المراهقون.. هل جربت يوماً أن تحاورهم؟

دائماً ما نتشبث بإشكالية العجز عن متابعة المراهق بتناقضات شخصيته، وبكل ما تحمله هذه الشخصية من نزق أو سكون أو عنفوان، ودائماً ما نتبع إحدى طريقتين إزاء مشكلاته التي يمرّ بها، إما المتابعة بأكبر قدر ممكن من السلبية وعدم المبالاة، أو عبر التصادم العنيف، والذي يؤدي غالباً إلى طرق مسدودة، أو كوارث تبقى آثارها طويلاً على صعيد الأسرة، إن لم تتعداها إلى سواها.

ودائماً ما تتردد على ألسنة الراشدين المحيطين بهم عبارات تنم عن السلبية والعجز والاستسلام، ونعلن الحرب وأنه ما من مفاوضات ممكنة، ونفتش في الوقت ذاته عن كائن أسطوري يحمل عنا عبء حوارهم، والنزق في شخصياتهم، وصعودهم وهبوطهم فوق السطور وخروجهم بإصرار خارج النص، وكأن مسألة الحوار باتت معجزة.. كل هذا نراه في تعاملنا مع عالم المراهقين وبعدنا عن الحوار معهم.

بين الجهل والقرب.. هكذا اكتشفت عالمهم

كنت شخصياً أجهل تماماً ذلك العالم، وأعتبره بمثابة مساحات يلفها الغموض، عالم مهجورٌ تماماً إلا ممن يتشابهون في الأعمار والرغبات والمشكلات، عالم شكّله المراهقون على هواهم، وقرروا ذات تمرّد أن يطردوا كل من لا يشبههم، أو كل الذين يعلنون صمتاً أو جهراً بأنهم لا يقبلون بهم، ولكنني وجدت نفسي غارقة فيه دون أن أشعر، ووجدت نفسي ضمن مشكلات هذه الفئة أغوص لأبحث في همومها التي لا يأبه بها أحد، وهنا بدأت حوارات متعددة معهم علمتني –باعتقادي- أكثر مما علمتهم، وأضافت إليّ أكثر مما أضافت لهم.

في السنوات القليلة الماضية كانوا يأتون بحجة استعارة بعض الكتب من المكتبة العامة –التي أشرف عليها- وهي تحتوي على بعض الكتب الملفتة والروايات، وسريعاً نشأت علاقة ودّ بيننا، كنت أكتشف من خلالها أنهم بحاجة للحديث لا أكثر، فهم يأتون محملين بأرتالٍ من الهموم والتساؤلات والمخاوف، وغالباً لا يأتون باحثين عن أجوبة، هم فقط كانوا بحاجة لمن ينصت إليهم ويستمع باهتمام، وفي طبيعة الحال لم أكن أمتلك حلولاً جاهزة لما يقومون بطرحه، ولكنني كنت أدركك تماماً أنهم يبحثون عن من يستمع، ويتقبلهم ولا يلفّهم مرّة واحدة بألوان من القيود، والاستنكار والنصح المباشر.

هم قادرون على التمييز لكنهم ببساطة غير قادرين على القيام بالفعل المناسب، لأنهم في مراحل معينة لا يتمكنون من التفكير، ففي عقولهم ثورات مختلفة وعواصف من الأفكار والتساؤلات والمشاعر، تمنعهم عن التصرف بحكمة وما ينقصهم هو فقط مساعدة على ترتيب ما تبعثر بتفهم أخوي، بعيد عن الأستذة وأسلوب الأبوية الذي يمقتونه.

هم يحبون المنطق، لكننا لا نستعمله عادة لأننا نتبع سياسة ادخار الوقت معهم، ولأن أسئلتهم وقضاياهم تستدعي التفكير والتأمل الطويل، ولأننا نعجز أحياناً عن إيجاد أجوبة، ولا نمتلك الشجاعة الكافية لنصارحهم بأننا لا نعلم، ولا التواضع الكافي لنطلب منهم أن نتشارك في البحث معاً لنحصل على أكبر قدر ممكن من الأجوبة.

 

إليك عزيزي المراهق

ليس على أحد فرض التوقيت الذي تود فيه أن تعرض همومك، فأنت أدرى بذاتك، ومتى تود التحدث، وأنت أعلم بالتوقيت الذي يمكنك فيه البوح، واللحظة التي ترغب فيها بالتحدث مع أحد.

غالباً ستكون لحظة اختناق، لحظة كبت لدمعة، لحظة تعامل خاطئ مع صرخة، أو لحظة يتعزز فيها اليأس من كل شيء، والتمرد على كل شيء، لا بأس، حدد توقيتك الملائم، واختر الشخص الملائم أيضاً، فالبوح ليس سهلاً، وطرح قضاياك وهمومك يستحق من يهبك عقله ومشاعره في آنٍ معاً، فلا يطغى شيء على شيء، حتى تصل بنفسك إلى الصواب، ولكن المهم أن تطلب المساعدة متى احتجت إليها.

وفي الوقت ذاته لا بد أن تراعي أمراً مهماً، فالطرف الآخر أيضاً له موعد مناسب وآخر غير مناسب، فلا تغضب إن أتيت ووجدته مشغولاً، وتأكد أنه هو الآخر يود محاورتك، ولكن على أن يتم التوافق بين الطرفين على موعد مناسب لكليكما، فلا تعتبر ذلك تجاهلاً أو انتقاصاً من شأنك، ولا تظن بأن الكبار يرغبون فقط بالاستماع للكبار، وتأكد بأن همومك ذات أهمية لديهم، وكن واثقاً ولا تتردد من العودة مرة أخرى في موعد ملائم.

ثم إنك تعرف صوتك تماماً وأنت تتحدث مع الآخرين في مدرستك، ومع البائع ومع العابرين في الشارع، تعرف صوتك عندما تمازح أحدهم المزاح الثقيل، وتعرف صوتك عندما تغرق في موجة من الغضب الجنوني، تعرفه تماماً فما أكثر نوبات الغضب في هذه المرحلة! ولكن ما تكتشفه حقيقة وأنت تبوح لأحدهم عن نفسك وهمومك ومشاعرك، ما تكتشفه وأنت تعرض على شخص ما تثق به شيئاً من ضعفك، هو صوتٌ جديد خارج بكل صدق ممكن من أعماقك، صوت مختلف وكأنها ذاتٌ أخرى داخل ذاتك، صوت يحمل لغة جديدة، ومفردات جديدة تحاول جاهداً أن تنتقيها وتستخلصها ليس من باب إظهار الأجود من الكلمات ولا لأجل الاعتناء بها، بل لأنك تفتش عن الكلمة المناسبة التي ادخرتها في خبايا عقلك، حتى تقادم عليها الزمان ولم تستعملها أبداً، حتى جاءت اللحظة المناسبة والموقف المناسب لتكتب للكلمة ولادة جديدة، لتشعر بأهميتها حين تُقال.

أنت الذي لم يسألك أحد يوماً عن رأيك في أمر من الأمور، حتى في تخصصك الذي تود أن تختاره في دراستك، أو في لون ملابسك، أو موقفك من المشكلات والقضايا المطروحة على الساحة، لم يحدث أبداً أن فكر أحد وسألك ما موقفك، وما قولك؟ حتى شعرت أنك إنسان بلا رأي، ولماذا تُصدر رأياً ما وأنت ممنوعٌ من التفكير، قد وكلت سواك ليفكر عنك ثم يقرر، وقد حُرمت من ذلك كله بحجة مراهقتك، ستكون لحظة مؤثرة تلك التي تبدأ فيها بالشعور بذاتك والتعبير عن رأيك، أما الطرف الآخر الذي قرر أن يستمع إليك، فستجد لكلماتك وقعاً في نفسه وأثراً.

وبعد أن تسمع صوتك وأنت تعرب عن رأيك، ستجد نفسك منتقلاً مع محاورك إلى مرحلة جديدة، مرحلة يطرح محاورك فيها سؤالاً جوهرياً قد يزعجك، وقد يربكك، وقد تحار جواباً، لكنه سيحفزك حتماً للبحث عن إجابة ما تجد لها مكاناً في تلك القضية التي أثارتك، سيسألك مُحاورك: ماذا تجيد؟ وبرأيك ماذا يمكن أن تفعل؟ أو أن نفعل؟

وهنا ستجد نفسك منهمكاً في سلسلة من الأفكار والتحليلات ورسم الخرائط ووضع الخطط، ستجد نفسك مهموماً بالفكرة، لكنك ستكون سعيداً بذلك الهم وهو يرافقك، وأنت تتأبط ذراعه كصديق حميم، ثم تعود ومعك الكثير من الأفكار والاقتراحات والتوصيات.

عزيزي المراهق، أدري أنك تشعر وكأنك تسير على أرضٍ هشّة، وأنك في كل ما يدور داخلك من تساؤلات تود لو أنك تستند على أرضية صلبة فيها كثير من القصص والشواهد والأدلة، وأن هناك قصص تتذكرها منذ طفولتك تظل تلوح في خاطرك وأنت تمرّ في حالات وأحوال مشابهة، ولذلك أطلب منك ألا تستسلم، وأن تعزز أدواتك بقوة، وتظهر براعتك وتدافع عن فكرتك وأنت تبحث، لتتقصى الحقيقة، لتصل إلى الحق وليس لمجرد أن تنصر رأيك، حاول أن تستخدم ما بين يديك من أدوات مهمة، وأن تعرضها بذكائك وبراعتك، لتصل إلى غايتك.

وأقول لمن يحاورك، استمتع بفرصة الحوار مع الشباب في هذه المرحلة العمرية، وانهل ما استطعت من أفكارهم المتجددة، والتي تذهب بك خارج حدود التقليدي والمألوف، عِش معهم تجربة صداقة ستكتشف لاحقاً أنها الأعمق كلما وثّقتها بالصدق وكلما عززتها بالإيمان وحاولت أن تجعل منها صداقة فريدة، لأنك ستدرك أن هذه الفئة حينما تختارك لتكون موضع أفكارها وأسرارها، فلأنها تثق بك، فلا تخذلها وكُن على قدر الثقة.

شارك المقال