ترمي الحركة النسوية في نقدها اللاذع والمستمر للحكم الأبوي -أي حكم الرجال- إلى الإقناع بالحاجة إلى حكم النساء، فتشكل المساعي لتَقَلُّد النساء مراكز الحكم في العالم عَصب الخطاب النسوي، ومن الاتهامات التي يوجهها أتباع الحركة النسوية للرجال ويرتكزون عليها لحشد الأتباع والمؤيدين لهم؛ هو استيلاؤهم على الحكم وانفرادهم به دون النساء، ممّا أدى إلى طغيان طبيعتهم القاسية على الحكم، الأمر الذي وَلَّد عالمًا وحشيًّا مَليئًا بالحروب والنزاعات والاضطرابات، ولن يتم القضاء على الوحشية في العالم برأيهم إلا أن تتقلّد النساء مقاليد الحكم ويَقُدنَ العالم ليصلن به إلى المثالية الحالمة التي يصوِّرنها.
وينطلقن في سبيل تحقيق هدفهم من إيمانهم بأفضلية النساء على الرجال، واستشهادهنَّ بما وصلت إليه النساء اليوم من مراكز مرموقة، بالإضافة إلى ازدياد أعدادهن في المؤسسات الحكومية والاجتماعية والذي أدى إلى نتائج إيجابيةٍ بحسب رأيهن، ولكنهن لا يقدمن ضماناتٍ تؤكد تحول العالم للأفضل عند انفراد النساء بالحكم وإنما تصوراتٍ وتنبؤاتٍ مجردة، وحُجَّتهم بعض الأبحاث التي تشير إلى أن تدخل النساء في عمليات تحقيق السلام يساعد في تهدئة وقع الحروب لأنهنَّ يَمِلنَ للتفكير بمجتمعهن بدلًا من التفكير في أنفسهن، وتنبأت دراساتٌ أخرى بأن نسبة العنف ستتراجع إلى 24% خلال سنةٍ واحدة[1] إن تمَّ إشراك النساء في عمليات إحلال السلام.
لا سلام دون النساء
حظيت المساعي لزيادة التمثيل النسائي في عمليات تحقيق السلام باهتمام الأمم المتحدة، فاتخذ مجلس الأمن التابع لها في عام 2000 أول قرارٍ يقيم رابطًا بين المرأة والخطة المتعلقة بالسلام والأمن، وقد حظي هذا القرار رقم (1325) تأييد كثيرٍ من الدول الأعضاء ومنظمات المجتمع المدني النسائي، ويتألف القرار من أربع ركائز وهي: دور المرأة في منع نشوب النزاعات، ومشاركة المرأة في بناء السلام، وحماية حقوق النساء والفتيات أثناء النزاعات وبعدها، ومراعاة الاحتياجات الخاصة للمرأة أثناء الإعادة إلى الوطن وإعادة التوطين وإعادة التأهيل وإعادة الإدماج والتعمير بعد انتهاء النزاعات.[2]
ومنذ اتخاذ القرار تعتَبِر الأمم المتحدة إشراك النساء في عملية السلام أمرًا لازمًا ومُلزمًا، وقد عبّروا عن رؤيتهم تلك بوضوح: “كما أن السيّدات عوامل فاعلةٍ أيضًا في إحلال السلام في النزاعات المسلحة، لكن أدوارهن كلاعباتٍ أساسياتٍ ووكيلاتٍ للتغيير وإحلال السلام لم يُعتَرَف به بشكلٍ كافٍ، إن الإقرار بالفهم المختلف للمرأة وخبراتها وإمكانياتها ودمج كل ذلك في جميع جوانب عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة هو أمرٌ جوهريٌ لنجاح جهود الأمم المتحدة لحفظ السلام”.[3]
وتلتزم كثيرٌ من الدول في تطبيق قرار مجلس الأمن (1325)، وعلى رأسها ألمانيا التي قامت عام 2021 بتعيين مسؤولي اتصالٍ لأجندة المرأة والسلام والأمن في قرابة 50 بعثةٍ ألمانيةٍ في الخارج[4]، وتتبعها جامعة الدول العربية لأهميّة دورها في تمكين المرأة في باب السلام، وقد بيَّن تقريرٌ إقليميٌ للإسكوا أن الدول العربية قد عملت بشكلٍ متزايدٍ على النهوض بأجندة المرأة والسلام والأمن الخاصة بها[5].
منذ عام 2021 أطلقت هيئة الأمم المتحدة للمرأة أول شبكةٍ نسائيّةٍ تتكون من شاباتٍ من صانعات السلام من منطقة الدول العربية للمشاركة في برنامجٍ لبناء القدرات بشأن تحليل أسباب النزاعات وحلها وتحقيق السلام والعدالة من منظورٍ يراعي اعتبارات النوع الاجتماعي[6]، وقد أكدت “سوزان ميخائيل” المديرة الإقليمية لهيئة الأمم المتحدة لشؤون المرأة في الدول العربية على أهمية المشروع وذلك قبل إطلاق نسخة عام 2023 حيث قالت: “من خلال برنامج الشابات صانعات السلام، نزرع البذرة لبناء سلامٍ أكثر استدامة، وتعزيز المساواة القائمة على النوع الاجتماعي وخلق مجتمعاتٍ أكثر شمولًا”. [7]
وفي عام 2019، تم تعيين ما يقرب من 30% من النساء في اللجنة الدستورية السورية، وهي منصةٌ رئيسيةٌ للعملية السياسية يقودها السوريون وتُيسرها الأمم المتحدة لتحقيق سلامٍ حقيقيٍ ودائم، وتمثل هذه المشاركة أكبر عددٍ من النساء في أي مفاوضات سلامٍ في الشرق الأوسط.[8] وعلى خطاها تشكلت مجالس استشاريةٍ عربيةٍ أخرى، مثل المجموعة النسوية اليمنية الاستشارية المختصة، والمجموعة الاستشارية النسائية في العراق[9].
استغلال مناطق الحروب والنزاعات
تشكل الأزمات والحروب والصراعات فرصةً فريدةً لإشراك المرأة في عمليات فض النزاع وصنع القرار، وبالأخص مرحلة ما بعد الحروب والصراع بحسب الأمم المتحدة، ولا بد من استغلال هذه المرحلة من وجهة نظرهم لضمان تطبيق قوانين حقوق الإنسان ووضع قوانين تناسب المرأة واحتياجاتها، والانتقال بعملية السلام إلى ضمان تحقيق المساواة بين الجنسين، وفي عبارةٍ لـ”كريستين بيل” أستاذة القانون الدستوري في جامعة إدنبرة في اسكوتلندا، والرئيس التنفيذي لمنصة السلام وحل النزاعات؛ تلخِّص فيها الأهداف من إشراك النساء في عمليات السلام، حيث قالت: “إن استبعاد النساء يقطعهن من العمليات التي تعتبر عملياتٍ هامةٍ وأساسيةٍ لوضع الدستور، والتي ترسم طريق الخروج من الصراع، وتضع الهياكل السياسية والقانونية والاقتصادية للحكومة، وتقدم خطة إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع، وتحدد دور المنظمات الدولية، وتعيين التدفقات التمويلية”.[10]
أصوات المنظمات النسائية في الحروب
وكل ما سبق ذكره من السعي المستميت للوصول لمناصب صنع القرار والمشاركة في عمليات السلام يدعونا للتساؤل عن دور المنظمات النسوية والأصوات النسائية في حرب غزة الجارية، حيث تعد فرصةً مناسبةً لإثبات جدارتهن في تحقيق السلام، وقد سارعت المنظمات النسوية إلى إعلاء صوتها في أحداث غزة، فشجبت واستنكرت ونددت كحال معظم الدول، واكتفت منظمة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women)[11] بإصدار بيانٍ يدعو لوقف الحرب من الطرفين الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي حفاظًا على أرواح النساء، وأدانت بشكلٍ خاص ما جرى في 7 أكتوبر، ودعت لفتح تحقيقٍ بالاعتداءات التي حصلت في ذلك اليوم وبعده ضد النساء، وقدمت منظمة أصوات حية (Vital Voices) والتي تستثمر في القيادات النسائية بيانًا مشابهًا، وتبعتهم في ذلك غالبية المنظمات النسائية، أما ما اتفقت عليه جل المنظمات: هو المناداة بإشراك النساء بشكلٍ أكبر ومساوٍ للرجال في عمليات التفاوض السياسية لتحقيق السلام، وهذا ما أكد عليه أيضًا مندوب مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة في اجتماع مجلس الأمن الدولي.[12]
وكأن لسان حالهم يقول: لا يهمنا أعداد النساء التي تقتل ولكن يهمنا أعداد النساء المشاركات في صنع القرار، وهو القول الذي نراه متخفيًا بين عبارات “تابي بيدل” مدربة لتمكين المرأة القيادية ورائدة في مجال دعم النساء: “أنا مؤمنة بأن لدينا القوة على إنهاء الحرب والعنف والفقر، ليست هذه الطريقة الطبيعية للحياة، أنا أؤمن بحقيقة أن النساء قادراتٍ على تحقيق التوازن والسلام في العالم، أنا آسفةٌ لكل الأرواح في العالم، لكن لا تجعلوا شعور الحزن والعجز أمام ما يحدث في غزة وإسرائيل يحبطكم، علينا أن نستمر في التقدم.”[13]
غزة والفشل الأممي
كشفت القضية الفلسطينية والحرب على غزة بتقدير الله ومشيئته الخلل في تطبيق ادعاءات الأمم المتحدة في تحقيق السلام، وانهارت معها قرارات دعم المرأة وحمايتها وحماية الأطفال، وقد هدمت الحرب الثوابت المجتمعية والقيم الغربية وعَرَّت كذب وخداع المنظمات الإنسانية، لقد شهدنا عالمًا هشًا ضعيفًا قائمًا على المصالح لم يستطع أو لم يهتم غالبيته بإيقاف القتل الوحشي والإبادة الجماعية أو يمدَّ المحتاجين بالمساعدات الكافية، ففشلت الأمم المتحدة أكثر من مرةٍ منذ بداية حرب غزة في تحسين الوضع فيها وتطبيق قراراتها للسلام، وجَرّت الهزيمة معها دولًا عربيةً وإسلامية، ولم تفلح أيٌّ من المنظمات المدنية والاجتماعية والتي تتغنى بحقوق المرأة بتقديم ممراتٍ آمنةٍ لنقلهم إلى مناطق سلميةٍ كأدنى محاولةٍ لإنقاذ النساء والأطفال، مثلما فعلت ألمانيا مع اللاجئات الأوكرانيات، بل كانت المرأة الفلسطينية تقتل مع أطفالها في طريق هربها!
لم تكن أعداد ضحايا الاحتلال الإسرائيلي والتي أكثرها من النساء والأطفال وسجونهم الممتلئة بهم[14] كافيةً لأن تستنفر جهود جميع المنظمات الحقوقية والنسوية والمدنية.
إشارات استفهام تحيط بمشاريع السلام
إن كانت غالبية الدول والمنظمات العالمية والدولية والمحلية فشلت في إيقاف الحرب وفضّ النزاع، فما الذي بمقدور المرأة فعله ليكون أكثر فاعليةً مما قامت به جميع الدول لتحقيق السلام؟ ولماذا الإصرار الشديد على إشراكها في عمليات سلامٍ فاشلةٍ في أساسها؟ أم أن السلام له تعريفاتٍ مختلفةٍ تشمل السلام ما بعد الحرب وضمان الحقوق ولو على حساب الأرواح، وصياغة الدساتير لتناسب الأجندة النسوية؟ السلام بحسب مفهومهم هم! وبالشكل الخبيث الذي يطمحون إليه.
