الكتاب بين النبذ والاكتفاء
كنت أسمع وأقرأ لأصحاب الوعي ومن زكوا نفوسهم فترقّيت في فهم الوحي ودوره في الإصلاح والتربية، حين يقررون أن كتاب الله يغني عن كل ما سواه، فيؤمن القلب أنه هذه الرؤية حق، ثم ألتفت فأجد من حولي ينقضون تلك الرؤية عملا وقولا، ولست بمعزل عنهم، فقدماي مبتلتان من ذلك السيل العارم يبتغي إزاحة الحق ليظل وحيدا بعيدا مطرودا من الساحة..
كانوا يسألون وكنت معهم أدير فكري إذا ما قيل دعوا الباطل وما شابهه وإن تزين ببعض الحق وبعض الجميل؛ فأتساءل ما البديل؟
حاجتنا إلى القرآن في زمن الترفيه
جال ذهني في بداية الأمر، أن الرسوم الكرتونية بأشكالها، المسلسلات والأفلام وغيرها من مواد الترفيه وشغل الوقت، قد ابتدعها من يحتاجها.. لقد كانوا فعلا في حاجة إلى ما يملأ فراغ قلوبهم، ربما تحمل قِيَمًا ما، تعّرف بثقافة ماضية، تذّكر بآداب منسية، وربما لشغل الفراغ الذي لابد أن يُشغل ويُقضى..
وتذكرت حين كنا ندَرس تلك الآداب والقصص الذي كان بدايتها من هناك، وكنا نحاول أن نثبت كعادتنا أننا لم نتأخر عنهم، فقد كانت لدينا المقامات والرسائل الأدبية وأدب الرحلات والسير والتراجم وهي من جنس القصة. لكن ذلك يبدو الآن على خلاف ما كانت عليه حقيقة الأمر.
لقد كان لدينا نحن ما يملأ ذلك الفراغ، ما لو حملناه في قلوبنا لامتلأت حقا، ولانشغلت بالشغل النافع والفكرة المضيئة والمتعة الراقية، كان لدينا ما يكفينا لو عشناه كما عايشه ذاك الرعيل الأول.
إن الإنسان الذي اقتضت الحياة أن يمضي باذلا جهدا أيا كان نوعه ليقيم به عيشه، وليكون جزءًا من الحركة الدائرة في الحياة، ولا بد للإنسان أن يبحث في نهاية يومه أو أسبوعه عما يريح عقله ويجم فؤاده، فيصنع لنفسه ألوانًا من الفنون تبهج قلبه المتعب والراكض أبدًا إلى متعة وراء أخرى..
وفى محاولات الفهم، بدا لي الوحي حاضرًا في مقابل ما كان قائما في الشعوب والثقافات، في مقابل اللهو والأساطير والغناء وما إلى ذلك.
لاريب أن القرآن كتاب هداية، لكنه كتاب أُنْسٍ كذلك بما فيه من قصص، وعلم وإشراقات وقرب. القرآن يدعوك أن تعود إليه إذا فرغت من شغلك فتنصب قدميك بين يدي الملك وتتلوه بحب وإخبات فيرتاح قلبك ويهنأ..
وليس المعنى هنا نفي ما هو مباح من ألوان الفنون، لكن القصد أن تتشبّع جنبات روحك أولا من ذلك النبع الرقراق، وأن تتضلع من مائه العذب فلا يأتي غيره إلا وقد نلت غذائك ونمت أوردة فكرك وتغذت بما يليق بها.
فإذا اطلعت على ما سواه بزينته وبهرجه الخالب للأعين والعقول، كان اطلاعك عليه محددا بقدر ذلك الفراغ اليسير الذي توجده بشريتك وتجول فيه حواسك الظاهرة، فما يقدر أن يصيب منك كثيرا. كما أن ما تستروح به النفس مما سوى الكتاب أدبا أو فنا أو ما دون ذلك لن يكون بعيدا عنه، ستجد النفس تقبل على ما تشبهه وما يتوافق معه وما لا يهدم الأساس الذي تبينه من خلاله، فما تركض قليلا وتتذوق من تلك الثمار التي علمت طيبها إلا وجدت نفسك تقبل من جديد على الحق متلهِّفًا نشِطًا.
القرآن هدايةً في قضايا الوجود
لقد كان الناس قبل القرآن يضعون تصورات خاصة لهم، يؤلفون أشعارا ويخترعون مقاييسا، ويقررون قيما وعادات وسننا يتبعونها، فنزل الكتاب ليعيدهم إلى الحق وإلى الرشد وإلى التصور الصحيح. جاء القرآن ليقدم لهم ما هم في حاجة شديدة إليه من تعريف بخالقهم وبما يجب عليهم في هذه رحلة الحياة القصيرة، وما الذي ينتظرهم بعدها، جاء القرآن ليضع برسالته الخاتمة الملامح العامة لكل قضية في الوجود. لذلك كان الكتاب حينها يجب ما كان قبله، تلقفه من آمن به موقنا أن فيه الكفاية وأن به الرشد وأنه العاصم من كل زيغ. وفى المقابل كان فريق الجاحدين يتواصون باللغو فيه وبإشغال الناس بالزيف والباطل والأساطير الملهية كي لا ينفذ إلى القلوب أثره ولا يمتد إليهم نوره وهداياته.
ولم ينشغل النبي صلى الله عليه وسلم بباطلهم، بل كان منشغلا بتلقي الوحي وتبليغه، وكذلك من حملوا بعده الرسالة، لم يتحيروا كيف يعرضون أنوار الكتاب لمن هو في شغل عنه، ولم يخلطوا ما فيه من حق ببعض الزينة المتكلفة لكي يقبل من يعجبهم اللهو والباطل. فقد كان إيمانهم أن الحق ناصع وأن أنواره تجذب إليه أصحاب الصدق والفهم يحجزهم عن الوقوع في ذلك الشرك الواقع في زماننا.
وليس أدل من أثر اتباع المبطلين وتلمس وسائلهم ومحاولة السير في ركابها من أن الحق يخفت أثره في القلوب حتى تكاد أن تأكلها الريبة أو أنها تتفلت وتأخذ من الكتاب ما تشاء وتدع ما تشاء، فإن الخطوة الواحدة تتبعها خطوات ومنازل حتى تنزلق الأقدام وتخالف الطريق. وإن النفس تألف ما عوّدتها عليه، فإن عُودت على اللهو وعلى التماس النفع والحكمة والراحة فيما هو معروض بجميل الألوان والأقوال مما ألّفه البشر وأنتجوه شرقا وغربا، ألِفت ذلك وصار أنسها ومتعتها الغالبة فيه، وصار الكتاب ثقيلا، ترى بينه وبينها بعد المشرقين.
ولقد كان القرآن يومئ إلى ذلك كثيرا ليفهم خاصيته تلك من يعملون العقول ويقدحون الفكر في معانيه فيكتفون به في سد فاقة القلوب القلقة المتوثبة، قبل أن يتطلعوا إلى المعروض هنا وهناك. فتراه يذم من أعرضوا عن الكتاب ممن أوتوه قبلنا، ثم يعرض بصورة صريحة المقابل لذلك، ويوضح مؤدى هذا الترك عليهم، لقد انشغلوا بغيره من الباطل! فلا يترك أحد الحق إعراضا ورغبة عنه وتفلتا مما يحمل المرء عليه إلا كان له بديل من الباطل يستقي منه ويخوض فيه:
﴿وَلَمَّا جَاۤءَهُمۡ رَسُولࣱ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقࣱ لِّمَا مَعَهُمۡ نَبَذَ فَرِیقࣱ مِّنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ كَأَنَّهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ. وَٱتَّبَعُوا۟ مَا تَتۡلُوا۟ ٱلشَّیَـٰطِینُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَیۡمَـٰنَۖ… ﴾[البقرة : ١٠١، ١٠٢]
القرآن أساسًا وطريقًا لبناء الذات
ولقد فهم الجيل الأول هذه المعادلة جيدا، فامتثلوها أحسن امتثال، فلم يخلطوا مع القرآن غيره في بنائهم الذاتي، حتى إذا ما استوى العود وشب قويا وكان له غذائه الدائم، ربما نظر هنا أو هناك ترويحا بلا تعلُّق أو وجد دائم يسمح باختراق الأساس المتين.
ولو تصفحنا أوراق تاريخنا وتتبعنا ما جاء بعد جيل البناء من انحرافات هنا وهناك، وما تداخل من ثقافات أنتجت فرقا ومذاهب عقدية شتي أوغلت في البعد عن الأصل، لوجدنا أنها اغتذت في الأصل غذاء مختلطا، وأن بعضها ما اكتفى وما تضلع بالكلام الأعلى الذي يمد النفس بحاجاتها صغرت أو كبرت، فكان ما كان من بحث مضن لا تظفر منه النفس ولا الآخرين بشيء.
ستبقى للنفوس رغباتها في اللهو قليلا أو كثيرا، لكنها إن رُوضت على ألا تلهو قبل أن تأخذ حظها من ماء الحياة ومن طيبات المعاني وجميل اللفظ والكلام، وألا يكون ما تتروح به مما يسقط النفس ويودى بها، فسيبقى أثر اللهو محدودا تغسله مرة بعد مرة تلك الغدوات التي لا تنقطع إلا بانقطاع الوريد، فهنيئا لمن رام خير النفس فروّضها لما فيه فلاحها وطمأنينتها الحقة.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!