الناشئة بين رأسمالية هوليود ورحمة الإسلام

image_print

لعلّنا جميعا مرّت بنا مقاطع لمشاهد تمثيلية تسير على خطى هوليود لأطفال صغار، ذاك النشء الموشّح بالبراءة والعفوية الصادقة، هناك حيث طُلِبت منهم من وراء آلة التصوير إملاءات بعينها تكسر عفويتهم وتغلّفها بالتّكلّف حتى يُحسنوا تقمّص الأدوار بما فيها من مشاعر حزن عامرة بذرف الدموع، وربما أتبعوها بأنين شجي مصطَنَع، أو فرَح أو سذاجة وبلادة كل ما يهمّ فيها هو ملء الجيوب وتحصيل الأرباح من ورائهم، في خضوع أو انسياق مطلَق لمنطق السوق الرأسمالي في الاستفادة والاستثمار المادي في كل شيء ولو كان طفلاً صغيرًا.

من الطبيعي أن النفس البشرية لها قابليّة عالية للتعاطف مع الطفل -حتى من دون سبب وجيه- إن تألّم أو اشتكى، فكيف الحال والمشهد ههنا يفيض بالمشاعر الجيّاشة لكنها مزيّفة، وربما نذرف الدمع معه ونردفه قائلين: “لقد كان حقًّا في المستوى، مدهش ورائع هذا الطفل كيف أتقن دوره”.. أو عبارات أخرى كلها تتحدث بذات اللسان.

لكن أليس لنا أن نتساءل بعد ملحمة البكاء أو الفرح تلك: هل هذا ما يجب أن يكون عليه طفل في سنّه؟ ألن تتلف مشاعره وتضيع بين وهم هوليودي اتخذ من براءته بضاعة فحنّطها وشكّلها لتزيد الأرباح والأسهم وبين واقع يحتاج أن يعيشه ويحياه؟ ترى هل ترسو النجومية بالطفل عند ميناء السعادة حقًّا أم أن الكواليس تخفي كوابيس مسكوت عنها؟

ووسط كلّ هذا الصخب كيف اعتنى الإسلام بالفرد المسلم نسمة في الرحم، طفلا، ومكلفا؟ وما مسؤوليتنا الجماعية والفردية أمام هذه السيول الجارفة لحقن النشء الصاعد بجرعات الزيف التلاعب؟

أسئلة نحاول-مستعينين بالله- من خلال هذا المقال تسليط الضوء عليها والإجابة عنها.

هوليود: مسرح الطفولة المُستَلبَة!

خلف ستارة الكواليس يقبع الفصل المسكوت عنه والمطوي خلف الأفواه من قصة النجومية التي تراود كل حالمٍ بالشهرة، لكن جودي جيرلاند قررت تعريته وكشف مخبوءاته في مذكّراتها التي وُجدت عقِب موتها بجرعة مخدرات زائدة عن عمر يناهز السادسة والأربعين، حيث كتبت تقول: “كنت على خشبة المسرح منذ أن كنت في الثانية من عمري.. فاتني الكثير، إنها حياة وحيدة للغاية.. لقد كنتُ ومَن معي في استوديو MGM (إليزابيث تايلور ولانا تورنر وديانا دوربين وميكي روني) مرهقين، مسجونين ونعاني من نقص التغذية، كانوا يجوعونني كلما اعتقدوا أن وزني ازداد عن المقاس المطلوب [….] عندما اقتحمت عالم السينما في سني الصغيرة شعرت بالحرج والغموض وأني غير مرغوب فيّ”

وقالت عن دورها المُشتَرك مع ميكي روني -الذي اقتحم هو الآخر عالم التمثيل في سن السادسة وحاز على جائزة الاوسكار-: “أعطونا أقراصًا منشطة لإبقائنا على أقدامنا فترة طويلة، بعد أن استنفدنا طاقاتنا، لم نتمكّن من النوم، فأخذونا إلى مستشفى الاستوديو ومنحونا أقراصًا منومة ثم بعد أربع ساعات، أيقظونا وأعطونا حبوبًا منشطة مرة أخرى حتى نتمكن من العمل لمدة 72 ساعة متتالية، نصف الوقت كنا نتداعى وننهار، لكنها كانت طريقة حياة بالنسبة لنا” [1].

لم تكون جودي وحدها ضحية هوليود في إدمان المخدرات، فهناك أيضا بوبي دريسكول الطفل الحاصل على جائزة الأوسكار في سن التاسعة، والذي مثّل بصوته دور البطولة في بيتر بان أحد أشهر إنتاجات ديزني إلى جانب أدوار بطولية أخرى فيها، فقد كان أول شخص على الإطلاق يتم وضعه بموجب عقد شخصي من قبل والت ديزني، لقد عاش دريسكول حياة الشهرة الساطعة بكل معانيها، لكن ما هي إلا سنوات حتى أفل نجمه ولفظته ديزني كالحلس البالي؛ إذ كان جرمه الوحيد آنذاك هو ظهور حب الشباب المصاحب لفترة البلوغ وادّعت مبررة أنه سيكون من المستحيل إخفاء هذه الحبوب بالمكياج، فانتهى بذلك الحال بالبطل الصغير مدمنًا للهيروين ومنه إلى عالم الجريمة والسّطو، وكانت آخر عبارة في حكاية نجوميته ما قاله هو عن نفسه: “حُمِلت على طبق من فضة، ثم أُلقِيت في علبة القمامة”[2]. وقد وُجد دريسكول ميتا وحيدًا في مسكنٍ مهجور عن عمر يناهز ٣١ سنة!

إنها هوليود وهؤلاء حفنة وعيّنات من نجومها الصّغار الذين استعبدتهم باسم الشهرة والفن وحياة التّرف، والحال أنها اقتاتت على براءتهم وساقتهم إلى سكة مجهولة العاقبة حيث الإدمان والخوف والأمراض النفسية والجريمة كذلك، فكانت أبلغ صورة جسّدتها لوحش الرأسمالية الجائع!

من أضواء الشّهرة إلى قيعان الإدمان

كانت هذه بعض نماذج هوليود القديمة الكلاسيكية الغارقة في الاستغلال، التي قد تبدو لمعظمنا انها مجرّد حقبة وانتهت، ولأن الإحصاءات حول هذا الجانب شحيحة -ولنسلّم عرَضًا أنها كذلك-، لكن أليس مِن المؤسف وضع النشء بما فيه من هشاشة على مضمار ذاق مَن عاقروه مرارته؟

كيف لعقل الطّفل أن يحتمل مشاعر الأضواء التي تغذّي فيه الإحساس العارم بالنشوة والسعادة وكونه مرغوبًا من الكل ثمّ ولسبب ما يجد نفسه منبوذًا لا قيمة له كأنه شريحة مشاعر مُستهلكة؟

أما عن واقع الإدمان في هوليود فإنه لا يزال قائما وحوله قالت د. ريف كريم، المختصة في معالجة الإدمان في (كنترول سنتر لوس أنجلوس) “إدمان الكوكايين ينخفض بشكل عام في أمريكا، ولكنه في هوليوود لم يزل يصعد بقوة. لم تزل ترى الكوكايين في كل مكان في هوليوود”.

ووفقًا للدكتور إريك برافرمان، أخصائي الإدمان ومؤلف كتاب “أصغر منك”، فإن الأنا الكبيرة والمال الذي يجب حرقه يمهدان الطريق لإدمان الكوكايين، ويتابع قائلًا: “يميل المشاهير إلى أن يكونوا نرجسيين، لذا فإن الكوكايين يمنحهم إحساسًا بالسلطة والقوة، كما يعتمد الكثيرون على الكوكايين لملء الفراغات في حياتهم” [3].

وحول إذا ما كان النجوم الصغار عندهم قابلية أكبر للإدمان على الكوكايين أجابت د. دونا: “قد يدمن النجوم لأي سبب من الأسباب التي يدمن معها غيرهم مثل: التعرّض للإساءة، أو التجارب القاسية، ولكن مع النجوم الصغار فإن أدمغتهم تكيفت مع القدر الكبير من الإعجاب والاهتمام وأصبحت جزءًا من تركيبها العصبي. الأمر الذي يمهد الطريق لأنواع أخرى من الإدمان كالكحول والمخدرات” [4].

نتساءل مجددا ألأجل هذا العالم الهوليودي الخرِب تُهدى فلذات الأكباد لعالَم رحى القوى فيه -كما هو ديدن الرأسمالية- يسحق قويه ضعيفه؟ عالم الصناعة والتمثيل حيث القوى متنافرة بين جوع المنتجين وبين النجوم الصغار، ألن يكون خطر الاستغلال أشدّ وأرعن؟

ماذا عن السينما العربية؟

لعلّ الفجوة بين ما بلغته هوليود من تدمير والتمثيل في شاشات ومنصات العالم العربي أكبر من مقارنتها إلى حدّ ما، لكن يبقى المشترك بينهما هو العالم الداخلي لذاك الطفل الصغير في مرحلة عمرية المُفترض أنها تأسيسية للمركزيات والأوليات، مرحلة تكون النفس كالإسفنجة بقابلية عالية على تشرب معاني بعينها: ما الذي يجري في داخله؟ كيف يواجه الفصام بين مشاعره الحقيقة ومشاعر طُلب منه النزول عندها؟ كيف يمكنه رسم الحد الفاصل حين يُطلب منه مثلا رؤية مشهد مرعب كالقتل وعيش مشاعر الفقد او استحضار مشاعر الموت؟ ما الفرق بين أن يكون مهذبًا واقعًا وفي الآن ذاته يعيش شقيًّا تحت الأضواء؟ ما هي حدود الصّدق والكذب؟ وحين يُسحب بساط الشهرة من تحت رجليه بعدَ أن عاش دهرًا كل العالم وما فيه يدور حوله كيف سيتخطّى ندوب هذه التجربة إلا باللجوء إلى المخدّرات كما تكرّر مرارًا!

ثم إن كان عالم السينما نفسه يوجّه المتلقي والذوق العام إلى قضايا معيّنة ألن تكبر هي ذاتها في نفسه فيتبناها ويخدمها ويدافع عنها-أي الطفل-؟

فالإشكال على هذا يبقى قائمًا وإن اختلفت درجاته بين الشّرق والغرب؛ لأن ثمة بناء هناك تُنقض عراه شيئا فشيئا، كان مِن المفتَرض أن يعيش كونه طفلا لكنّه حرق أعواما ومراحل ليكون نجما له وظيفة وراتب إلى جانب الكثير من الأزمات النفسية والتردد على العيادات عندما يفيق من سكرة الشهرة للإقبال على الحياة!

كل هذا علينا استحضاره قبل أن نعلق بعبارات التميز والدهشة والذهول من مشهد احترافي في دقائق يحوي خلفه الكثير من الظّلام!

آباء يتغذون على أبنائهم!

لكن كيف وصل هؤلاء الأطفال أو على الأقل معظمهم إلى مسارح الأضواء إن لم يكن خلفهم مَن أصابه عمى الشهرة وحياة التّرف؟ إنهم الآباء في الغالب!

تقول الممثلة الطفولية السابقة ميليسا جوان هارت، 37 عامًا: “ترى هؤلاء الآباء يريدون أن يعيشوا حياتهم من خلال أطفالهم، برواتبهم الضخمة وما يحصّلونه، وينالهم أيضا نصيبهم من الأضواء فيبدأون في الظهور بمظهر أكثر بريقًا ويقودون سيارات فارهة أكثر من النجم المشهور نفسه”[5].

وبذا تنقلبُ الأدوار فيغدو الطفل هو الراعي والمعيل لوالديه فيدفعونه دفعًا للاستمرار مهما كان الثّمن. تقول الممثلة تيا موري: “عندما كنت أقوم بعمل الإعلان لباربي كانت هناك فتاة أخرى لا تريد هذا العالم، لكن والدتها كانت تدفعها قسرًا للمواصلة” ثم تتابع قولها: “أنت طفل يعمل، لديك وظيفة. هذه الوظيفة هي عمل شاق. يعتقد الجميع أن كونك نجمًا طفلًا هو أمر ساحر. ولكن عندما تكون في عرض، غالبًا ما تقدم عرضًا كاملاً وأنت تعلم هذا، عليك أن تعرف خطوطك.. فهناك مَن يكسب المال منك”[5].

اي قسوة تلك أن تتجاذبكَ حبال الاستغلال عن كل جانب، مجرّد صرّاف آلي والأقسى أن يكون أحد هذه الأطراف أمّك أو أبوك!

أما اليوم فقد ازدادت فُرص الاستغلال وعلمنة براءة الطّفل من قبل والديه لهثا خلف الشهرة والمال، الكاميرا ملك اليد وما عليهم سوى فتحها لدخول عالم الشهرة الماجن.


مصادر الاقتباسات والإحالات:

[1]https://www.express.co.uk/celebrity-news/529490/Judy-Garland-unpublished-memoirs-revenge-Hollywood-film-industry

[2]https://www.cinephiled.com/31-days-of-oscar-the-juvenile-academy-awards-and-the-tragedy-of-bobby-driscoll /

[3]https://www.foxnews.com/entertainment/addicted-in-hollywood-stars-problems-with-cocaine-still-going-strong

[4]https://www.cheatsheet.com/entertainment/are-child-stars-more-likely-to-use-drugs-and-alcohol.html /

[5] https://www.usatoday.com/story/life/people/2013/08/06/child-star-issues/2609493/

[6]https://www.sasapost.com/dark-side-of-the-lives-of-young-hollywood-stars

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد