العلم.. مرشد حكيم أم دليل أعمى؟

image_print

هل تستطيع أن تتخيل عالمنا هذا من دون رقائق الذرة؟ باستثناء عشاق رقائق الذرة فسيكون الجواب غالبا: نعم الأمر سهل وممكن! لكن هل تنطبق هذه الإجابة المتساهلة على كل ما جاءت به البشرية من منتوجات أو اختراعات؟

من عجائب العلم أن مسيرته تحكمها الصدفة البحتة! الكثير من الحقائق المهمة التي تقوم عليها الآن تطبيقات عديدة جاءت بمحض الصدفة كاكتشاف البنسلين مثلا أو أشعة إكس أو النشاط الإشعاعي أو اكتشاف الكهرباء الساكنة أو تقطير النفط  أو اخترع الميكروويف أو البلاستيك أو حتى رقائق الذرة! ربما يسهل بالفعل تخيل عالم من دون رقائق ذرة، لكن الأمر سيكون أكثر تعقيدا لو بدأنا باستبعاد كل ما توصلت إليه الاكتشافات والجهود العملية من قائمة حياتنا، ومن ثم استبدالها بحقائق وتطبيقات جديدة كان من الممكن التوصل إليها في نسخة أخرى من هذا العالم!

ماذا لو لم يكن ألكسندر فليمنج قد نسي تغطية الوعاء الحاوي على البكتريا في مخبره في مساء ذلك اليوم، ماذا لو لم تكن طبقة العفن تلك قد تشكلت لتؤدي إلى اكتشاف البنسلين أول صاد حيوي وما تبعه من ثورة في عالم الطب والقضاء على الأمراض الجرثومية التي أهلكت البشرية لأمد طويل!

ماذا لو لم يضع الألماني ويلهلم رونتجن يده أمام أنبوبة أشعة كاثود ليكتشف أن عظامه تظهر على شاشة الفلورسنت؟ ماذا كان ليكون مصير كل المرضى الذين ساهمت أشعة إكس بوضع تشخيص لأمراضهم! ماذا عن التصوير الطبقي المحوري؟ وهل كان ليكون له وجود أساسا لو لم يمد رونتجن يده بالصدفة إلى المكان الصحيح في عتمة تلك الغرفة؟

نيوتن

ماذا لو لم تكن السماء متلبدة بالغيوم في ذلك اليوم الذي قرر فيه هنري بيركل دراسة ظاهرة التفسفر فترك ألواح التصوير بجانب أملاح اليورانيوم بانتظار يوم مشمس ليستكمل التجربة؟ هل كانت لتكون هناك مفاعلات نووية؟ هل كان ليكون هناك وقود نووي؟ هل كانت كارثة هيروشيما وناكازاكي لتحدث؟ هل كانت ستنتهي الحرب العالمية الثانية أساسا لو كان ذلك اليوم مشمسا؟

بل ماذا لو لم يولد نيوتن؟ ماذا لو كانت أمه قد تعثرت في أثناء نزولها درج البناء فأجهضته قبل أن يولد ويكبر وتسقط على رأسه تلك التفاحة؟ بل ماذا لو ولد وكبر ولم تسقط على رأسه التفاحة؟ ماذا لو كانت قد قرر في ذلك اليوم التمدد على الأريكة عوضا عن الاستلقاء تحت شجرة تفاح؟  كيف كان مصير فيزياء العالم ليكون دون نظريات نيوتن الثورية وتطبيقاتها؟

ماذا لو كان والد أينشتاين سكّيرا مدمنا على المخدرات فنشأ طفله العبقري في فقر مدقع دون أن تتاح له فرصة الذهاب إلى المدرسة؟ ماذا لو عاش ألبرت أينشتاين ومات أميّا لا يعرف قراءة أسماء المحلات التجارية في شوارع ألمانيا؟ كيف سيكون شكل العلم والعالم الآن بدون النظرية النسبية وتطبيقاتها؟

ماذا لو كان نيكولا تيسلا قد ابتلع عملة معدنية في عمر الثالثة ثم اختنق بها ومات؟ كيف كان سيبدو شكل العالم الآن من دون اتصالات لاسلكية؟

ثم دعونا الآن نعكس الآية فنسأل أسئلة مضادة: ماذا عن الاحتمالات اللانهائية من الاكتشافات والاختراعات التي كان من الممكن أن تحصل ولم تحصل لأن صدفة اكتشافها أو التفكير فيها لم يتح لها الحدوث لسبب أو لآخر؟ ماذا عن العقول العبقرية هائلة العدد التي عاشت وماتت في شتى بقاع الأرض دون أن تتهيأ لها الظروف لتقدم عبقريتها للعالم على هيئة اكتشافات أو اختراعات جديدة؟ فنحن لم نتحدث حتى الآن إلا عن علماء عاشوا وماتوا منذ حقبة قريبة لتقريب الصورة للأذهان لكن الأمر ينطبق على عمر البشرية بسائرها وعلى كل بقاعها وكل شعوبها منذ بدء الخليقة وحتى الآن، منذ اكتشاف النار واختراع الأبجدية واكتشاف خصائص المعادن واختراع وتصنيع الورق واكتشاف الكهرباء واستغلال طاقة الرياح واختراع معدات الإبحار ووضع أسس الرياضيات وتجارب الكيمياء الأولى وغير ذلك من حلقات هذه السلسلة الطويلة من الاكتشافات والاختراعات التي سارت وتطورت وتقدمت بمحض الصدفة البحتة حتى أخذ عالمنا هذا شكله الحالي الذي هو عليه الآن، شكله الذي لا يمكننا أن نتخيل غيره، حتى أن كل شطحاتنا في أفلام الخيال العلمي تدور في فلك تصورنا الحالي عن العالم وتستند إليه!

إن عقولنا التي نعتقد بقدرتها الجبارة على الانعتاق من كل المسلمات لتفكر بحرية مطلقة بعيدا عن أية أفكار مسبقة أو أي إيمان أعمى هي في الحقيقة مقيدة بلا انفكاك بشكل العالم الحالي، بمعطيات العلم الحالية، بما عرفته وعاشته وألفته من تجلياتهما، بما أنتجته الصدفة العشواء في هذه الرحلة غير المحسوبة نحو المستقبل المجهول.

إن عقولنا التي نعتقد بحريتها وقدرتها الجبارة على التوصل إلى الحقائق، والتي نسمو بها أو نعتقد أننا نسمو بها عن أية تحيزات هي منحازة في الحقيقة إلى ما عاشته وألفته في من الحقائق المختلفة وتطبيقاتها في هذه النسخة الواحدة من العالم، هي غيرُ قادرةٍ في الحقيقة رغم ذكائها الوقاد على التفكر بأي احتمالات أخرى من بين احتمالات لا نهائية لشكل العالم وهيئته ومآلات تطوره المختلفة لو سارت أحداثه على غير النحو الذي سارت عليه أو لو حدث في وقت ما تغير في هذه السلسلة من الأحداث في عمر العالم ومسيرة العلم المرافقة له!

وبينما نظن أن عقولنا حرة حرية مطلقة غير مقيدة بأي إيمان أعمى، قادرة على الوصول إلى حقيقة هذا الكون وجوهره بعيدا عن أية مسلمات نجد أنفسنا في الحقيقة مع قليل من التفكير غارقين في الإيمان بالمسلمات حتى غرتنا! مسلمات توصلت إليها رحلة عشوائية من تطور العلم، رحلة محكومة بصدف متعاقبة لا يملك أي منطق مفهوم وفق حدود إدراكنا سلطة عليها! رحلة يقودها دليل أعمى نمسك بعباءته من الخلف مؤمنين إيمانا مطلقا بأنه سيقودنا إلى الحقيقة الأصيلة لهذا الكون المليء بالأسرار! في حين أننا في عالم آخر أو بالأحرى في نسخة أخرى من هذا العالم أنتجتها صدف أخرى كنا لنؤمن ربما بما لا نملك الآن أي فكرة عنه! بما لا ندري ربما بوجوده! كان ليكون لدينا تصور مختلف عن هذا العالم! كنا لنستخرج الطاقة مثلا من ريش الدجاج! كنا لنتواصل عن بعد مثلا عبر شبكات أنابيب تحت أرضية مملوءة بغاز الميثان؟ كنا لنكتشف إشعاعات مختلفة أو أطيافا جديدة من الضوء بحساسات لا نملكها الآن في هذه النسخة من العالم! كنا لنتعالج بحقن كبسولات حرارية إلى مواضع الالتهاب في جسدنا عن طريق الوريد! كنا لنلتقط موجات بأجهزة جديدة توصلنا إلى اختراعها مع سلسلة مختلفة من المصادفات! كنا لأوجدنا مادة مختلفة عن البلاستيك أو الزجاج في صنع ألعاب الأطفال أو إكساء النوافذ، كنا لنتنقل بواسطة آليات على شكل كرات أو مثلثات تحول صمغ الشجر إلى طاقة! كنا لنكتشف علاقات جديدة بين الكواكب تحكمها قوانين غير الجاذبية التي كانت ستبقى أمرا خارج نطاق بحثنا! كنا لندرس الفضاء مثلا بواسطة أسهم بحجم أصابع اليد تطلقها مسرعات هائلة القدرة! وكنا وكنا وكنا…

في عالم آخر كان العالم ليأخذ شكلا آخر مختلفا تماما تعجز عن تخيله عقولنا التي نعتقد بقدرتها اللامحدودة! وكان العلم ليأخذ سبيلا آخر يوصلنا إلى قناعات جديدة غير التي نملكها الآن ونعتقد بصحتها المطلقة لأنها أتت حسب زعمنا عن طريق دليلنا الموثوق “العلم”، وكأنَّ العلم لا يسلك إلا طريقا واحدا مستقيما يقود مباشرة إلى الحقائق النهائية لكوننا المليء بالأسرار.. وكأننا وقد سلكنا هذا الطريق بمحض الصدفة من بين طرق كثيرة لسنا حيثما نحن في مركز متاهة عملاقة من حيث تظن عقولنا المغرورة المخدوعة أن الخريطة في أيدينا هي الخريطة الوحيدة الصحيحة وأن العلم هو مرشدنا الحكيم الذي علينا أن نتبعه دون تفكير، بل إن العلم في الحقيقة مرشدنا الأعمى الذي يتلمس طريقه في ظلام هذا الكون الواسع كيفما اتفق، وعلينا كي لا نضل ونحن نتبع خطواته أن نبقى مفتوحي العينين على آخرهما!

التعليقات

تعليقات