الفن الأدبي والأخلاق…أي تصالح؟
يؤمن الكثير من الخلق- متخصّصين أو غير متخصّصين-، إيمانًا جازما أن الإبداع الأدبي والكتابة الفنية، على اختلاف أجناسها وفروعها، وخاصة منها السرد الأدبي، يمكن أن ينفصل عن الأدب والأخلاق ذاتها ويظل اسمه أدبًا!.
ونقصد بهذا الانفصال غياب إخضاع العمل الأدبي لمعايير القيم وسلّم الأخلاق النبيلة، إذ كلما اقتربت الأواصر بين المنتوج المكتوب وبين السفالة والانحطاط، وُلِد التميز وانبجست عيون الإبداع، وكلّما ابتعد عن تلك العرى وفارقها صُنِّف في الصف الثاني أو الثالث أو الأخير أو قبل الأخير من رفوف التخييل والخلق الإبداعي، فترى جماهير من المتلقّين –عن وعي أو عن غير وعي- منبرين لهذا المؤلف أو ذاك، دفاعا وتهليلا وتصفيقا، حتى إذا بحثت وراء هذا التبجيل ما وجدته شيئا، وألفيت جدلا كطنين الذباب قد تعالى حول المؤلف، لسبب وحيد، وهو كونه تضمّن إقحاما لبضع كلمات نابية وخادشة في الخطاب، أو إيغالا في وصف العورات، أو خوضا في مواضيع مشينة أو تافهة أو تشمل استهزاء مقصودا بالمقدسات وتسخيفها والضرب فيها (خاصة ما يتعلق بالإسلام) بأسلوب فيه من الوقاحة ما فيه تحت ذريعة أنها (تابوه) لم يخض فيه أحد من قبل، فيتوهم المؤلف امتلاك الجرأة والإقدام الفكري دافِعَيْنِ له، ليَسْتَلَّ قلمه ويسلطه هو والغرماء على نفسه من حيث يدري أو لا يدري.
أهداف وغايات
بالتفكير في المسألة مطوّلًا نلحظ أن الغاية من وراء ذلك لا تعدو أن تكون سعيًا وراء تحقيق مصالح شخصية يمكن إيجازها في أمرين: أولهما: المكسب المادي المتمثل في المتاع القليل المأخوذ مقابل العمل ولا تهم هنا المبادئ الأدبية الإنسانية إن صحت تسميتها كذلك، -هذا إن وُجِدَت أساسًا من البداية-، أما الثاني فهو المكسب المعنوي المتمثل في رغبة سيكولوجية دفينة للظفر بشهوة مؤقتة ترضي هوى النفس في تحقيق شهرة زائفة، تغذي شعورًا داخليًّا بالغرور والكبر والعجب بالنفس.
إنك لتعجب من هذا الكم الهائل من الكتب والقراطيس والمؤلفات- لاسيما السردية بكل أجناسها-، التي تغرق في واقعية منحرفة تنامت شيئا فشيئا حتى تحولت إلى نوع من الجاهلية الفنية الجديدة، يحب الذين يتبعون الشهوات أن يسموها (تحرُّرًا فكريًّا)، أو (ثورة أدبيَّة)، أو ما أملى عليهم هواهم تسميتها، وفي هذا انحدار خطير يريد أن يهوي بالنفس في وديان سحيقة من الخسة والمسخ الفطري، حيث تجد تصوير الإنسان كأنه حيوان مسعور، يؤرقه البعد الجنسي في ليله ونهاره، أو هو كائن قيَّدَتْه الهلاوس العقلية والاجتماعية، فلم يهتد إلى اطمئنان أو سكينة إلا بالتمرد على القيم والأعراف، أو تراه يدّعي الانفتاح والنهضة بقبول الشذوذ بكامل تصنيفاته أو تبريره أو الدفاع عنه، وأن سر الحضارة وارتقاءها يتوارى في التعايش مع الانحراف والفواحش باسم احترام )الحريات الفردية(، إلى درجة مقيتة تفاقمت حتى وصلت إلى عبادة الفرد، فتحول الأفراد إلى آلهة تخلق ما تشاء من الأحكام والضوابط التي تخدم أهواءها ومُهَجَها المستلبة.
ولا ننكر هنا أن من الكتاب والمؤلفين من يستحقّ يَراعهم التشجيع ويستحقه، إذ سخّروه في خدمة المجتمع، أو نصرة الدين، أو تعلية شأن القيم السمحة وترسيخها في نفوس الناشئة أو اليافعين، أو معالجة هموم الإنسان والأسرة بما ينسجم والذوق الإنساني، والفطرة السليمة إلى غير ذلك، ولكن معرض حديثنا هنا ليس عن هؤلاء، بل عن الشرذمة التي جنت على الوجدان والشعور والفطرة… وجنت على نفسها، لتضع بصمتها في خط التمزق والإباحية الفكرية التي غرق في عبابها الكثير، فلم تكفهم ألوف الصفحات التي تطبع هنا وهناك بلا هوادة لتضرب القيم والمعاني النبيلة، وتسخف من أمرها، بل تعدّتها إلى السخرية من المقدسات والعقائد، لينضمّوا هم الآخرين لهذا الركب الخذل الأعوج، ويكونوا عونا للشيطان على مجتمعاتهم ودينهم وأنفسهم !
أين معالجات الأدب للواقع؟
إن كانت حجة البعض أن الواقع لا يتكشف إلا بالخوض فيما لا يقدر على الخوض فيه إلا القلة، وتلكم هي الشجاعة والبسالة الفكرية، فيمكننا هنا طرح إشكال: إلى أي حد استطاعت هذه الروايات أو القصص على مر العصور معالجة هذا الواقع بسرد تفاصيل غارقة في الحسية والشهوانية، وموغلة في جذب الإنسان إلى العالم السفلي، وتلطيخه بالعار ثم تقييده هناك، وإيهامه أنه تغذى فكريًّا وارتوى ثقافيًّا على مادة أدبية بحتة، أضافت له ولم تنقص؟
ألا تساهم هذه الأعمال في زيادة المجتمع انحرافا والتشجيع عليه، وإثقاله بصراعات عقدية وفكرية، لا يملك الجميع مواجهتها، خصوصا في ظل الجهل المستشري في العقول والقلوب معا؟
هل رجحت كفة القيم ومقام الروح بأدب المجون واللذة والخمريات والغزل الإباحي أم أخل به وزاد أعماق النفس تشويها؟
هل يجد القارئ في نفسه بعد الانتهاء من قراءة ذاك الصنف من الكتب أثرا لحماسة نحو التغيير أو التجديد، وانتعاشا في الفكر والروح، أم تثبيطا في عزيمته وهبوطا نحو هوة الاستسلام للنزوات؟
ألا يمكن للسرد الأدبي أن يتشكل من منطلق أخلاقي ترجع جذوره إلى الإسلام؟ وأن يتكئ على معالم الفكر التي تكشف الحجب عن هموم الإنسان وحيرته وأزماته في عصر اختنق روحيا وأفلس قيميا وتمزق نفسيا، بدل الزيادة في تغريب وجدانه وحصار عقله في أرض خراب لا تثمر ولا تنبت؟
وارتباطًا بما سلف يذكر الدكتور نظمي لوقا في دراسته، (عصرنا بين المعقول واللامعقول): “أن مأساة الإنسان المعاصر تكمن وراء أزمة الإيمان وتأتي من وراء أزمة الإيمان أزمة الحرية وأزمة المسؤولية، ومن ثم أزمة الفن، فلأن ذلك الإنسان قد تزعزع إيمانه، بالارتباط بنظام معين ثابت في الكون، فهو لا يشعر بالمسؤولية… فكيف تمكن الإرادة بغير باعث قوي، وكيف يمكن الباعث القوي بغير اعتقاد متين في جدوى أي شيء أو إثبات أي شيء.” [عصرنا بين المعقول واللامعقول، نظمي لوقا، ص: 20]
ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نفهم أن العامل المؤصل لبناء عمل أدبي، شئنا أم أبينا، يتركز على عقيدة صاحبه وإيمانه، أيا كانت طبيعتهما، فمن لم يتجاوز إيمانه التسليم للجانب المادي وبعض النظريات الفلسفية والغربية القائمة على تضييق دائرة نظر المبدع، وتقبيح وجدانه، وتقزيم ذاته وإذلالها بكثافة الاقتباس المشوه من فكر الغرب وفنه -الذي له خصوصياته ودوافعه التي شكلته-، فلا تنتظر منه إلا عملا يخدم ما سبق و يعضده، منتجا مع أعمال أخرى تشبهه طوفانا من الفوضى الروحية والعبث الفكري العنيف، يذهب ضحيتهما ضعاف العقول، والمخدوعون بثقافة رخيصة مُمْلِقة، متسولة على أعتاب مواقع التواصل، تنشد صنع مجد مزيف إلى جانب فنجان قهوة ومفاتيح سيارة..!
أي مستقبل يبشرنا به الأدب الرخيص؟
ويبقى الحكم في هذه القضية متوقفا على اعتبارات عدة، عقدية ومذهبية وفكرية ودينية واجتماعية وإيديولوجية، وبذلك ستظل كل محاولة للإصلاح رهينة باستحضار كل هذه الاعتبارات، وجعلها تبنى على صراحة الوضع، ووضوح الفكر خصوصا أمام المثقفين والنقاد، وأجهزة النشر والإعلام، وكل الوسائل الدعائية وقنواتها، تأسيسا لمرحلة جديدة يتكئ فيها أدبنا على ثقافته الملقاة على الرصيف، ويتصالح مع فكره الغني بشتى المسارات العلمية والثقافية.
فهل انتهت اتجاهات الفكر الأنيق، وانقضت روافد الفن الأليق، وخبت جذوة المنطلقات الملتزمة بما ينسجم مع القيم الروحية ويبتعد عن إثارة الشهوات والتطبيع مع آفاق من الخذلان النفسي، لا يزيد الإنسان إلا تيها في التواءات الفكر المنحرف، المبشر بعالم جديد ينهي علاقته بالأخلاق وينزوي به في ركن منعزل عن أي قيمة خارجية.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!