النسخ في القرآن وفلسفة الإصلاح

image_print

النسخ في معناه العام هو أن تنزل آية من القرآن ثم تستبدل آية أخرى، ويكون استبدالها إما استبدالًا كُليًّا أو جزئيًا، ويتضمن هذا الاستبدال -على الأغلب- رفعًا لحكمٍ شرعيٍّ سابق، بحكمٍ شرعيٍّ مُتأخرٍ عنه في زمن نزول الوحي.

وقد ذُكِر النسخ في القرآن الكريم في سورة البقرة، في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 106- 107] وفي الآيات إشارة لطيفة إلى أن منزل القرآن هو خالق الكون، وكما أن الإله الخالق للكون هو المدبر الأول فيه ويتصرف فيه كيف يشاء، فهو أيضًا متصرّف في نزول كتابه كيف يشاء، من ترتيب النزول وموعد النزول ونسخ الآيات ببعضها بعضًا.

استيضاح لمفهوم النسخ

ربما يتساءل أكثرنا، ما المقصود بالنسخ وكيف يقع؟

يقول الإمام ابن كثير في تفسير الآية آنفة الذكر: “وذلك أن يتحول الحلال حرامًا، والحرام حلالًا، والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، فأما الأخبار فلا يكون منها ناسخ ومنسوخ” [مختصر تفسير ابن كثير]

ومن هنا نستشفّ أن النسخ يقع في الأحكام؛ فهو تبديل في التشريع، إلا أنه لا يقع في الأخبار، وذلك -حاشا لله- يعني أن القائل غير متأكد من مقالته فغيّرها، أو أنّه شاكٌّ فيما يقول، أو أنه خاف من قوله فغيّره، وكل تلك الاحتمالات تنبع من الخوف والتردد ومحض النقص والنقض، وربنا سبحانه وتعالى منزه عن كل هذا بكمال علمه وحكمته.

وفي القرآن أمثلة كثيرة من نسخ الأحكام، سواء في فرض الفرائض أو في طلب اجتناب النواهي، ومنها على سبيل المثال، فرضية الصيام، حيث كان ثلاثة أيام من كل شهر فقط في أول الأمر، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ثم نزلت الآية التي تحدد مدة الصيام وشهره في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وهكذا غُيِّر الحكم في الصوم من أيام قليلة شهريًّا إلى شهر رمضان كاملًا.

وجاء تحريم الخمر بتدرُّجٍ بدءًا من قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] وصولاً إلى التحريم النهائي في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وجاء تحريم الربا تدرُّجًا كذلك، بدءًا قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] لذمّ الربا ومدح الزكاة، ثم منع الربا وحرّمه قطعيًّا في آيات سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وهكذا.

 ما وراء النسخ

قد يسأل سائل: لو كان الحكم الشرعي الأول مختصًّا بمرحلة زمنية معنية في عصر نزول الوحي، ثم حصل نسخٌ ما، بحيث لن تعمل الأمة الإسلامية إلى يوم القيامة بالحكم السابق اكتفاءً بنص الحكم اللاحق، فلم لا تحذف تلك الآيات من القرآن، بل إن معظم الآيات المنسوخة يبقى المسلمون يرددونها في تلاوتهم أبد الدهر.

يقول الأستاذ فريد الأنصاري في كتابه (مجالس القرآن): “إن هذه الآيات المنسوخة حكمًا، الثابتة تلاوة، علاوة على فائدتها التعبدية من ثبوت أجر القارئ لكتاب الله، هي علامات ظاهرة جعلها الله في كتابه لفائدة التدبر والتبصر، ومعرفة كيف كانت مسيرة الوحي في بناء الأمة الإسلامية تربية وتزكية وتشريعًا. حتى يستفيد الداعية الحكيم قواعد تجديد الدين وأسرار الصناعة في إعادة بناء صرح الأمة، ومعرفة خطوات ذلك خطوة خطوة، من النفس إلى المجتمع، ومن الفرد إلى الجماعة، ومن الشتات إلى الوحدة. إنها معالم لمنهج إعادة البناء والتركيب للمحرك الإيماني الذي به تستأنف الأمة حياتها الشاهدة على الناس. ولذلك كان بقاؤها مرسومة في كتاب الله – رغم نسخ حكمها – كبقاء المفتاح على الأقفال ” [3/317]

ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا: إن السيرة النبوية ليست مجرد تدوين تاريخي جاف لحقبة من الزمن، بل إننا نرى في السيرة فقهًا في أسرار الإصلاح وكيفية احتواء النفوس المعجونة بالشهوات وإقناع العقول المتتبعة للشبهات، وإن نجاح سيدنا رسول الله ﷺ في تحويل مجموعات من أعراب بدو الصحراء ممن يعبدون الأصنام إلى قدوة دينية أبد الدهر ليس مجرد نجاح يُبهر كل منصف مدرك لحجم التحديات والصعوبات التي كانت في طريقه، وإنما شيء أعظم من ذلك وأكبر.

لقد كانت السيرة النبوية بكل ما فيها عبارة عن وصفة إصلاح لكل مصلح شرع في تغيير الناس والتأثير فيهم؛ وإن نجاح المصلح في انتشال عبَدَة الأصنام من ظلمات جاهليتهم إلى نور الإسلام ونقاءه يعني أن أي مصلح بعد سيدنا محمد ﷺ ستكون مهمته أسهل من مَهَمَّته، لأن حجم التحدّيات -بلا شك- ستكون أهون وأسهل.

وهكذا، فإن السيرة يجب أن تتحول في عين المصلح من أحداث تاريخية إلى دورس وعبر تستخلص من بين السطور، ترسم ملامح الطريق، وتوضح سبل الإصلاح، فلن يفهم المرء سبل إصلاح النفس البشرية تلك إلا إذا تأمل كيف تعامل معها الوحي الإلهي بالتدرج، إذ إن الوحي نزل ممن خلق النفس وألهمها فجورها وتقواها!

فريد الأنصاري

 

فلسفة الإصلاح في الإسلام

إن الوقوف عند ظاهر السيرة وحدود النصوص، مع الغفلة عن الرحلة التشريعية فيها وحِكَم الله في تنزيل القرآن منجّمًا ومفرَّقًا على مدار ثلاث وعشرين عامًا وتدرّج أحكامه، ينتج لنا نماذج من البشر يعانون من (تدين المراهقين)، وهي حالة من الحماسة الدينية الزائدة والزائفة في وقت واحد.

هذه الفئة من البشر كثيرو التصادم مع الواقع، لأنهم أبعد الناس عن فهم الحاضر واستخلاص العبرة من الماضي، فهم يحلمون بوجود تغيير لحظي في المجتمع حولهم دون امتلاكهم الحِلم والاصطبار على الرحلة الطويلة من مسايسة شرور النفوس وحظوظها، بل ويغفلون تمامًا عن مبدأ (تدرج التشريع) في الإسلام.

إن المطلوب ليس تطبيق بعض الشريعة دون بعض، أو في تدرج بعض أحكامها في تحليل الحرام حينًا من الدهر، لأن الشريعة قد اكتملت ووجب تطبيقها بشكل كامل بصريح القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208]، فإن تدرُّج التشريع في حالة الأزمان المعاصرة، من المحال لأنه غير مبرر شرعًا، وإنما المطلوب هنا هو تدرّج الإصلاح!

إن النصيحة الدينية في الكثير من الأحيان لا يمكن أن تكون معممة، والخطاب الديني الذي يناسب شخصًا قد لا يناسب آخر، فإن لبعض الناس أهواء أرهقت قلوبهم فلا يكادون يخرجون من وحول الشهوات، وإن توقُّعَ تغيُّر حالهم في زمن قياسي أشبه بتوقع تعافي مدمن مخدرات في بضعة أيام.

ولو أننا أمعنا النظر في نبع التوقعات اللاواقعية والجهل بطبيعة العملية الإصلاحية فسنراها على الأغلب قد جاءت ممن غفل عن مبدأ النسخ القرآني وتدرج التشريع، وإن المصلح الحق هو من يقف عند النفس العليلة فيحاول أن يخرج ما فيها من خير حتى يغلب خيرها شرها، ولو التبست عليه الطرق، فها هو القرآن به من الآيات التي نتلوها ولا نعمل بها حُكمًا، ولكن في وجودها رغم تعطيل حُكمهًا حِكمًا كثيرة. فيكفي أن يمر قارئ القرآن على آيات تتلى ولا يعمل بها حتى يتذكر في كل مرة كيف كانت النفوس العليلة تشفى بجرعات متفاوتة من العلاج.

إن النفوس التي خرجت من الجاهلية لم تكن لتطيق العلاج الثقيل مهما كان نافعًا لأنها غير مؤهلة لاستيعابه، وإن الشريعة لم تُنزَل كاملة إلا بعد سنوات من حمل الناس عليها رويدًا رويدًا، وإن الإصلاح الذي ينبع من رؤية لاواقعية سيفشل لا محالة لأنه ينبع من سذاجة، والإصلاح الذي ينبع من واقعية النظر ومبدأ التدرّج هو إصلاح متين وأقرب للثبات من الانتكاس، لأنه ينبع من طريقة القرآن التدريجيّة في الإصلاح، ويتعامل مع نفوس البشر كما تعامل معها من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد