الفلسفة الدينية و”نظرية المؤامرة”

image_print

إن كنت مؤمنًا بالله تعالى وما جاء في كتابه المقدس، فأنت حتمًا ستؤمن بالتآمر على دينك الحق، وإن لم تكن مؤمنًا، فأعتقد أنك لست بحاجة لقراءة هذا المقال.

بهذه البساطة، أختزل جدالًا طويًلا بين من يعتقد بوجود خطط من قبل أطراف قوية –دولٍ ومنظّمات- لتحقيق مصالحها على حساب الأطراف الضعيفة، وبين المنكرين لوجود هذه الخطط.

نقصد ههنا أولئك الذين يسمون هذه الظاهرة بـ “نظريات المؤامرة” التي تهدف -كما يبدو- لإخضاع البشر والسيطرة عليهم كما يروج لها، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنه لا يعني أن كل نظرية هي حقيقة بغض النظر عن سخافتها، وأيضًا لا يعني إنكار جميع ما يندرج تحت نظريات المؤامرة.

إبليس وآدم .. من هنا كانت البداية!

لأوضح المسألة دعونا نرجع للبداية، أي إلى فجر تاريخ الوجود البشري، حيث نشأت عداوة بين آدم عليه السلام وإبليس، حيث يحدثنا الله عمّا دار بينهما في قرآنه الكريم.

يقول الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ} [البقرة: 36]. لقد جاءت عداوة الشيطان لآدم عليه السلام بسبب تكريم الله له بسجود الملائكة له، حيث قال إبليس -كما أخبر الله تعالى- {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62].

لقد وعد من إبليس بأن يسعى لإضلال أغلب ذرية آدم عليه السلام كي يثبت أن ابن آدم لا يستحق الخلافة في الأرض ولا الجنة من بعدها، ليأتي تحذير الله تعالى آدم وزوجه وذريته ليرشدهم {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} [طه: 123].

أصرّ الشيطان على وعده وموقفه، بل إنه وضّح مخططه وأدواته، فيقول كما ذكر الله تعالى {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ۚ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء: 119].

الضلال ثم الأماني ثم الأمر وكأنه المعبود والولي من دون الله تعالى، فيرد الله تعالى عليه {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64].

ويحذر الله بني آدم من تولي الشيطان وعبادته مبينا هدفه {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].

كما يخبر لله تعالى كيف يتنصل إبليس من أوليائه يوم القيامة {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].

إن هذه الآيات القليلة تدل على حقيقة وجود بني آدم على الأرض والخطر المحدق بكل فرد منهم بغض النظر عن إيمانه أو دينه؛ فالله تعالى قد حذر جميع بني آدم من إبليس، ووعد المؤمنين بالمفازة من العذاب. فإن كنا نعرّف المؤامرة بأنه مخطط لجماعة تهدف لتحقيق أمر ضد مصلحة الجموع مدفوعة بأحقاد أو أطماع خفية، سنجد أن كل مقومات المؤامرة موجودة في مخطط إبليس وزبانيته وأعوانه من البشر ضد بني آدم على هذه الأرض. وهي أكبر مؤامرة مستمرة منذ البداية وحتى النهاية ولن تتوقف إلا بقيام الساعة، حين يصبح الشيطان هو المعبود من دون الله تعالى. ويبقى مصطلح (نظرية) المضاف للمؤامرة مرتبطًا بإيمان العبد بالله. فإن كان مفتونًا بعمل الشيطان وأولياؤه، قال إنها نظرية بلا دليل، وإن كان يؤمن بالله تعالى والآخرة، استطاع أن يميز الحق وسط الضلال السائد.

إنها خطة وليست تصرفًا ساذجًا

لا يمكن لعموم هذا الضلال العام المتصاعد أن يكون عشوائي الظهور بسبب حالات فردية أو صنيعةً لأهواء النفس فقط، أي أن الأمر لا يقتصر على وسوسة الشيطان لأفراد لا شأن لهم فحسب، بل إن الأمر يتعدى ذلك للإنابة، فالهدف عظيم عندما يكون جميع بني آدم إلا قليلا منهم، وهو بكل تأكيد يستوجب الجهد والمتابعة في تحقيق ما خطط له مسبقًا. ولن يقصّر أولياء الشيطان جهدًا في تحقيق مراده، باستخدام كل الأدوات المتاحة من علوم وتكنولوجيا ومعرفة سيكولوجية في التأثير على قناعات العامة وتغيير ثقافتهم وتصرفاتهم بما يرجح الكفة لإنكار الوجود والسببية، والتعلق بالأنانية والصدفية من باب تهيئتهم لقادم أعظم.

حقًّا، من كان يظن أن عداوة الشيطان للإنسان تقتصر على إفساد عمله الشخصيّ فقط فهو واهم، فمن الناس عبيد للشيطان، منكرون للإله الأوحد، وقعوا على عقد بيع أرواحهم بالدم ليكسبوا نعيم الدنيا وما فيها من شهوات زائلة. وطبعًا ذلك لا يكون إلا بمقابل، كالترويج للفاحشة أو الإلحاد مثلًا فذلك يجعل الناس أقرب لتولي الشيطان. فلا يتوقف فساد عبد الشيطان عند نفسه فقط بل يتعدى ذلك لفتنة الآخرين واستمالتهم نحو ولاء جديد بعد إلحاد، يكونون فيه جميعًا عونًا للشيطان في تحقيق مخططه على البشرية.

إذًا فإن مسألة التآمر على البشر محسومة في القرآن، وإن خفيت خيوطها، فلا يعني ذلك أنها لا تحاك ضدهم. وما يظهر من عُقد الحياة بلا شك هو من تلبيس إبليس مستعينًا بمن والاه من بني آدم كي يحكم هو فيهم حتى تحين الساعة.

وهنا فإني لست أسعى لتفنيد أو تأكيد أيٍّ من نظريات المؤامرة المنتشرة في مختلف الفضاءات والتيارات، إلا أني أبتغي توضيح الصورة الأكبر لمن يتبع دين الله ويؤمن بالحساب والعاقبة.

الثبات في وجه الفتنة

نحتاج فعلًا للثبات على الدين في مواجهة مؤامرة إبليس ومن والاه وفتنة الحياة؛ إذ إن الاقتناع بأن هذا العالم تحكمه الإنسانية وخير البشرية دون مؤثر ما، إنما هي فكرة ساذجة للغاية تخالف واقع الحياة المزري والمتردي في معظم البلاد التي خضعت للاستعمار في القرون الأخيرة، فهي تعاني من الديكتاتورية والفساد واضطهاد الشعوب.

وهي نفس الفكرة الساذجة في حال تصديق الحرية المطلقة المزعومة في الدول المتقدمة، فحرق راية “ألوان الطيف” الخاصة بالمثليين تواجَه بقسوة بالغة كالسجن لـ ١٠ سنوات، وكذلك فإن إدراج كلمة (صانع) في بحث نظرية التطور سبب كافٍ لرميه وصاحبه في غياهب التصنيف والإقصاء والسخرية، وكذلك فإن مجرد التشكيك في عدد ضحايا الهولوكوست وإن كان مبنيًّا على نتائج علمية ومخبرية كفيل بأن يعاني من المحاكمة –كما جرى مع روجيه غارودي سابقًا- وأن تسحب الشهادات العلمية من صاحبها.

يحق للمؤمن الواقعي أن يرفض نظرية المؤامرة بدون أدلة، لكنه يجب أن يكون واقعيًّا أكثر في لمس الشر المتزايد في بقاع الأرض بما يثبت اقتراب قيام الساعة على شرار الناس، والكثير من هؤلاء قطعًا لا يعملون بشكل فردي لأطماع شخصية، بل عصبة كبيرة منهم مجتمعة في عملها وهدفها أنت ودينك، وكل ذلك إرضاء لإبليس الذي وعدهم بالخلود كما وعد أباكم آدم عليه السلام.

ما دمت مؤمنًا يا أيها الإنسان، فأنت هدف أوّلي ومهم أكثر من الملحدين، لأنك ما زلت تذكر الله، والله تعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد