القيادة الأخلاقية: منظومة النهوض وقاعدة البناء

image_print

الأخلاق في الإسلام هي المبادئ والقواعد المنظمة للسلوك الإنساني وهي مجموعة القيم التي أمرنا بها الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لتنظيم حياة الإنسان على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على الوجه الأكمل والأتم، حيث إن الأخلاق الفاضلة هي التي تعصم المجتمعات من الانحلال وتصون الحضارة والمدنية من الضياع، وهي أساس نهضة الأمم وسعادة الشعوب، وقد كانت الأخلاق مادة خصبة وميدانًا رحبًا للعلماء والأدباء والشعراء والحكماء وغيرهم عبر التاريخ، وحاجة النفوس إلى الأخلاق كحاجتها إلى الطعام والشراب، بل لعل الحاجة إلى الأخلاق أعظم ، فالطعام والشراب غذاء الجسد، والأخلاق غذاء الروح والنفس.

وقد ارتبط الدين الإسلامي الحنيف بالأخلاق ارتباطاً وثيقاً منذ بزوغ فجره الساطع، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [أخرجه الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد] وتبوأت الأخلاق منزلة عالية جداً في الإسلام، فاعتبرت صلاح النفوس وتحليها بالأخلاق الفاضلة من المقاصد العليا، وأشرقت شمس الأخلاق في أعلى درجاتها وأكمل تجلياتها في شخص رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي وصفه ربه بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

القيادة الأخلاقية

تعد القيادة المؤثرة المنبثقة من منظومة تربوية سليمة هي المحرك الفعال لنهضة الأمم والشعوب وتقدمها، والإدارة الأكثر فاعلية للتغيير وصناعة المستقبل، لما لها من آثار إيجابية في دفع حركة المجتمع وبنائه والارتقاء به، وفي ظل الأزمات العالمية المتصاعدة ومع تقدم الثورة المعلوماتية نلحظ في منظومة القيادة والإدارة بأن النقص في القيادة الأخلاقية منتشر في جميع قطاعات المجتمع الإنساني، مما يستوجب على المؤسسات -وتحديدًا التربوية- مواجهة هذه التحديات بكفاءة وفاعلية، بوصفه الطريق الأيسر لتحقيق الأهداف، وذلك من خلال إعداد القيادات الناجحة والقادرة على التغيير والابتكار، لحل المشكلات واتخاذ القرارات في المواقف المناسبة بناء على قاعدة تعزيز السلوك الأخلاقي في منظومة العمل والعلاقات.

إن القيادة الأخلاقية بوابة نجاح استراتيجية مركزية لأي مؤسسة تنشد النمو وتحقيق الغايات، فهي قيادة تحقق العدالة والشفافية، وتشجع العمل الجماعي المشترك، والمشاركة في صنع القرار، والاهتمام بالمرؤوسين وتعزيز نموهم، والتخلي عن المفهوم التقليدي للقيادة والمستندة إلى الوصاية والهرمية وسلطة المركز، وذلك وفق إطار أخلاقي إنساني يتزامن فيه الارتقاء بأداء المؤسسة ونوعية إنتاجها مع الاعتناء بالأفراد وتطويرهم وتحفيزهم وتعزيز دورهم، وتتعاظم أهمية القيادة الأخلاقية في المؤسسات كونها تتعامل مع الإنسان وتحاول صياغة شخصيته صياغة سليمة وإيجابية تنمي فيه الخلق القويم، وترسخ فيه القيم السامية، والشعور بالمسؤولية عبر منظومة منبثقة من قيم راسخة من المنهج التربوي الإسلامي الأصيل، كما أنها تقوم بصياغة القرارات التي تنعكس على حاضر المجتمع ومستقبله، والتي يمتد تأثيرها لأجيال عديدة.

سلوكيات القيادة الأخلاقية

أبرزت الكثير من الدراسات المحلية والعالمية أن المنهج والنموذج المثالي المناسب للقيادة في المجتمعات هو القيادة الأخلاقية، فهي عملية تأثير يمارسها القادة لحث الآخرين على تحقيق الأهداف المنشودة من خلال الالتزام بسلوكيات تتميز بسمات أخلاقية، مثل المصداقية، والأمانة، والعدالة، والإيثار، والرحمة، بالإضافة إلى تشجيع مثل هذه السلوكيات عن طريق تعزيز القدوة والقناعة الذاتية من خلال مناقشة القضايا الأخلاقية، وتوضيح التوقعات الأخلاقية، واتخاذ القرارات الأخلاقية، ودعم المعايير الأخلاقية، قاصدين بذلك تعديل السلوكيات الأخلاقية في العمل، وتحسينها وتعزيزها، ومن أهم ما يبرز في هذا الاتجاه هو تنمية وتدريب ورعاية الأفراد ضمن إطار أخلاقي، إضافة لتعميم القوى الإيجابية في المؤسسة وتقليص الجوانب السلبية، والعمل على مواكبة التغيرات وتوظيفها لخدمة المؤسسة والعاملين فيها.

كما تنظر العديد من الدراسات إلى القيادة الأخلاقية على أنها أبعد من كونها مجموعة مفاهيم ومعارف، بل تشمل أن يعيش القائد الأخلاق مع ذاته ليدعم العاملين معه على تحمل المسؤولية بقلوب راضية وعقول مفتوحة، وأن يضع لنفسه ميثاقاً أخلاقياً ملزماً، وأن يحكم بالمنطق على الأمور، وهذا يتحقق من خلال قيادة أخلاقية تتسم بالعديد من السمات.

من هذا المنطلق فإن أبعاد القيادة الأخلاقية ترتسم من خلال ثلاثة مكونات تتمثل بالدرجة الأولى في الخصائص الإدارية وتركز على مجالات اتخاذ القرارات الإدارية بموضوعية، وتطبيق القوانين والنظم بعدالة وشفافية، وإدارة بأسلوب يتفق مع ظروف الموقف، وإتاحة الفرصة للمرؤوسين لتنفيذ مهامهم، وتشجيع إنجازات المرؤوسين وتحفيزهم، مع دعم العمل بروح الفريق، ثم ينبثق في الدرجة الثانية الخصائص الشخصية التي تركز على مجالات تطبيق الإنصاف والعدالة في توزيع الواجبات والأعمال مع تحري الصدق، والوفاء بالوعود المقطوعة والاعتراف بالأخطاء، ووضع نظام يكافئ الملتزم ويعاقب من ينتهك المعايير الأخلاقية، والعمل على رفع تقارير عن الأعمال بأمانه وصدق وتقبل نقد الآخرين، ثم في الدرجة الثالثة الخصائص المرتبطة بالعلاقات الإنسانية وتركز على مجالات التعامل مع الآخرين، فيجب تحري التقدير والاحترام والتواضع والاهتمام بإشباع حاجاتهم وتقديرها بشكل موضوعي ومراعاة ظروفهم ودعمهم والوقوف بجانبهم.

حاجتنا للأخلاق الفاضلة في ميادين العمل

لا شك بأن الأخلاق ركيزة إسلامية أساسية لسعادة الإنسان، وهي كذلك ركيزة في العمل القيادي والإداري، إذ تقوم على أساس قوي متين راسخ وقاعدة صلبة وهما القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فهي مطلقة ثابتة، والتغيير قد يصيب الإنسان، ولن يصيب الأخلاق في ذاتها، بعكس العقائد والأديان الباطلة، والأنظمة الوضعية والنماذج القيادية الأخرى المتعارضة مع هذا النهج القويم، فكما ترتقي الأمم بالأخلاق فإن المؤسسات على مختلف نوع نشاطها تزدهر وترتقي وتتطور إذا توافرت وسادت بها القيم والمبادئ والأخلاق، ويعد توافر السلوك الأخلاقـي مكونـاً رئيساً في القيادة، ومن ثم فإن اتباع السلوك الأخلاقـي ضـروري لنجاح الفرد في ميادين العمل سواء كان عاملاً أو قائدًا في مؤسسة ما.

كما أنه لا يكفي لِكي ننهض؛ أن يكون هناك دستور أو قانون أو معايير شكلية، بل يجب أن يصاحبها وعي جمعي وأخلاقيّ يتجمع الناس حوله وينفذونه رغبة فيه ومحبةً به، ولذا فإنه لا بد من الربط بين الأخلاق والنهضة والهوية الإسلامية للأمة؛ إذ إن هذه الهوية هي ما يحرك العامل والصانع والفلاح والشرطي ورجل القانون والعالم.

إنها القوة الوحيدة الجامعة التي لا تحتاج إلى استيراد ولا إلى تبعية، وبالتالي فهي قوة مجمعة لعناصر الأمة وملهمة لها، وتحافظ على استقلالها وتفردها وثقتها بالنفس. ولأن قوة الهوية المتجانسة تكون دافعًا كافيًا للالتزام بالأخلاق، فلتطبيق الأخلاق لا يمكن أن تكون القوانين كافية، ولا يمكن أن يكون وراء كل مواطن شرطي يراقب أخلاقه. لابد أن يكون التصرف بأخلاق نابعًا من الاقتناع والإيمان بها، وليس هناك وسيلة لهذا أقوى من الوعي الجمعي واتحاد الهوية والهدف. هذه قاعدة مطلوبة لا استغناء عنها لنهضة أي أمة، فضلاً عن أن الهوية الإسلامية تميزت عن الهوية الأوروبية بأنها لا تعتمد العنصرية وسيلة للتأكيد على التميز.

فلا نجد في هذه الهوية تأكيدًا على تفوق جنس على الآخر، أو السماح بسرقة وقتل شعوب، بينما تمنع السرقة أو القتل داخل الشعب المتفوق، كما هو الحال في الغرب من الكيل بمكيالين. فمن غير المقبول في الأعراف الأوروبية أن تسرق الحكومة مال شعبها، ولكن مقبول أن تسرق مال الأمم الفقيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية!! ولكن هذا الأسلوب غير الأخلاقي، لا يجد قبولاً في مصادر وكتب الحضارة الإسلامية، وبالتالي فمن السهل الربط بين الأخلاق والهوية الإسلامية لهذه الأمة، بل من الواجب أن يكون هذا الربط، فتصبح الأخلاق الراعي الأساسي لأي نهضة فردية أو جماعية في بلاد المسلمين.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد