العقل والوجدان في القرآن صنوان لا يفترقان.. وقفات مع النظرية
من أبرز ما يستميلني في نظم النص القرآني وسبْكه أنه نسيجٌ فريد متكامل من الخطاب الحسّي الوجداني والخطاب العقلي، يتعاضدان وينجدلان في سياق واحد دون أن يتفرّد أحدهما عن الآخر، ولا ينفكّ هذا الأسلوب عن إدهاشك بما يحمل في طيّاته ومكامن خباياه من معانٍ نفيسةٍ درّيّة، كلّما غُصْتَ في أعماقه تبدّت لك معانٍ أخرى تؤكد المعنى الظاهر وتعزّزه وتجلوه. على خلاف أسلوب المناطقة الرياضيين والمتكلّمين واللاهوتيين الجافّ الذي يُلقي المعنى مجرّدًا جافًّا يخاطب الذهن وحده، فلا طريقة تصويرية ولا خيالٌ ولا ظلالٌ تُحيي المعنى الساكن البارد، ليلج إلى النفس من كل منافذها ويؤثّر فيها، ويستجيش الوجدان في حين مخاطبته للعقل، لتستحيل المعارف الذهنية المجرّدة واقعًا حركيًّا في كيان المرء ونشاطه، ينبض بالحياة الحقيقية التي يعيشها الإنسان بكلّه لا بذهنه فحسب. وهنا نلحظ عناية القرآن واهتمامه بالقيمة الإبستمولوجية لوظيفة الحواسّ والقلب في تأسيس المعرفة.
بين القلب والعقل
هناك تلازم وعلاقة طردية بين مفهومي العقل والقلب، وقد قامت الفلسفة اليونانية بتجريد العقل عن القلب والحس حين عرّفته بكونه جوهرًا قائمًا بذاته، فلا يستقيم في أثناء الحديث عن المعقول والمعاني العقلية والمنظومة العقلية عامة أن يُتطرّق إلى ذكر القلب في نفس السياق، فذلك ينفي عنه صفة القيام بذاته، مخصِّصين بهذا الاستقلال العقلَ بوظيفة ذهنية بحتة، والقلب بوظيفة وجدانية بحتة[1]، وداخلين في صيرورة تفكيكية لذات الإنسان ومكوناته المجتمعة والمتعاضدة والتي من خلالها جميعا تُكتسب المعارف وتتراكم الخبرات.
وقد تأثر كثير من علماء المسلمين وفقهائهم وفلاسفتهم بالمنقول اليوناني في هذا الجانب وساروا على خطاهم، ومنعهم الاستيراد الاعتباطي لرؤى الغرب وسردية الفصل بين العقل والقلب من إدراك مختلف الآفات التي تعتور المعرفة العقلية لاتصالها بالقلب المتقلّب وأحواله، يقول طه عبد الرحمن: “في المعنى اللغوي للقلب إشارةٌ إلى قابليّته للتغير، إذ الفعل منه، أي (قلَبَ) يراد منه، في قولنا: (قلب الأمر)، أنه غيّره إلى عكسه، وهذا منتهى التغيير؛ فيكون في إسناد العقل للقلب إرادة صريحة لنسبة قابلية التغير إليه، هذه القابلية التي لا تفتأ تؤكدها وقائع تقلّب المعرفة الإنسانية، نظرية كانت أو عملية”[2].
ويقول البهيّ الخولي في سياق حديثه عن الحداثيين الذين أُشرِبوا في قلوبهم روح المادية المدنية فحالتْ بينهم وبين حسن الفهم والتصور لحقائق الدين وتلقّي مخرجاته بالإيجاب: “إن هؤلاء في حالة ركود روحي، طغى عليهم تيار مدنية المادة، فغمر مواهبهم الربانية، فأصابها بخدر أو جمود، وهيهات أن تصل إلى إقناعهم بمكان الإسلام كعقيدة ونظام، مهما أوتيت جدلا وعلما، ما دمت تخاطب هذه الحاسة المعطلة فيهم؛ فتراهم يستمعون إليك وهم لا يفقهون، وينظرون إليك وهم لا يبصرون، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوك يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25] ولسنا نقصد أنهم لا يفهمون لأن عقولهم متبلدة، بل هم لا يفهمون لأن قلوبهم -وهي مركز الملكات الإلهية- معطلة عن الفهم بما شغلها وألهاها.”[3]
فانظر أخي القارئ كيف أسفر لنا القرآن الكريم في الآية السابقة -وفي غيرها- عن الوشيجة المعرفية بين العقل والقلب والعلاقة الوطيدة بينهما، وكيف جعل أول مصادر تلقي المعرفة وقبولها هو القلب السليم المنفتح للحق، فيتفاعل معها وبها ويشاركه العقل في التفاعل والتأثر والتمحيص، فلا تتأتى أنوار الهداية والعلم والبيّنة إلا لقلب معافًى من أسقام تورث منتَجًا فكريا سقيما مثلها.
وإنه لعجب عجاب أن يقرأ المسلم في كتاب ربه آيات كثيرة لا تحصى كلها تنيط عمل العقل بعمل القلب، ثم هو يفصل بينهما ويحدد لكل منهما مجاله الذي يعمل فيه، فيجعل القلب محلّ العواطف والمشاعر والانفعالات، والعقل محل الفقه والمعارف والمحاكمات، متناسيا بذلك قول ربّنا المُحكَم: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج: 46].
لقد أعطى القرآن الكريم للعقل فضاءه الذي يعمل فيه حين تلقّيه المعارف والحقائق وإدراكها، فيبحث عن عللها ومقاصدها وغاياتها ومقتضياتها العملية والنفسية، في حين أنه قضى على هذا العقل في بعض الأمور والأحداث بأن يدركها ويسلّم بها فقط، دون الخوض في تفاصيل هي خارج الإدراك البشري، ولا يمكن للكينونة الإنسانية المحدودة بالزمان والمكان، والمحكومة بالقصور والضعف والجهل أن تستوعبها.
كيف تكمل العقيدة جانب العقل والوجدان؟
الله خالق هذا الإنسان وبارئه قد أودع فطرته الارتياح للغيب المجهول كما الأنس بالواقع المعلوم، والعقيدة التي توازن بين هذا الجانب وذاك لهي أكمل وأشمل عقيدة وأكثرها واقعية، وهي مطابقة للفطرة الإنسانية وملبّية لحاجاتها وأشواقها وتطلّعاتها. ويحفظ هذا التوازن[4] العقلَ من التخبّط في التيه والظلمات، والوقوع في الغلوّ والانحرافات التي شهدناها على مرّ تاريخ الفكر الغربي الحديث عامة، وعصر التنوير خاصة بمفكّريه وفلاسفته “الذين اعتقدوا بأن فجرًا جديدًا بدأ يشرق على الجنس البشري، وأن نوره هو «الحس السليم» والحقيقة البسيطة الواضحة”.[5] فتارةً يقدّسون العقل إلى حدّ التأليه ويتخذونه مركزًا ويجعلونه الأداة الوحيدة للتوصّل إلى الحقائق في النصف الأول من القرن الثامن عشر، وفي نصفه الثاني انقلبوا على أعقابهم ووجهّوا نقدًا للعقل من قبل ديفيد هيوم وكانط وغيرهم، وكذلك مع نشوء المذهب الرومانتيكي الذي كان “بادئ ذي بدء، ردة فعل مضادة لعصر التنوير، إذ جاء مناهضًا للعقلانية والمادية والميكانيكية والكلاسيكية، ولجميع المكونات الرئيسية لعصر التنوير. وكانت نقطة الضعف في عصر التنوير تتمثّل في إهمال هذا العصر للخيال، وفي استقطابه للعالم الخارجي، وفي افتقاره لكل شيء باطني أو عميق الجمالية، وتجاهل سر الوجود ورعبه، وكل ذلك رغبة منه في جعل كل شيء مفهومًا وواضحًا”.[6]
لإدراك أهمية ازدواجية الخطاب بين العقل والوجدان ومركزيته في المنهج القرآني ودوره الفاعل المحوري؛ فلنرجع إلى بدايات مهبط الوحي وانبلاج فجر الإسلام بين قوم يشركون بالله وينسبون له ما ليس له، وقد توارثوا عن آبائهم هذا الاعتقاد وهذا التصور، ثم جاء من يدعوهم إلى عبادة ربّ واحد لا شريك له، والتوجّه إليه وحده في الشعائر وتلقّي الشرائع منه وحده، وإنه لَأمرٌ عجاب ولَقولٌ يُستنكَر عند تلك الثلّة من القوم: {وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 4-7].
إذن فقد جاء القرآن لتصحيح الاعتقادات وبلورتها، وجلاء التصورات الفاسدة واستجلاء الحقائق الخالدة، واستنقاذ الفطرة من تحت ركام الجاهلية. جاء لإعادة إحياء التوحيد الخالص الذي بُعث به الرسل من قبل، والذي تنادي به الفطرة الحيّة المستقيمة، في نفوس تلك العصبة التي تتعجّب وترفض أن يكون لها إلهٌ واحد، فكيف السبيل إلى ذلك؟ عن طريق الوجدان.. نعم!
يقول سيد قطب: “موطن العقيدة الخالد هو الضمير والوجدان -موطن كل عقيدة لا العقيدة الدينية وحدها- وأقرب الطرق إلى الضمير هو البداهة، وأقرب الطرق إلى الوجدان هو الحس”. ويقول أيضا: “لقد عمد القرآن دائمًا إلى لمس البداهة، وإيقاظ الإحساس، لينفذ منهما مباشرة إلى البصيرة، ويتخطاهما إلى الوجدان، وكانت مادته هي المشاهد المحسوسة، والحوادث المنظورة، أو المشاهد المشخّصة والمصائر المصوّرة. كما كانت مادته هي الحقائق البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة، وتدركها الفطرة المستقيمة”.[7]
ويؤكّد على هذه الحقيقة البهيّ الخولي إذ يقول: “إن فهم هذه الرسالة وقبولها منوطان بيقظة الوجدان الإلهي في الإنسان، لا بالفهم العقلي والمنطق الذهني فقط.. وإن العربي الذي تحمّس للعقيدة وبذل في سبيلها ما يملك، وآمن بها لدرجة الفناء فيها، ما فهمها وقبلها إلا أنه ذو وجدان ذكي مرهف، وكيان عصبي فطري يقظ، ووعي روحي مهيّأ لأمر الله. وما كان العقل وحده ليعشق الرسالة هذا العشق الذي استغرق مشاعره كلها، حتى أتى على حب الأوطان والآباء والأبناء”.[8]
لذلك نجد أن الآيات المكية -بحسب أشهر الأقوال في كون الهجرة هي الفاصل بين الآيات المكية والمدنية- قد اعتنتْ في خطابها بلفت النظر إلى آيات الله في الطبيعة والكون، والدعوة إلى تأمل المشاهد الطبيعية والنفس الإنسانية والحيوان والنبات والأشياء وكل ما هو من آثار الألوهية الواحدة التي يستطيع العقل البشري إدراكها ضمن نطاق عمله ومحدودية فكره، “فالعرب كما شرح ابن المقفع «ليس لها أول تؤمه ولا كتاب يدلها»، بل يتلقّفون معارفهم عن طريق الاتصال المباشر بالحياة”.[9]
على خطى الخليل.. قلّب النظر والفؤاد
ومن خلال النظر في آيات الكون اهتدى خليل الله أبو الأنبياء عليه السلام إلى الخالق الحقّ الذي لا إله غيره ولا شريك له {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]، فبعد أن قلّب وجهه في ملكوت السموات والأرض بكرةً وعشيّا؛ أحسّ بارتياب وعدم وجود روافد وتوافق بين مرتكزات الحق الكامنة في فطرته المتعلقة بتصور حقيقة الألوهية، وبين ما عاينه من صفة أفول الخلائق الكونية. يصوّر لنا القرآن نموذجًا لإنسانٍ فَهِمَ لغة الكون وأدرك أسراره ومراميه والحقائق الكامنة فيه، وهو تجاوب إيجابي عميق المعنى والدلالة، ويلفتُ القلب والنظر إلى المنهجية السليمة والصحيحة في التعامل مع الكون وكذلك سائر ظواهر الحياة،[10] وهو مسلكٌ بعيد كل البعد عن إنسان العصر الحديث المُخترَق والمؤدلَج عقائديا وفكريا ووجدانيا، الذي لا يستطيع تجاوز أُطر المادة والنظر إلى الغيبيّات والماورائيات، فكل ما لا يمكن أن يفسّره ماديا ويخضعه لقوانين العلم التجريبي فهو -بزعمه- غير موجود، مختزلًا نفسه وآفاقه ومحيطه في هيئة معادلة فيزيائية لا تنبض بالحياة، وذلك حين ألغى اعتبار الوجود الغيبي وحقيقة الإنسان الوجودية والرسالية والمعاني الغائية، وقد أصبح أمره فُرُطًا بعد ذلك الحق الذي ضيّعه.
