النسبية اللطيفة.. هل يطبقها أهلها فعلاً؟

image_print

إن من أهم ما أفرزته عقلية ما بعد الحداثة الذي انتشرت في ستينات وسبعينات القرن الماضي في أمريكا وأوروبا فكرةُ النسبية التي باتت رائجة وجذّابة للكثيرين اليوم، بوصفها طريقةً محترمةً ولبقة لإنهاء الخلافات المزعجة، والتجاوز عن النقاشات التي أرهقت الشعوب على مرّ قرون طويلة، من دون أن يصلوا إلى حلٍّ يرضي جميع الأطراف لها[i]، فلم يعد مستغرَباً أن نسمع شابّين يتحدثان عن الدين باستخدام عباراتٍ مطّاطة ومفتوحةٍ مثل: “برأيي أن الإله واحدٌ، لكنني أفهم أنّك ترى الأمر بشكل مختلف”، بينما يردّ الآخر ببساطة: “أحترم رأيك، لكن من وجهة نظري أن هناك مئات الآلهة في العالم، وطالما أن الكثيرون يؤمنون بذلك، فلا يمكننا إغفاله!”

ثم ينتهي النقاش على أنّ تجاوز الخلاف ممكن دون الحاجة لإقناع أحدٍ برأي أحد، أو ادّعاء أحدٍ أنه متأكد من صدق مقالته؛ لأنّه من غير الممكن القيام بمصادرة الحقيقة أو ادّعاء امتلاكها كاملة، وطالما أن لكلّ شخص منهما قناعاته فمن قال إنه يجب أن يكون بينهم مخطئ ومصيب؟ ومن يهمه ذلك فعلاً طالما أن من الممكن تجاهل الأمر والعيش معاً بسلامٍ دون التفكير فيه؟

لباقةٌ انتقائية

هذه هي النسبية التي تسوّق اليوم في إطار المحبة والسلام والتعايش، فهي التي لا تعترف بالحقيقة المطلقة، بل وتلوم الذي يدّعي وجودها، وتتجاوز الأسئلة المصيرية مدّعيةً أن اختلاف وجهات النظر يعني وجود أكثر من حقيقة، ما دام لكل شخصٍ فكره ومنظوره وفهمه للكون من حوله، لكن ترى هل يمكن تطبيق هذه الآلية الفكرية -إن صحت تسميتها كذلك- على كل أمور الحياة؟ وهل يقوم روّادها بذلك فعلاً؟

عام 2015 ظهر الإعلامي والكاتب المحافظ (بين شابيرو) في لقاءٍ تلفزيوني مشترك مع عدد من الناشطين في مجال حقوق المتحوّلين جنسيّاً لمناقشة الأمر، وكان من بين المتحدّثين على المنصّة رجلٌ متحولٌ جنسياً لأنثى يدافع عن القضية بشكلٍ مستميت. شابيرو الذي حاول كشف زيف نظرية الجندر بالأدلة العلمية المجردة حول الجينات التي تحدد الجنس قوبل بتهديدٍ مباشرٍ من الرجل المتحوّل الذي قال أمام الجمهور وعلى الكاميرات: “توقف عن ذلك فوراً، وإلا ستعود لبيتك في سارة إسعاف!”[ii]

بالرغم من فداحة التهديد ووضوحه إلا أنه لم يقابَل من قبل المتحدّثين على المنصة أو المذيع ذاته إلا بلومِ (بين) ودعم المهدِّد، بحجة أن (بين) كما قيل: “لم يكن محترماً في نقاشه”، ولم يتدخل أحدٌ للدفاع عن حقّه بامتلاك وجهة نظرٍ مختلفة على الإطلاق.

إنّ الغرب الذي يروج للنسبية على أنّها جزء أساسي من احترام الآخر والإنسانيّة في التعامل معه وتقبّله، لا يرضاها حقيقةً في التعامل مع الثوابت التي اختارها لمجتمعاته، ولا يحترم وجهات نظر سواه فيما يتعلق بها.

وكذلك هي قضية حقوق مجتمع LGBTQ وميزاته اليوم، حيث لا يسمح لأحد يريد الانتماء للمنظومة الغربيّة أو العيش على أرضها أن يتعامل بأي رفضٍ تجاه أي شخص من هؤلاء مهما كانت العقيدة التي تم قبولها منه واحترامها له في العقلية النسبية، وقد يتم بكل بساطة إطلاق عبارات نمطية على هذا المخالف تحت عنوان الهوموفوبيا، وكذلك ضمّه في مجموعات شريرة وتشويه سمعته وتهديده وطرده من عمله لمجرد أن يعبّر عن الفكرة المخالفة بنظرةٍ أو كلمة.

لقد تجاوز الأمر التنميط والاعتداء الفردي في كثير من الدول الغربية اليوم، إلى أعمق من ذلك، فمناداة شخص باستخدام الضمائر التي لا يرضى بها، باتت جريمةً يعاقب عليها القانون ولا يتعاطف مع مرتكبها وإن كانت ببراءة أو حسن نية[iii]، فيمكن اليوم أن نرى رجلاً عادياً في هيئته الخارجية وخشونة صوته، ثم نفاجأ بأنه يريد أن ينادى بضمائر المؤنّث، وواجب الجميع في هذه الحالة هو الموافقة والقَبول، بلا أي مساحة للخلاف أو احترام وجهات النظر في الفلسفة النظرية وغير المثبتة التي بُنيت عليها حقوق المتحوّلين.

وهذا ما بات مطبّقاً في كندا، حيث تمّت الموافقة على تعديل في قانون حقوق الإنسان عام 2017 لينصّ على إمكانية أن يغرَّم الشخص أو يحكَم عليه بالسجن إن تحدّث مع أحدهم باستخدام الضمائر التي لا يريد[iv]، وفي السادس عشر من مارس هذا العام اعتقل روبرت هولاند وحوكم بتهمة استخدام الضمائر الخاطئة مع ابنته التي وُلِدت أنثى وتريد العبور جنسياً لتكون ذكراً، ولم تأبه المحكمة بأقوال هولاند أن ابنته متعبةٌ نفسياً وبأنه كان يحاول مساعدتها، وحكَمَت عليه بالعنف الأسري وأعطته إنذاراً بالسجن إن عاد لمناداة ابنته بالضمائر الخاطئة[v].

احترام آراءٍ أم فرض دينٍ جديد؟

مما سبق يظهر أن النسبية كمفهوم لا علاقة لها لا باحترام الآراء ولا بقبول الآخر، إنما هي من مفرزات تحييد الغيب والمرجعيّات الدينية، وتحجيم الإيمان وأثره، وفرض دين ليبرالي جديد على الأفراد يما يتناسب مع الفكر الغربي الحالي وما يتضمّنه من تقديس حقوق الإنسان التي اخترعها أصحاب الصوت المرتفع والسلطة الغالبة، ولعل أصدَقَ الأدلة على ذلك تظهر للمتأمّل في خطاب الأمم المتحدة ونشاطاتها.

ففي تقريرها الخاص بالحرية الدينية الصادر العام الماضي ورد التشديد على ضرورة منع التمييز الجنسي، والتمييز ضد أفراد مجتمع LGBT+ تحت أي مظلة دينية، لأن حق الحرية الدينية يحمي الأفراد، لا محتوى دينهم، وبالتالي فإن المتحدّث عن الأمم المتحدة يدعو الدول الأعضاء إلى منع أي تمييز جنسي موجود في القوانين، بغض النظر إن كان ذاك التمييز نابعاً عن الأديان أم لا، وقال المتحدث حرفياً إن هذا المنع ينبغي أن يتضمن منع تجريم الزنا، ومنع تجريم الأشخاص بناءً على ميولهم الجنسية الحقيقية أو تلك التي يؤمنون بها أو هويتهم الجنسية، وكذلك منع تجريم الإجهاض[vi].

أي أن الأمم المتحدة مستعدّة لتقبّل الأديان مالم تأتِ بما يخالف دينها الليبرالي المستحدث الخاص، فالتعددية بصورتها اللطيفة المتصدّرة إنما هي حكمٌ على الجميع بأن الصورة الوحيدة المقبولة للدين هي تلك الهامشية المحصورة في الكنائس والمساجد، ولذا فلا حاجة للاكتراث بذاك الدين ولا للتفكير فيه لأن علاقة الفرد بخالقه ينبغي أن تظل محصورة في مكان واحدٍ لا تنعكس على شيءٍ من علاقاته مع البشر ولا من أفكاره التي يحمل عنهم، وطالما أن الفرد ملتزم بالقوانين والأطر المفروضة عليه، ومندمج في محيطه، لا يزعج باختلافٍ في غير موضعه أحداً، فلا حاجة للخلاف البتة لأن دينه ذاته سيمحى مع الوقت لتحلّ محله الانتماءات والمنطلقات الليبرالية المرضيّ عنها فقط.

أما إن تجرأ أي فردٍ على توسيع رقعة تأثير دينه أو مجرد العيش باتساق معه، فسيجد بالمرصاد كل ما تتم محاربته في الحديث عن النسبية والتعددية وقبول الخلاف، لأن الأمر مجرد تبديل مقدسات، من الله إلى حرية الإنسان ورغباته المتغيّرة وقيمه السائلة ونتاج لوبياته الخبيثة التي تطبّع الناس مع جديدٍ من المنكرات كل عام.


الإحالات

[i] انظر مقال ما بعد الحداثة بقلم عرابي عبد الحي عرابي على موسوعة السبيل:

https://al-sabeel.net/%D9%85%D8%A7-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB%D8%A9/

[ii] https://www.youtube.com/watch?v=YgQy70_LPS4

New York Pronoun Law. [iii]

https://fairygodboss.com/career-topics/new-york-pronoun-law

[iv] Controversial Gender Pronoun Laws In Canada. 2018

https://bjhspatriotpages.com/news/2018/01/15/controversial-gender-pronoun-laws-in-canada/

[v] Father jailed in Canada for using incorrect pronouns. 2021

https://www.independentsentinel.com/father-jailed-in-canada-for-using-incorrect-pronouns/

[vi] Use of religious beliefs to justify rights violations must be outlawed says UN expert. March 2020

https://news.un.org/en/story/2020/03/1058411

Author

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك رد