المؤمن القويّ خير وأحبُّ إلى الله!

image_print

نولد نحن المسلمون، ويصحبنا في فطرتنا ذلك الشعور الذي يغمر جنباتنا، مليء بالعزة والأنفة، تصدع به صدورنا، كأنه برنامج حماية لنا ولنفوسنا وضعه المقتدر الجبار فينا ولا تقوم لنا قائمة إلا بتفعيله..

شعور أكاد أجزم أنه ليس لأحد إلا للمؤمن في هذا الدين العظيم الذي يدعونا لما يحيينا، يدعونا لاستجلاب كل أركان العزيمة والقوة والطموح، ليستخرج أفضل ما فينا.

كثيرون في عالمنا اليوم فطرتهم تلك مطموسة نتيجةً لعدة عوامل، على رأسها الظلم والجور والخنوع وما يُعرَف بقهر الرجال -نعوذ بالله منه- فعملت تلك الضغوطات على جعل فطرتهم متنحية غير ظاهرة..

المؤمن القويّ خير

إن هذا الدين العظيم والدستور الرباني لا يقوم أصلا إلا بتفعيل تلك الفطرة، فطرة عدم القبول بالذل والهوان والتعدي والتجبر، فهي مزروعة في أوردتنا على لسان نبينا صلوات ربي وسلامه عليه حين قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير) [أخرجه الإمام مسلم]

والقوة هنا تشمل كل أنواع القوة التي تقيم للإنسان حياة في هذه الأرض، فتكون القوة الجسدية والقوة الاقتصادية والقوة المادية وقوة الفراسة والقوة الفكرية وقوة الوعي وقوة السلاح وقوة العتاد والعدد والعدة، وكلما اكتشفت إحدى تلك الجوانب من القوة جعلَتْ منك شعلة وكتلة من الطاقة والحيوية، وقد قام مجد هذا الدين على أكتاف وعقول قوية.

أتخيَّلُني أشاهد سيدنا الفاروق عمر رضي الله عنه وهو يقتحم دار الأرقم ويبحث عن نبينا الكريم وقد ملأ الحق قلبه فأعلن إسلامه بعد أسد الله حمزة بثلاثة أيام فقط، ليتبدل بعدها حال القوم هناك فتصبح الدعوة جهرية أكثر من أي وقت مضى، وما كان من انبهار سادة قريش مثل قولهم: واللات لقد أسلم عمر.

شعروا بذلك في هواء مكة، لقد شعروا بتلك القوة والهيبة من تصرفات الناس وحالة الوجوه، لقد أسلم عمر!.. القوة تتحدث هنا، سيدنا عمر رضي الله عنه بكل هيبته وقوته أصبح الآن في صف المسلمين، لقد علموا أنه آن الأوان لكل مسلم بالجهر بالدعوة، أي مذ أسلم عمر.

وهكذا، فإن أجدادنا بداية من الخلفاء الراشدين الذين وصلوا السند والهند، مرورًا بصقر قريش ويوسف بن تاشفين وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وغيرهم ممن يأبى التاريخ إلا أن يذكرهم، أولئك هم من قامت الفتوحات على أكتافهم وراحاتهم.. فتوحات لا تقوم على أكتاف أرجلٍ متقهقرة، وأمة تشعر بالدعة، نظراتها خائرة تائهة لا تعرف ماضيًا ولا تكتب حاضرًا، وإنما تقوم على أكتاف الأقوياء الحُذَّاق ذوي الفراسة، الأقوياء فكريًّا وماديا واقتصاديا وعدة وعددا.

حين تتحدث القوة

لقد عمل أعداء الإسلام من الداخل والخارج على حد سواء، لزرع مفهوم مغاير مخالف لمفهوم الدين الذي أنزله الله، فأرادوا أن يكون الدين -في عقول الأجيال القادمة- محصورًا في أداء الصلوات في المساجد والتلاوة اللفظية للقرآن الكريم، والاستماع لخطبة الجمعة الموحدة التي تتحدث عن الشعائر الروحيّة المتمركزة على علاقة الفرد بربه، إلا أن الحقيقة هي أن الدين أكبر وأعظم من ذلك بكثير، فالإسلام وإن قام جزء كبير منه على العبادات الشخصية التي تنحصر بين العبد والله عز وجل وسيحاسب على أدائها أو تركها في الآخرة، إلا أنّ الله سيحاسبك أيضًا على الأثر الذي تركته في هذه الحياة وعلى قدرتك الهائلة التي زرعها الله داخلك على التغيير، والتي أهملتها أو نسيتها أو لم تعمل على تفعيلها لخدمة الإسلام دينًا في مجتمعك ودنياك.

قال النبي عليه الصلاة والسلام (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها) [أخرجه البخاري وأحمد] فما معنى هذا الكلام؟

إن المعنى المتبادر للأذهان هو وجوب كون الإنسان دائم السعي للفعل، فيكون مؤثرًا فيما حوله، مثلما تعرف الحركة في الفيزياء، فيؤثر الفرد على أشخاص من حوله في دائرته القريبة، ثم يتحول الأثر إلى سلسلة من الآثار –أو ما يعرف بنظرية أثر الفراشة- فتؤثر موجة الدائرة القريبة على الموجة التي تليها ثم الموجة التي تليها ثم الموجات التي تليها، فكم من فكرة أشعل فتيلها شخص واحد، ثم ما لبثت أن أصبحت منهج حياة للعديد من الأفراد بل لجماعات كاملة.

يرتكزُ ديننا على غرس العزة والقوة والكرامة في نفس المؤمن به، ويرفض الضعف أو التقهقر أو الانكماش والخنوع، ولذلك فإنه من المستغرَب أن يؤمن بعض الناس بروايات ومحكيّات هزيلة عن النبي صلى الله عليه وسلّم، بعيدًا عن ضعفها، فإنها تفوح برائحة الضعف، كأن يقال إن يهوديا كان يضع القمامة أمام بيت النبي صلى الله عليه وسلّم، وأن النبي افتقده حينما لم يجد القمامة أمام بابه! فبالله عليكم، هل يعقَل أن يحدث هذا والنبي بين صحبه وقومه، بل تخيّل تلك الوجوه المؤمنة برسول الله وهي تقف عاجزة عن أن تدفع عن نبيها أذى رجل واحد يضع القمامة أمام منزله، أفلا يحاولون تحريك ساكن على الأقل؟!

إن هذا أمر لا يصدقه عقل، بل إن الفطرة السليمة لا تقبل هذا التصرف من جمع الصحابة في حال صدق ذلك القول، إلى جانب ذلك نرى الكثير من الأحداث والمرويات عن الأنبياء السابقين وصلتنا بطرق الإسرائيليات والقصص الدخيلة، وهذا -بحد ذاته رغم ما فيه- يشعرنا بأهمية علم الحديث الذي يحقّق بدقة في كل ما وردنا عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يحفظ مقولاته وأفعاله وسيرته.

 أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (أرأيت إن جاء رجل ليأخذ مالي؟) فقال: لا تُعطه مالك!، فقال الرجل: أرأيت إن قاتلني؟ فرد النبي عليه الصلاة والسلام قائلا: قاتِلْهُ !فقال الرجل: وإن قتلني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فأنت شهيد !فقال الرجل: أرأيت إن قتلته؟ فردّ النبي عليه الصلاة والسلام قائلا: فهو في النار ![أخرجه الإمام مسلم]

لو طُرح هذا السؤال على كثير من العلماء والدعاة في زمننا هذا لقالوا: وماذا تساوي الدنيا يا هذا؟ لا تُضيّع نفسك لأجلها، فخير لكَ أن تصبر يا بُنيّ ! لماذا أنت قلق!؟ لا شيء يضيع عند الله سبحانه وتعالى!

وانظر إلى هذا الخطاب وقارنه بخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين يشرّع للإنسان مبدأ الدفاع عن الكرامة، فيعلّم الإنسان ضرورة ألّا يسمح بمسّ كرامته.

أتذكّر جيدًا السبب الذي شدني لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر (يا أبا ذر إنك امرؤ ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها) [أخرجه الإمام مسلم] وهو أن القيادة والإدارة تحتاج إلى القوة والأمانة والثبات.

النجاح رهينٌ بالقوة

إن استقراء التاريخ يؤكّد لنا أن الدول المتحضرة لا تنهض للتوسع والتحكّم بالدول الأخرى إلا عندما تمتلك قدرًا من القوة والإدارة والإرادة يفوق ما لدى خصومها والطامعين بها، وهذا ما تحقق في تاريخ مختلف الدول السابقة على الإسلام واللاحقة له، فكان فتح المشرق والمغرب والسند والهند رهنًا للعقيدة من جهة ولعوامل مختلفة من ناحية أخرى كالتجهيز العسكري المتكامل والتخطيط الدقيق والقوة المالية واستغلال ثغرات الضعف، وما زال الحال هو هو، فما يتحكّم في العالم الآن إنما هي القوة المالية والاقتصادية والعسكرية.

ولا غرابة أن يأمر الله عز وجل المسلمين موجّهًا قياداتهم بالإعداد المستمر للقوة لمواجهة الأعداء فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]، وينطبق المعنى المعاصر على القوة الفكرية والاقتصادية والعسكرية.

توجّهنا نصوص الإسلام إلى التعامل مع الواقع بما يمكننا من التغلب عليه بناء على قيمه ومقاصده، فلم يغلب الإسلام جهة روحية على أخرى عمليّة، وإنما كان دين شعائر روحيّة وعباداتٍ عملية، وأمرنا بتغليب الحكمة في أحوالنا كلها، ولنا في رسولنا أسوة حسنة حينما استمر بدعوته سرا وهو يمكن الأركان الأساسية لدعوته ومن ثم بدأ بالدعوة جهرا بعد التمكين وتحقيق ما يستطيع من القوة المالية والبشرية، وهكذا كان شأنه كلّه في مختلف أحواله في المدينة، فكان يجهز للأمر ثم يمضي إليه.

 انظروا إلى موقف سيدنا عثمان بن عفان عندما جاء إلى النبي أثناء تجهيز جيش العسرة فقدم إليه ألف دينارٍ كانت في كُمِّه (فنثَرها في حِجرِه فكان النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُقلِّبُها في حِجرِه ويقولُ ما ضَرَّ عثمانُ ما عمل بعدَ اليومِ) [أخرجه الترمذي في السنن]

ألا يؤكد لك هذا أن جوهر الزهد ليس الفقد وإنما القدرة على الاستغناء عن المال في سبيل الله، فإن ذلك والله وسيلة ليس لها مثيل لدخول الجنة، فينفق على المسلمين ويرفع من شأنهم ويعلي هممهم.

إن الافتخار بهذا الدين العظيم حقٌ لكل مؤمن به، وليس ذلك لأننا ولدنا في بيئة مؤمنة به، ولا لأن آباءنا وأجدادنا كانوا من أهله، ولكن لأن دين الإسلام هو دين الحق، وحضارته حضارة الرحمة والعدل، فالاعتزاز بها اعتزاز بالإسلام، والاعتزاز بالإسلام اعتزاز بالعبودية الحقة لذي العِزّة والجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65]، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد