القرضاوي رحمه الله في مواجهة التطرف
رحل سماحة الدكتور يوسف القرضاوي عن هذه الدنيا بعد أن قضى عمره في خدمة الإسلام، تاركًا وراءه مشروعًا فكريًا متكاملاً للإسلام عقيدة وشريعة وحضارة، وإذا كانت الوسطيّة بالمعنى الإسلامي الجامع المميز تُعتبر أخصّ خصائص هذا الدين، فإنّ الوسطيّة الإسلاميّة الجامعة قد شغلت حيزًا كبيرًا من مشروعه الفكري، بل إنّ القرضاوي بحقّ، يعدُّ رائد مدرسة الوسطيّة الإسلاميّة والتجديد الإسلاميّ المعاصر، حتّى غدت الوسطيّة أصل مشروعه الفكري والمعيار الذي انطلق منه في اجتهاده وتجديده.
بعيدًا عن الإفراط والتفريط
وإذا كانت الوسطيّة الإسلاميّة تعني: البراءة من غلوى الإفراط والتفريط، والجمع والموازنة بين عناصر الحقّ والعدل والاعتدال في كلّ ميادين الفكر الإسلامي، فإنّ معالجة قضيّة الغلوّ والتطرف قد شغلت حيزًا كبيرًا من مشروع القرضاوي الفكري، بل لعل القائل لا يخطئ إن قائل: إنّ أثر القرضاوي في مواجهة التطرّف الديني لو وضع في كفّة، ووضعت جهود العالم بأسره في كفّة أخرى لرجحت كفّة القرضاوي.
من خلال استقراء مشروعه الفكري، فإنّ العلّامة القرضاوي يضع يده على الجرح، ويحدّد مظاهر هذه الثمرة المرّة التي ابتلينا بها في واقعنا الإسلامي، فتمثّلت بالتعصب للرأي، وإلزام الجمهور بما لم يلزمهم الله به، والتشديد في غير محلّه، وسوء الظنّ بالناس، والغلو في التكفير.
أمّا عن أسباب هذه الظاهرة فإنّ الجهل بروح الدين، والظاهرية في فهم النصوص، والإسراف في التحريم مع التباس المفاهيم، واتباع المتشابه وترك المحكم، وضعف المعرفة بالواقع والتاريخ وسنن الله في الكون، ومصادرة الحريّات، ولجوء الديكتاتوريات إلى القمع والعنف والتعذيب، كلّ هذه الأسباب متضافرة أدت إلى إفراز ظاهرة الغلوّ الديني.
وإذا كانت جماعات التطرّف المسلّح تنطلق في حركتها على أرض الواقع من فهم أعرج وفكرٍ أعوج.. فإنّ العلّامة القرضاوي عمل على تقويض هذا الفكر من جذوره في كتابه (فقه الجهاد) بالأدلة الناصعة والحجّة البينة، وذلك كما نبيّنه في السطور الآتية.
الفتنة لا تعني الشرك
مما يستند عليه دعاة الحرب على العالم كلّه آية: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة} [الأنفال: 39]، حيث يقولون إن كلمة فتنة تعني الشرك، مما يعني أنّ القتال مأمورٌ به حتّى يزول الشرك من الأرض، ويخلص العالم كلّه لدين الله، مستندين بذلك إلى كلام أبي بكر الرازي في تفسير الفتنة، الذي يرى أنّ آية: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين} [البقرة: 190] منسوخة بقوله تعالى: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} [البقرة: 191]. فيقول القرضاوي: “إنّ النهي عن الاعتداء لا يُتصوّر أن يُنسخ، لأنّه معلل بعلّة لا تقبل النسخ وهي قوله تعالى: {إنّ الله لا يحبّ المعتدين}، وهو خبر عن صفات الله تعالى لا يُنسَخ.
ويستدلّ العلّامة القرضاوي بكلام العلّامة الشيخ جمال الدين القاسمي الذي فسّر الفتنة بالفتنة عن الدين، بالتعذيب والإخراج من الوطن والمصادرة بالمال.

جمال الدين القاسمي
حديث البعثة بين يدي الساعة
يستدلّ دعاة الحرب على العالم كلّه بحديث: (بُعِثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك) [أخرجه أحمد في المسند] في استعمال القوّة الماديّة والعسكرية في التغيير والإصلاح حصرًا، بدعوى أنّ الإسلام دين السيف.
يرد القرضاوي على استدلالهم بهذا الحديث بوجود بعض الاستفهامات في سنده ومتنه، ففي سنده عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان، الذي قال عنه الإمام أحمد إن أحاديثه مناكير، وقال عنه النسائي ضعيف وليس بثقة، وضعّفه ابن الجوزي وعبدالله بن الجنيد وعثمان بن سعيد الدرامي وغيرهم، وقد ذكر الذهبي انّ الرجل قد رُمي بالخروج في آخر حياته، ومثل هذا الراوي لا يؤخذ منه حديث يحمل هذا المضمون الخطير: الإسلام دين السيف!
أمّا متن الحديث منكرًا ولا يتفق بحال مع ما قرره القرآن بخصوص ما بُعث به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فهو رسول الهدى والرحمة المبشر النذير.
حديث الأمر بقتال الناس
تيّار التطرف والغلوّ يرى أنّ كلمة الناس تعني البشر جميعًا، وهذا غلطٌ بإجماع أهل العلم، فكلمة الناس عامّة تفيد الخصوص، وهم مشركو العرب الذين ضنوا على الإسلام وأهله بحقّ الحياة ولم يحترموا معاهدة مبرمة ولا موثقًا مأخوذًا، واللام في كلمة الناس للعهد كما قال الله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} [آل عمران: 173] وقوله تعالى: {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا} [النصر: 2] .
الإسلام لا يُقاتل إلّا من قاتله
إن ابن تيميّة المظلوم من قبل تيّارات الغلو الذين يقتصّون من كلامه ما يوافق هواهم من غير دقّة علميّة ولا موضوعيّة يُثبت في رسالته (قاعدة في قتال الكفار) أنّ الإسلام لا يقاتل إلّا من قاتله إذ يقول: “ليس المراد: أني أمرت أن أقاتل كلّ أحد إلى هذه الغاية – أي دخول الناس في الإسلام – فإنّ هذا خلاف النصّ والإجماع، فإنّه – أي الرسول – لم يفعل هذا قطّ بل كانت سيرته أن من سالمه لم يقاتله”.
الكفر ليس علّة القتال
ويستدل بهذا ابن تيميّة في تعقيبه على حديث “ما كانت هذه لتقاتل” بقوله: “القتال لأجل الحرب لا للكفر هو الذي يدل عليه الكتاب والسنّة وهو مقتضى الاعتبار.. ذلك أنّه لو كان الكفر الموجب للقتل، لم يحرم قتل النساء”، ويقول أيضًا: “لا نكره أحدًا على الدين، فلو كان الكافر يُقتل حتى يُسلم لكان هذا أعظم الإكراه على الدين”، ويقول أيضًا: ” فهو لم يبدأ احدًا من الكفار بقتال، ولو كان الله أمره بقتل كلّ كافرٍ لكان يبتدئهم بالقتال”.
آية السيف
يدّعي تيّار الغلو أنّ آية السيف نسخت 120 آية من آيات القرآن، والقرضاوي يناقش قضيّة النسخ من جذورها ويفنّد هذه الدعوى في كتابه، لا مجال لعرضها هنا، فمن شاء أن يراجعها في كتابه فقه الجهاد الجزء الأول (267-314).
إن من أهم ما يميز القرضاوي رحمه الله أنه عالم لا يجنح إلى الغلو ولا يميل إلى التسيّب، بل كان قصدًا يسعى لتحقيق هدي الإسلام بلا إفراط أو تفريط، ودون عنف أو ميوعة، وليس معنى الوسطية عند القرضاوي الإمساك بالعصا من المنتصف، بل الموقف المبني على الدليل، وكلما كانت لديه فرصة للميل للتيسير يسر على الناس.
المراجع
يوسف القرضاوي، فقه الجهاد، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى سنة 2009م
يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلاميّة بين الجحود والتطرف، طبعة القاهرة سنة 1994.
محمد عمارة، الدكتور يوسف القرضاوي المدرسة الفكرية والمشروع الفكري، طبعة دار نهضة مصر سنة 1997.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!