المعتزلة الجدد
ظهرت الفرق الإسلامية وتبلورت أفكارها طوال قرون، وبقي منها ما بقي كأهل السنة والجماعة والجعفرية والزيدية والإباضية، واندثر منها ما اندثر كالظاهرية والمعتزلة وغيرهم، ولسنا في مقام بيان أسباب اندثار هذه الفرق فإنه مقام يطول الكلام فيه، بل نحن بصدد بيان محاولات بعث هذه الفرق من جديد في هذا القرن، بعد مضي قرون عديدة على اندثارها، وزوال أفكارها.
ولاشك في أن المعتزلة من أهم الفرق الإسلامية التي تركت أثراً في الماضي، وأئمة هذه الفرقة من الشهرة بمكان، وآراؤهم معروفة، ولكنها -ولأسباب كثيرة- اندثرت وبادت، وقد ظهر جيل من المثقفين اليوم ممن يتبنون آراء أئمة المعتزلة ويحاولون إحياءها من جديد، وسموا أنفسهم بالمعتزلة المعاصرة أو الجدد، وأخذوا ينظّرون لأفكارهم في وسائل التواصل الاجتماعي، وأنشؤوا العديد من المواقع الإلكترونية التي تتحدث باسمهم.
أسباب ظهور المعتزلة الجدد
هذه المحاولات التي ظهرت لإعادة إحياء المنهج الاعتزالي تعود للعديد من الأسباب، منها:
1ـ إخراج التراث المعتزلي إلى العلن وإعادة طباعته من جديد، بعد أن كان مخطوطات على رفوف المكتبات العالمية، والقائمون على هذا العمل لا ينتمون إلى المنهج المعتزلي، بل غالبيتهم ينتمون للمذهبين الزيدي والسني، وغالب هذا التراث كان مبثوثاً في مكتبات اليمن، وما زال الكثير من التراث السني والمعتزلي والزيدي مخطوطاً ينتظر من يخرجه للعلن، ومن أهم الكتب المعتزلية التي طبعت موسوعة “المغني في أبواب العدل والتوحيد” و”المحيط في التكليف” و”تنزيه القرآن عن المطاعن” و”شرح الأصول الخمسة” وكلها للقاضي عبد الجبار، كما طبعت كتب الملاحمي المشهور بركن الدين الخوارزمي، وكذلك كتاب “الاستقصاء” لتقي الدين النجراني، وغيره من الكتب والمؤلفات التي ترجع لأئمة المعتزلة المتقدمين والمتأخرين منهم.
قال الشيخ أمين نايف عند بيانه للأسباب: “ما حنت عليه الزيدية في اليمن لقرب مذهبهم من الاعتزال، وإذ عثرت عليه البعثة المصرية في رحلتها لليمن عام 1951م، وكانت برئاسة الدكتور خليل نامي شكلت انقلاباً في التفكير في أمر المعتزلة وكأن تأثيرها قوياً” [انظر مقال: عودة المعتزلة، على موقعهم الرسمي].
2ـ الانحدار السريع الذي تعاني منه الأمة، وضعفها في مواجهة موجات الإلحاد، منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي حيث أخذت نظريات التطور وغيرها بالانتشار شرقاً وغرباً، في حين وقف العالم الإسلامي منها موقف المنبهر والتائه، وبدا موقفه غامضاً منها.
3ـ إعادة إنتاج الخطاب الإسلامي الوعظي والبرامجي، والتسلح بسلاح العقل بعد إهمال العقل من قبل الفرق الإسلامية، حيث يتهم المعتزلة الجدد الفِرق الأخرى بالاعتماد على النص وإهمال العقل، أو الاعتماد على الخرافة وإهمال العقل، مما أدى إلى حالة الضعف العلمي بالأمة الإسلامية، ولذلك يرون وجوب إعمال العقل من خلال “النظر” الذي يرونه أول واجب على المكلف، وبالتالي نصل للتوحيد والعدل، وأخيراً إلى نهضة الأمة الإسلامية.
4ـ يؤمن بعض المعتزلة -وخاصة بعض منظريهم على مواقع التواصل- بنظرية المؤامرة الفكرية عليهم، وأن مذهبهم لم يندثر، إنما كان مبثوثاً هنا وهناك، حيث تم منعه من الظهور أصحاب الإسلام السياسي، أو كان مختبئاً وراء الأفكار العقلانية والتنويرية التي يبثها بعض المفكرين، وبالتالي فهم غير غائبين عن ساحة الأمة الفكرية، ولكنهم كانوا ينتظرون الفرصة المناسبة للخروج، بحيث تسمح عقول شباب الأمة في تقبلهم بعدما تعرضوا للظلم على يد المدارس الإسلامية التي تسيطر على الساحة الإسلامية من خلال تشويه آرائهم وأقوالهم، والافتراء على أئمتهم وتشنيع مقولاتهم قديماً وحديثاً.
إمام المعتزلة الجدد
يعرف المعتزلة المعاصرة أنفسهم كما جاء في موقعهم الرسمي بأنهم: “كيان فكري، يعمل لإيجاد طريقة تفكير على أساس الإسلام عند المسلمين، ولتحديد منهج قويم لفهم القرآن الكريم، ولتوضيح معالم منهجية للتثبت من سنة الرسول صلوات الله عليه، وكيفية الاستدلال بها، وهي حركة قراءة إبداعية للتراث الإسلامي، وبالتالي في حركة في الأمة” [انظر مقال: المعتزلة المعاصرة، على موقعهم الرسمي].
ويشددون على ضرورة انفكاك الأمة الإسلامية عن التبعية الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية عن الأمم الغربية، وكذلك بعث روح الوحدة في الدول الإسلامية، لتأسيس دولة إسلامية تتحلى بالقوامة على أفرادها، قوامة الهداية والطمأنينة، ويرون أن الفكر المعتزلي هو الفكر الفاعل والقادر على القيام بذلك.

أمين نايف ذياب
ويعد الشيخ أمين نايف حسين ذياب “أبو ياسر” الأب الروحي والمنظر للفكر المعتزلي المعاصر، بل يسمونه “أمير المعتزلة”، وهو مولود في شهر شباط 1931م، وهو فلسطيني من حيفا، وقد عايش احتلال الصهاينة للأراضي العربية قبيل نكبة 1984م، بل يذكر عن نفسه -كما في الموقع الرسمي- أن والده كانت له علاقة قوية بثوار حيفا الذين كانوا يهاجمون المستوطنات اليهودية، ومن ثم انتقل إلى الأردن بعد النكبة، وانتسب لحزب التحرير الإسلامي.
وله عدة مؤلفات ضمن موسوعة جدل الأفكار وتتناول العديد من الأفكار وفق رؤية المعتزلة الجدد كالقضاء والقدر والمسيحية والسلفية والعقل والصحافة والقضية العراقية والمرأة والقومية العربية والأشعرية والخطاب النقدي عند المعتزلة والديمقراطية والليبرالية الغربية وموقفه من الوثائق الأمريكية السياسية وواجبات الدعوة، وغيرها من الكتب والمقالات والمؤلفات التي يتبلور من خلالها موقف المعتزلة الجدد من قضايا الأمة وما يدور في ساحتها من أحداث.
وشارك أمين نايف حسين ذياب في العديد من المنتديات والمؤتمرات والورشات العلمية، وتوفي في شهر حزيران عام 2006م، وترك وراءه العشرات والمئات من الشباب الذين يتبنون فكره الاعتزالي، ويعد باعث المعتزلة الجدد.
وفي هذا يقول: “لقد كان لحال التردي والسقوط التي عليها الأمة، دعوة إلى ظهور حركة المعتزلة بعد عشرة قرون من اندثار المعتزلة، ظهرت في الأردن عام 1990م، ثم توسعت في غير الأردن، ولا تزال الحركة دائبة الحركة تناضل وتكافح من أجل تصحيح ذاكرة الحركة، للعودة مرة أخرى لتتبنى منهج المعتزلة في فهم الإسلام، بنشر الفكر والجدل الحي فيه، وعرضه ليكون دعوة لاستئناف الحياة الإسلامية” [المرجع السابق].
هل الأمة بحاجة إلى المعتزلة الجدد؟
ربما تكون هناك أسباب خاصة للشيخ أمين نايف لتبنيه المنهج الاعتزالي ومحاولة بعثه، ولابد لنا أن نحمله على محمل حسن كغيرته على الأمة الإسلامية، ومحاولته الوصول إلى سبيل لإخراجها مما وقعت فيه من الانحطاط والضياع، وعجز الأمة عن الخروج من هذا المأزق، وذلك أخذاً بظاهر ما يقوله هو عن نفسه. إلا أننا لابد أن نناقش أسئلة أخرى، وهي:
هل الأمة بحاجة إلى المعتزلة اليوم؟
وهل قدم المعتزلة للأمة قديماً شيئاً جديداً تفردوا به عن بقية فرق الأمة أم لا؟
وهل دور العقل الذي سيقوم المعتزلة المعاصرة بتفعيله أهمله المسلمون؟
وماذا لو طرح الشيخ أمين نايف مشروعه التجديدي في دائرة أهل السنة بعيداً عن تمزيق الممزق، وتفتيت المفتت؟
أعتقد أن المتأمل لهذه الأسئلة سيجد الجواب جلياً في ثناياها، بل إن اندثار المشروع المعتزلي لعشرة قرون كاملة لهو أكبر دليل على أنه ليس حلاً لمشاكل الأمة، وخاصة إذا علمنا أن هذه العشرة قرون تخللتها مدة طويلة للانحطاط الإسلامي والضعف والتشتت، ونهض المسلمون من جديد بعيداً عن فكر الاعتزال.
وجميع ما يمكن أن يقدمه المعتزلة الجدد للأمة من الممكن القيام به انطلاقاً من أصول المذاهب الإسلامية الموجودة على الساحة اليوم، وبالأخص مشروع أهل السنة الكبير، الذي يجد المعتزلة فيه مجالاً كبيراً لإعمال العقل، وخاصة لدى أصحاب الفكر السني الأشعري والماتريدي الذين اهتموا بالعقل كثيراً وأولوه عناية خاصة، حتى تم اتهامهم بأنهم معتزلة ويقدمون العقل على النقل، بل اتُهموا بأنهم يجعلون العقل حاكماً على النقل.
وانطلاقاً من التبرير الذي قدمه المعتزلة الجدد لظهورهم، وهو النهوض بالأمة عن طريق تفعيل دور العقل، من الممكن نقض هذا الكلام، وذلك أن مشكلة الأمة ليست بإهمال العقل لوحده، بل إنها تقوم على شيئين:
1ـ إهمال العقل، الذي هو أداة التفكير ومناط التكليف، وهو ما يعتمده المعتزلة الجدد للقيام بالأمة الإسلامية من سباتها.
2ـ إهمال النقل، وهو ما أهمله المعتزلة قديماً وحديثاً، بل إن من أهم أسباب اندثار المعتزلة قديماً إهمالهم لعلوم القرآن والسنة، وتحكيم العقل على النقل، مما أدى إلى التصادم بينهما.
ولا يمكن أن تنهض الأمة اليوم إلا بما نهضت به أولاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وما تلاها من عصور سيادة للأمة على بقية الأمم، ولاشك أن الامة سادت بالقرآن والسنة أولاً، ثم بالعقل الذي حث النقل على تعزيزه، من خلال نصوص كثيرة تحث على التفكر والنظر والاستدلال.
وهناك أسباب كثيرة تجعل الأمة في حالة استغناء عن بعث المعتزلة من جديد، فأولويات الأمة اليوم إنما هو محاربة الإلحاد والعلمانية والأفكار المعاصرة التي تحارب الإسلام، وتحاول إثارة الشبه حوله كل يوم، وظهور المعتزلة إنما يعزز هذه الهجمة الإلحادية، من خلال عدة وجوه، ففيها إشغال لعقول المثقفين عن الأهم، وإرهاق لهم ولأفكارهم عن مدافعة الإلحاد والعلمانية التي هي أكثر الأمراض انتشاراً في هذا العصر، فضلاً عن إمعان التفرقة بين المسلمين، وكثرة تشتتهم.