح في بعضها، الأمر الذي اضطرّ بالنسوية الإسلامية إلى الالتزام بهذا الأساس الفكري مقابل تطويع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لتتوافق وَ أسس الفكر النسوي الحداثي، مستندة في ذلك على عدة أدوات ومناهج معرفية متمثّلة في التأويل الهرمينوطيقي والقراءة التاريخية والجندرية لنصوص الوحي، ما يشير إلى أنّ وصف “الإسلامية” لا يتعدّى كونه تحديداً للمجال التي تقوم النسوية بتأويله لتبرير المطالب.
المصادر والمراجع
- جدعان، فهمي. خارج السرب: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت-لبنان، ط2، 2012م.
- الجهني، ملاك. قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر: مركز نماء، بيروت، ط1، 2015م.
- جين شيفرد، ليندا. أنثوية العلم: عالم المعرفة، الكويت، العدد 306، 2004م.
- الخريف، أمل ناصر محمد. مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام، مركز باحثات لدراسات المرأة، الرياض، ط 1، 1473ه/2016م.
[1]. نيلوفر غول: باحثة تركية وأستاذة علم الاجتماع في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس.
[2]. رفاعة الطهطاوي: (1801م-1873م) عالم وصحفي مصري، يعتبر رائد الحركة الفكرية في مصر.
[3]. قاسم أمين: (1856م-1908م) قاض ومصلح اجتماعي مصري، دعا إلى تعليم المرأة وتحريرها من التقاليد حسب زعمه.
[4]. مرقص فهمي: (1870م-1955م) محامي مصري وكاتب قبطي مصري.
[5]. هدى الشعراوي: (1879م-1919م) ناشطة اجتماعية مصرية في مجال الدفاع عن حقوق المرأة.
[6]. درية شفيق: (1908م-1975م) باحثة مصرية وإحدى رائدات حركة تحرير المراة في مصر.
[7]. أمينة سعيد: (1919م-1995م) أديبة وصحفية روائية مصرية.
[8] . ينظر: الخريف، أمل. مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام، ص77.
[9] . ينظر: جين شيفرد، ليندا. أنثوية العلم، ص28.
[10] . توماس الأكويني: قسيس وقديس كاثوليكي إيطالي من الرهبانية الدومينيكانية، وفيلسوف ولاهوتي مؤثر ضمن تقليد الفلسفة المدرسية.
[11] . ينظر: الخريف، أمل. مفهوم النسوية دراسة نقدية في ضوء الإسلام، ص48/49.
[12] . سفر الجامعة [7: 23]، موقع كنيسة القديس تكلا هيمانوت القبطية الأرثوذكسية –الإسكندرية، مصر، (جا 7: 26): فوجدت أمر من الموت: المرأة التي هي شباك وقلبها أشراك ويداها قيود الصالح قدام الله ينجو منها أما الخاطئ فيؤخذ بها (st-takla.org).
[13]. جدعان، فهمي. خارج السرب، ص87.
[14]. الجهني، ملاك. قضايا المرأة في الخطاب النسوي المعاصر، ص100-99.
[15]. أميمة أبو بكر: باحثة وكاتبة ومترجمة نسوية، تشغل حاليًا منصب أستاذة للأدب الإنجليزي المقارن في جامعة القاهرة، ونائبة رئيسة مجلس أمناء مؤسسة المرأة والذاكرة.
[16]. المرجع السابق.
[17]. ينظر: المرجع السابق.
[18] . انظر: جدعان، فهمي. خارج السرب، ص78.
[19] . ينظر: جدعان، فهمي. خارج السرب، ص78-77.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!