وهكذا نَخلُص إلى أنّ التأمّل والتدبّر في النفس والآفاق والجمادات والعجماوات من شأنه أن يخلق وشيجة حيّة بين الإنسان والوجود، فتهدي النفوس الحَيْرى والذوات التائهة إلى وجود خالق مدبّر مبدع، عظيم حكيم خبير، له مقاليد السموات والأرض.. له وحده! لا ينازعه في حكمه أحد ولا يشاركه في ألوهيته أحد، وله الدينونة وحده بلا منازع ولا مناكف، شاملة للوجود كله بمن فيه. ولقد اعتنى المنهج القرآني أيّما اعتناء في بيان هاتين الحقيقتين – أي حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية – وترسيخها وتوطيد قاعدتها وتشييد أركانها في أعماق النفس الإنسانية، مبيّنًا الآماد والآفاق التي تمتدّ إليها، في عالم الغيب وعالم الشهادة، مستخدمًا شتى طرق التأثير بصورة ليس لها نظير.
وحين تختلّ أو تُفقد تلك القاعدة في الضمير البشري التي يقوم عليها اعتقاد الإنسان وينبثق منها تصوره الموافق لحقيقة الكون والحياة والإنسان؛ فإن البشرية تخبطُ خبط عشواء وترزحُ تحت أغلال قيّدت نفسها بها، فإهمالهم لعنصر الخيال واهتمامهم بالواقع والمادة والمحسوسات والعلم التجريبي أفضى بهم إلى عالم عقيم بارد موحش، مؤطّر ضيّق الأفق، رسمتْ حدودَه الداروينيةُ القديمة[11] وسائر المذاهب المادية، وهو عالم لا يصلح بصيغته التعريفية والمضمونية إلا لساكنين ذوي طبيعة ميكانيكية آلية جامدة. وجنحت الجاهليات الغربية تارةً إلى هنا وتارةً إلى هناك، مرة تقدّس العقل وتحارب الشعر والعاطفة وجميع الفضاءات الإنسانية كما حدث في عصر التنوير، ومرة تجنح إلى الخيال والشاعرية وتناهض العقلانية والمادية الكلاسيكية كما في الحركة الرومانتيكية التي وصفها راسل بأنها كانت “تتميّز ككلٍّ بالاستعاضة بالمعايير الجمالية عن المعايير النفعية،”[12] وما استطاعوا أن يوازنوا بينهما ولن يستطيعوا والقاعدة موجودة بغموض وتحريف أو مفقودة تمامًا.
وحده النظام الإسلامي والخطاب القرآني الذي يطابق بنية النفس الإنسانية في تلبيته للاحتياج الواقعي والاحتياج الخيالي، فهما مكوّن أساسي في جبلّة الإنسان وكيانه، إن فُقِد أحدهما أو طغى أحدهما على الآخر اختلّ نظام الحياة ونظام الإنسان، وحالَ هذا الطغيان بين الإنسان وبين وجوده الرسالي، فكان من المُغرَقين في أزمة وجودية وفكرية وأخلاقية وقيمية.[13]
ولعبد الوهاب المسيري جملة مشهورة تعبّر عن الطبيعة الثنائية لحقيقة الإنسان الوجودية وبنيته التكوينية، أي الروحية والمادية، إذ يقول: “يقف الإنسان وقدماه مغروستان في الأرض وعيناه شاخصتان إلى السماء، وهذا هو سرّ عظمة الإنسان ومأساته، وهذا أيضا هو سرّ وجوده الإنساني المركّب”.[14]
بحثًا عن عاطفة العقل
في مدح العقل العاطفي وذمّ العقل المنطقي يقول البهيّ الخولي في سياق كلامه عمّن تلقّفوا معاني القرآن بعقولهم وفهمهوه، أما قلوبهم فأبوابها مؤصدة تأبى هديه: “والعقل المنطقي يسيغ ما يسيغ في ركود وقبول سلبي، أما العاطفي فيسيغ ما يقبله في حرارة وحركة وقبول إيجابي؛ وإنما تحتاج الرسالة من الرسالات – حتى الأرضية منها – إلى أن تفهم على هذا الوجه الأخير، فالعقل العاطفي هو الذي يفتح لها آفاق النفس، ويصل بها إلى قرار الفطرة، ويمكّن لها في حبّات القلوب، وبها يُسِّرُ إلى الأعصاب يقظة وعزيمة، ويشيعها في الدماء نشاطا وحيوية، فيصبغ صاحبها بصبغتها من جميع أقطاره الظاهرة والباطنة، فتبدو ألوانها في أعماله، وأقواله، وأفكاره، ونواياه، واتجاهاته، وعواطفه، وأهوائه، فإذا هي قد ملكته ولا يملكها، وسخّرته لمشيئتها ولا يسخّرها، فيحيا لها منفعلا بخواطرها، غيورا على حرمتها، مجاهدا لإعلاء مبادئها، باذلا في سبيلها ماله، وراحته، ووقته، ومواهبه، ودمه، ونفسه، سعيدا بذلك غاية السعادة، وراضيا به تمام الرضا؛ وهذا الفهم هو المعروف لدى علماء التوحيد بأنه التصديق القلبي. وهيهات أن يؤتى العقل المنطقي هذه الثمرة الباهرة، والقوة القاهرة.. فالمسألة على هذا ليست مسألة الذهن الذي يفهم أو لا يفهم، والعقل الذي يصدّق أو لا يصدّق، وإنما هي مسألة القلب الذي يرضى ما يقال أو يجحده، ويبشّ له أو يرفضه، {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]”.[15]
وأهمية أخرى لهذا الخطاب الإيجابي الذي يثير الفاعلية في النفس والأرض بعد أنِ استقرّ على قرار له في الكيان البشري، يقول محمد قطب: “ولكن القرآن – وهو منهج حياة، وهو كتاب تربية وكتاب دين – يهمّه كذلك أن يوقظ النفس من تبلدها لتتفتح وتستنشق الحياة!
فإنّ الإنسان حين تدرك حسّه هذه البلادة ينحصر في دائرة ضيقة رتيبة خاملة لا تنبض فيها الحياة. ومن شأن ذلك أن يفسد نفسه جميعها، فالنفس المتبلدة لا تجيش لحمل أمانة الخلافة في الأرض: لا تنزع إلى الخير، ولا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، ولا تبني ولا تنمي ولا تحوّر ولا تبدل في هذه الأرض، لأن ذلك كله حركة جياشة فعالة مُريدة، والحركة لا تنشأ من التبلد، والجيشان لا ينبع من الخمول!
فمن أجل خير هذه النفس وصلاحها، من أجل رفعة الحياة البشرية وترقيتها، يسعى القرآن إلى تحريك هذه الحواس المتبلدة لتنفعل بالحياة في أعماقها، وتتجاوب تجاوبًا حيًّا مع الأشياء والأحياء”.[16]
منهج التربية القرآني
لسيّد هاهنا رؤية عميقة فريدة وملمح نفيس إذ يقول: “ومما يلاحظ بوضوح في منهج التربية القرآني كثرة توجيه الإدراك البشري إلى ما في الكون، وما في الأنفس، من أمارات وآيات، وتوجيه هذا الإدراك إلى مصاحبة صنعة الله في الأنفس والآفاق. ذلك أن هذه المصاحبة – فوق أنها تنبه الإدراك البشري إلى معرفة الصانع من صنعته، وإجلاله بإدراك عظمته من عظمة صنعه، وحبه بإدراك عظمة أنعمه – فهي في الوقت ذاته تطبع الإدراك الإنساني بخصائص تلك الصنعة: من دقة وتناسق وانتظام، لا خلل فيه ولا تصادم ولا تفاوت. كما تطبعه بموحياتها كذلك من سنن وحقائق ومقررات.. وليس بالقليل مثلا أن ينطبع في حس الإنسان وشعوره من متابعة التغير المستمر في أحوال هذا الكون، وفي أحوال البشر، وفي أحوال النفس، أن الدوام لله وحده، الذي يغير ولا يتغير. وأن كل شيء حائل أو زائل، إلا الحي الذي لا يموت، الصمد الثابت المقصود.. وليس بالقليل مثلا أن ينطبع في حس الإنسان وشعوره من ملاحظة ثبات السنن التي تحكم ذلك التغير، وثبات الناموس الذي يتم به التبدل والتحور، أن الأمور لا تمضي جزافًا، وأن الحياة لم توجد سدى، وأن الإنسان غير متروك لقًى. وإنما هو التدبير والتقدير، والابتلاء والجزاء، والعدل الصارم الدقيق في تقدير المصير”.[17]
أما عبد الحميد إبراهيم فقد ارتأى معنى جوهريّا، متلبّسًا روح العربي في العصر الجاهلي آنذاك ليستشرف أثر التأمل في ظواهر الكون المتقابلة ومعالم الحياة المتضادة والإقرار بواقعية الصراع بين الخير والشر في القلب الإنساني على الصلة بين الله والإنسان:
“وكان أهم ما اكتشفته في هذا الكتاب هو عنصر (الحركة)، الذي يميز الحضارة العربية الإسلامية، فقد كان العربي في العصر الجاهلي جزءًا من الطبيعة حوله، متطرف مثلما هي متطرفة، ومتقلب مثلما هي متقلبة، قد يبدو عنيفًا كنهارها، ثم يصبح رقيقًا كنسيمها. وحين نزل القرآن الكريم لفت العربي إلى حركة الظواهر الطبيعية حوله، وإلى هذا التطارد بين الليل والنهار، والظل والشمس، وإلى حركة الأرض تكون هامدة ميتة، ثم ينزل عليها الماء فتهتز وتحيا. ثم نقل القرآن تلك الحركة إلى قلب المسلم، واعترف بواقعية الصراع بين الخير والشر وبصعوبة التحكم في هذا الصراع، والاهتداء إلى الحقيقة من خلال هذا الصراع والتي يسميها الصراط المستقيم. وتلك نقلة كبيرة في تاريخ الحضارة العربية، لأنها تعني تأمل حركة الطبيعة بدلًا من الاندماج والتشيّؤ فيها، بمعنى أنها أصبحت موضوعًا للذات، والتي تحاول احتواءها ثم تجاوزها.
إنّ الصلة بين الله والإنسان في الحضارة الإسلامية، إنما هي تعبير عن تلك الحركة، فهي تقوم على الشدّ والجذب والأخذ والردّ. وتجعل المرء في حالة من التوتر الصحي، فهو ليس بعيدًا عن الله بعدًا يوئسه، ويجعله يعيش في كون معادٍ خالٍ من الروح القدس. وهو في الوقت نفسه ليس قريبا منه قرب اتحاد أو حلول، ينسيه الفارق بين العالمين، وينتهي به إلى سديمية فارغة، بل هو قريب بعيد، في حالة تجمع بين الخشية والرجاء، وتعمر القلب بالحركة المتواصلة والمتراوحة، بين الإنسان والمطلق، كالصورة في المرآة على حد تشبيه الغزالي، ليست هي المرآة وليست هي مفارقة لها.”[18]
على سبيل الختام
الله عز وجل يعلم ماهيّة الإنسان وتركيب كينونته ومساربه الخفيّة التي تصله بالحقيقة الأزلية الكبرى، ويدرك كُنْهه والمدخلات المؤثرة في نفسه؛ لذلك خاطبه بما هو إنسان.. لأنها نفس إنسان لا تركيبة ذهن محض، وما الذهن إلا كوّة واحدة من منافذ النفس العديدة. خاطبه بما يلائم طبيعته ويؤثّر فيه ويجيب عن تساؤلاته الحائرة، ويضيء غياهب قلبه المعتمة وجنبات عقله المظلمة، بالقول الذي يخاطب العقل ويسبر أغوار النفس ليصل نوره إلى القلب بجلاء ووضوح، من خلال المشاهد الناطقة والصور الحيّة الشاخصة وإلباس المعنى لبوس التشخيص والتمثيل الذي يلمس الحسّ ويوقظه؛ فتُستنار البصيرة، فتتهيّأ النفس للإيمان والإذعان للحقائق، ومن ثم تستحيل قراءة النص القرآني قراءة حركية فعّالة، لا تجريدات ذهنية باردة تُختزن في الأذهان دون أن يكون لهذا الاعتقاد مصداقه ومدلوله في الواقع العملي وفي الضمير البشري ذاته. وهذا هو غاية الخطاب القرآني وأَولى مآربه.
في مقال قادمٍ سوف نطرح أمثلة تطبيقية لهذا الأسلوب المؤثّر في المنهج القرآني بعد أن استعرضنا الجانب النظري، ليتضّح لقارئ المقال كيف لمس القرآن الوجدان، ونرى قدرة هذا الأسلوب بخاصّيته المزدوجة على الولوج إلى النفس البشرية من كل مساربها، والامتداد إلى آفاقها والتأثير فيها كل التأثير وأكمله، لنرى الإعجاز الفني والجمالي الكامن فيها، والقدرة – التي تعجب لها العقول وتلتذّ بها القلوب – على شحن ألفاظ مجرّدة بحمولة تمثيلية تصوّرية بديعة، توضح المعنى وتعززه وتقرره في أعماق الضمير وأكانه، وكذلك لنتّبع منهجه ونلتمس أنواره في كيفية بيان الحق والهدى وسبيل الرشد.
[1] يراجع فصل “إشكال الفصل بين العقل والحس” وفصل “إشكال الفصل بين العقل والقلب” في: سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، طه عبد الرحمن (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2012)، 65-69.
[2] المصدر السابق، 73.
[3] البهيّ الخولي، تذكرة الدعاة، (القاهرة: دار الكتاب العربي، 1952م) 14.
[4] يراجع فصل “التوازن” في: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، سيد قطب (القاهرة: دار الشروق، ) 119.
[5] رونالد سترومبرج، تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، ترجمة: أحمد الشيباني (القاهرة: دار القارئ العربي، 1451 ه – 1994 م) 181.
[6] المصدر السابق، 307 – 308.
[7] من فصل “المنطق الوجداني”، سيد قطب، التصوير الفني في القرآن (القاهرة: دار الشروق، 1945) 226-229.
البهيّ الخولي، تذكرة الدعاة، 14.[8]
[9] عبد الحميد إبراهيم، الوسطية العربية: مذهب وتطبيق، الكتاب الأول: المذهب (القاهرة: دار المعارف، 1990) 47.
[10] يراجع فصل “ألوهية وعبودية” في: مقومات التصور الإسلامي، سيد قطب (القاهرة: دار الشروق، 1418ه – 1997م) 100-108.
[11] لكونها تختلف عن الداروينية الجديدة Neo-Darwinizim التي تقرّ بتفرّد الإنسان وتكريمه عن الحيوان.
[12] تاريخ الفلسفة الغربية، برتراند راسل، ترجمة: محمد فتحي الشنقيطي (القاهرة: دار الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977) 277.
[13] يراجع فصل “الواقع والخيال” في: منهج التربية الإسلامية، محمد قطب (القاهرة: دار الشروق، 1414ه – 1993م)، 148-150.
رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، عبد الوهاب المسيري (القاهرة: مطبوعات الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2000).[14]
البهيّ الخولي، تذكرة الدعاة، 16.[15]
[16] محمد قطب، منهج الفن الإسلامي (القاهرة: دار الشروق، 1403ه – 1983م)، 143-144. وله كلام مماثل في موضع آخر مفاده أن إثارة الوجدان وإزالة التبلّد الذي يقع في حسّ الإنسان وسيلة من وسائل طريقة القرآن في هداية النفس البشرية. يراجع فصل “طريقة القرآن في هداية النفس البشرية وردّها عن شتى الضلالات” وفصل “القرآن والوجدان” في: ركائز الإيمان (القاهرة: دار الشروق، 1422ه – 2001م)، 21-23.
[17] سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي، 147-148.
[18] عبد الحميد إبراهيم، الوسطية العربية، 47-48.
Trackbacks & Pingbacks
[…] [16] محمد قطب، منهج الفن الإسلامي (القاهرة: دار الشروق، 1403ه – 1983م)، 143-144. وله كلام مماثل في موضع آخر مفاده أن إثارة الوجدان وإزالة التبلّد الذي يقع في حسّ الإنسان وسيلة من وسائل طريقة القرآن في هداية النفس البشرية. يراجع فصل “طريقة القرآن في هداية النفس البشرية وردّها عن شتى الضلالات” وفصل “القرآن والوجدان” في: ركائز الإيمان (القاهرة: دار الشروق، 1422ه – 2001م)، 21-23. […]
[…] [11] لكونها تختلف عن الداروينية الجديدة Neo-Darwinizim التي تقرّ بتفرّد الإنسان وتكريمه عن الحيوان. […]
[…] [3] البهيّ الخولي، تذكرة الدعاة، (القاهرة: دار الكتاب العربي، 1952م) 14. […]
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!