ويبدو أن شعار لا سلام دون النساء هو الشعار الذي يختبئ منظرو النسوية تحت عباءته لتحقيق أهدافهم الخفية، ويغلّفون مساعيهم الحثيثة لزيادة أعداد التمثيل النسائي في مجالس ومناصب صنع القرار غلاف التصورات الحالمة والاستقراءات القاصرة، ولا يسعون للسلام بهدف إنقاذ الأرواح البريئة أو لإنهاء الظلم وإيقاف الدمار، وإنما يطمحون للسلام الشامل والذي يعرفونه بالسلام الذي يشارك في تحقيقه جميع الأطراف من النساء والرجال، لوضع قوانين تضمن المساواة للجنسين، وتضمن حقوق كل طرف، والذي لا يتحقق السلام المستدام أو الدائم إلا بحدوثه، ولذا كانت الحروب والنزاعات فرصةً لا تفوت لإشراك النساء خاصةً المحليات في عمليات فض النزاع لضمان ما يسمى السلام الشامل والمستدام.
وما زال دور النسوية في تحقيق السلام أو تخفيف وطأة الحروب وفض النزاعات خافتًا لا يناسب حجم دعواتهن بتحرير العالم من الظلم، ولكن ما الذي سيضمن لنا عالمًا مثاليًا خاليًا من الحروب إن حكم النساء، وما الذي سيجعل النساء مختلفاتٍ عن الرجال، ألا يمكن أن يحملن صفات الشر؟ أم أنهن من عالمٍ آخر خارج حدود البشر؟ عالمٌ ملائكيٌ لا مكان فيه لصفات الكره والبغض والحقد، هذا ما سنفصله في المقال القادم بإذن الله ومشيئته.
[1] https://www.theguardian.com/global-development-professionals-network/2014/aug/11/women-conflict-peace-society
[2] يُنظر: المرأة والسلام والأمن: الشؤون السياسية وبناء السلام، موقع الأمم المتحدة.
[3] عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام: تمكين المرأة والسلام والأمن. والمرأة والسلام والأمن: الشؤون السياسية وبناء السلام، موقع الأمم المتحدة.
[4] المركز الإعلامي الألماني، وزارة الخارجية الألمانية، لا سلام بدون المرأة: أجندة “المرأة والسلام والأمن” 20 فبراير 2022.
[5] التقرير الإقليمي لتنفيذ أجندة المرأة والسلام والأمن في المنطقة العربية، الاسكوا، يوليو 2023.
[6] برنامج الشابات صانعات السلام في منطقة الدول العربية، هيئة الأمم المتحدة للمرأة – الدول العربية، 22 يونيو2023.
[7] تمكين الشابات من أجل تحقيق السلام المستدام: إطلاق برنامج “الشابات صانعات السلام” في الدول العربية، 18 أغسطس 2023.
[8] التكتل النسائي الذي ردم الخلافات لبناء السلام في سوريا، هيئة الأمم المتحدة للمرأة، 1 نوفمبر 2022.
[9] المصدر السابق.
[10] منع الأزمات والصراعات: دور المرأة في عمليات السلام الجارية-الأمم المتحدة: وقائع.
[11] UN Women statement on the situation in Israel and Gaza: 1 DECEMBER 2023
[12] International Community Must Ensure Women Equally Participate in Peace, Political Processes-Delegate Underlines-as Security Council Concludes Annual Debate- 9452ND MEETING-26 OCTOBER 2023
[13] مدونة تابي بيدل:(Tabby Biddel)
[14] الحرب على غزة 2023: الجميع مُهمَل، ص2-الاسكوا: 5brief Policy/2023/GPID2.CL/ESCWA/E