العقل والوجدان في القرآن صنوان لا يفترقان.. نماذج تطبيقية

image_print

قد بيّنا في الجزء الأول من المقال فرادة النص القرآني في ازدواجية نظمه بين الخطاب العقلي والخطاب الوجداني، وحيويّته الدافعة بخلاف برودة أسلوب المناطقة والمتكلمين، ثم بيان أهمية هذا الأسلوب في تأسيس المعرفة السليمة، وفاعليّته الواقعية الحركية، وموافقته لتركيب الكينونة الإنسانية في احتياجها إلى العنصر الواقعي والعنصر الخيالي، ثم الحديث عن إشكالية الفصل بين العقل والقلب المستوردة من المنقول الإغريقي ونقدها، وبيان محدوديّة العقل في الفضاء الشرعي الإسلامي، وموازنة العقيدة بين عالم الغيب وعالم الشهادة التي تحفظ العقل والنفس من الغلوّ والشطط هنا وهناك، ثم بيان تهافت أسس المنظومات الفكرية الفلسفية الغازية وفساد إفرازاتها سواء العقلانية المجرّدة الديكارتية والمذهب التجريبي البيكوني الذي يُغالي في الحسّ ويعظّم الرؤية المادية ويستبعد شؤون الغيب والمعجزات، مصادمين بذلك حقيقة الإنسان وحمولة الأسئلة الوجودية، وحقيقة الكون والحياة، وموقعين به في أزمة روحية يحاول التخلص من تبعاتها بالفن والموسيقى والشعر؛ ليظهر المذهب الرومانتيكي، وفيما بعد مذاهب مثل البراغماتية والفلسفة الوجودية بمنزلة رد فعل على الدمار المادي والقيمي والأخلاقي الذي خلّفه هذا الفكر الشارد.

أما الآن فسوف نأتي بنماذج قرآنية لنطوف في رياضها ونتنسّم عبيرها ونقطف من ثمارها، لكن لا بد أن نبيّن ماهيّة التصوير الذي هو أحد أدوات الخطاب العقلي الوجداني وأكثرها تأثيرًا، ثم بيان أنواعه وتمثُّلاته لنلحظه أينما جاء وكيفما جاء.

التصوير في القرآن

التصوير كما يقول سيّد قطب: “الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حيّ، وإذا الطبيعة البشرية مجسّمة مرئية. فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردّها شاخصة حاضرة؛ فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل”.[1]

وللتصوير ضروبٌ شتّى، وهدفها واحد، كينابيع عدّة تصبُّ في مجرى واحد، وهي كما بيّن سيّد: “تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل؛ كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيرا ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملّاها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان”[2]، وهذا من ثراء أسلوب التصوير وتنوع معالمه وطرقه ومظاهره في التأثير على النفس الإنسانية.

وهذه الازدواجية في الخطاب القرآني بين العقل والوجدان ينضوي تحتها القرآن كله، فتارة يكون بعض ما يتعلق بتوحيد الألوهية والربوبية، أو مشاهد الحياة في الأرض وفي الإنسان، أو مناظر يوم القيامة وكل ما يتعلق بالجنة والنار من صور النعيم والعذاب، أو حيثما شاء أن يعبّر عن حالة نفسية أو صفة معنوية، أو نموذج إنساني أو حدث تاريخي، يُعبّر عن كل هذه العناصر بطريقة العرض القرآني المعجزة الفريدة في إحياء المشاهد في كيان المتلقّي بالتخييل المنظور والواقع الملموس، ولنستعرض أمثلة، منها: {المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ * اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 1-4].

تأمّل هذه اللوحة المبهرة التي رُسمت بغير ريشة ولا ألوان! تأمّل هذا الحشد الهائل من الصور والأشكال التي تنبض بالحياة!

هو الله الذي نصب السماوات عاليًا دون أعمدة ترفعها وتحملها وجعلها سقفًا محفوظًا للأرض، فأين ما تطلبون من معجزات مادية محسوسة وفوقكم آيات كونية ناطقة بالحق؟ وذلّل الشمس والقمر لمنافع خلقه[3]، وأسّس الحياة على قاعدة الزوجية، وبسط أرضها، وأرسى جبالها، وأجرى مياهها، وهيأها لاستقبال الوجود البشري في حناياها.

إنّ هذه الأرض الرحبة الغنّاء بأنهارها الجارية وجبالها الراسية، وما فيها من ثنائيات متقابلة، وهذا الصبح المتنفِّس الذي يطلعُ على العباد بشروقه الأخّاذ، وتضوّع نسيمه الأريج الزكيّ، وتسليم الشمس عرشَها إلى القمر عند المغيب ليفترش السماء، ويضيء بنوره الساحر، ويمحو صخب الحشود، ويُسدِل سكينته على القلوب والوجود، وفي حركة الليل والنهار الدائبة التي يجتمع فيها المعنى النفعيّ والحسّ الجماليّ، وتلك الأراضي المتجاورة المتضادة مختلفة الألوان والأشكال والطبيعة، وما ينبت فيها من زرعٍ ذي منبت واحد أو متفرّق، واختلافها عن بعضها بعضًا بالنسق الظاهري والهيئة واللون والطعم والرائحة رغم كونها كلها تُسقى من نفس الماء!

إنّ هذا الحشد الغفير من الظواهر والصور، والحركة والسكون، والألوان والأشكال والثنائيات المتقابلة؛ تلمس بمنطقها الفطري المباشر الحسَّ وتوقظ القلب والعقل من غفلتهما، وتثير الوجدان وتستجيش كل خالجة فيه ليستنشق الحياة، ويُصغي إلى لغة الكون ويفقه دلائلها والحقائق المنطوية في داخلها، ويتأمل في صفحة الوجود صنعَ الله الذي أتقن كل شيء.

وفي أنفسكم..

وكما أنه أنزل إلينا كتابًا نقرؤه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقد جعل لنا في النفس والآفاق آياتٍ تجول فيها العقول وتتدبرها القلوب فتهدينا إلى الحق وتُعلمنا ألّا معبودَ بحقٍّ سواه، فهذا كتاب الله المقروء، وتلك آفاق الكون المرئية، وتلك خبايا النفس المكنونة، وكله من رحمته بعباده، فلم يذرهم هائمين في مهمه التيه واللاجدوى والعبثية.

وأراد الله عز وجل أن يخبرنا عن حال الإنسان حين يسهّل عليه قبول دينه فيشرح صدره للإيمان بخالقه والتسليم لشريعته والتصديق برسوله ﷺ والامتثال لكل ما جاء به، حتى يستنير الإسلام في قلبه فيضيء له ويتّسع صدره بـ “لا إله إلا الله”، فقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125].

وفي المقابل وصف لنا غير المؤمن وحال قلبه حين لم يتلقّف هدايات الوحي، فصوّر لنا المشهد بقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125].

وما إن تصل إلى كلمة {حرجًا} حتى يأخذك خيالك إلى تصوّر تلك الشجرة الملتفّ بها الأشجار، لا يدخل بينها وبينها شيء لشدّة التفافها بها، وهكذا حال قلب الكافر والمنافق، لا تصله الموعظة ولا يُقذف في قلبه نور الإيمان، ولا يبلغه شيء من الهدى والخير، لأنّ الشرك قد ران على قلبه ولفّه كما الشجرة تلتفّ بالأشجار حولها.

ثم تضيق أنفاسك وتتسارع نبضاتك حين تقرأ {كأنّما يصّعّد في السماء} مع تشديد الصاد والعين في {يصّعّد} والتي تُحسّ من خلالها شدّة ما يُلاقيه الإنسان حين صعوده السماء من نقص في الأوكسجين وقوة الجاذبية الأرضية، وتغيّر سرعة الصعود مما يؤدي إلى استحالة صعوده دون أجهزة وآليات تدعمه وتزوِّده بما ينقصه، وكما أنه لن يبلغ عنان السماء فكذلك التوحيد والإيمان لن يدخلا قلبه.

الاحتياج إلى الواحد الصمد

ويخبرنا سبحانه بأنه هو النافع والضارّ وحده، وما يكون للعبد ظاهرًا وباطنًا من رزق يتنعّم به ويتقلّب فيه فهو من عند خالقه لا من عند غيره، وهي آية تدل على أنّ التوحيد من فطرة الإنسان:

{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].

وفي جرس هذه الكلمة “تجأرون” تصوير حسّي لمدلولها، فالجأر كما ورد في تفسير الطبري أصله: من جؤار الثور، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره. وكذا حال من مسّهم الضر، يلجأون ويتضرّعون إلى أرحم الراحمين، إلى من بيده أن يكشف عنهم ما هم فيه رغم شركهم وجحودهم وعصيانهم له، ولسان حالهم: أيا ربّ.. هلّا وابلٌ يحيل قفارَ صدورنا ريّانةً كأن لم يُصِبْها القحط بالأمس؟ فليس لنا من دونك ملتحدٌ..

{تجأرون} كلمة إن تأملتها تراءى لك ما بين حرفي الواو والنون نداءات طويلة، واستغاثات عديدة، وألمٌ ممتدّ يلفّ روح صاحبه..

تصوير دقيق باعث على الأحاسيس ومحرّك للخلجات، دافع للتوجّه إلى ربّ البريّات إذا ما حلّتْ على العبد الرزايا والمُلِمّات.

الخالق الواهب.. لا ولد ولا ندّ له

ويريد أن يبيّن عظم فرية مقولة اليهود والنصارى وبعض المشركين وشناعة ادعائهم بنسبة البنوة لله تعالى، فلا يعبّر عنه بتعبيرات ذهنية باردة لا يتخطى المعنى فيه خارج حدود الكلمات، بل يرسم لهذا الافتراء الجلل صورةً حسّية حركية تخاطب الكينونة الإنسانية من منافذ عدّة:

{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88-93].

مشهدٌ تخيّلي مهيب، يثير فيك الفزع والهول، ويزلزل كل ذرة في جسدك مع كل حركة وهزّة من تلك الجمادات.. تتفطّر السموات.. ثم تنشقّ الأرض.. ثم تخرّ الجبال، حتى يستقرّ في نفسك فداحة هذا القول، وأنه ليس بالاعتقاد والكلام الهيّن في حقّ الله الذي ليس كمثله شيء!

وقد كان بإمكانه جل جلاله أن يكتفي بقوله {لقد جئتم شيئا إدّا} ويردفها بقوله {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} دون أن يتطرّق لذكر الحال الذي تكاد تؤول إليه السموات والأرض والجبال من عِظَم دعواهم، لكنّ هذا الخطاب الذهني الأحادي لن يثير فيك ما أثاره وجود التخييل والحركة، ومن ثمّ لن يتعاظم عندك – كما ينبغي – ما جاؤوا به في حق الله الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

الشجرة الطيبة

ويصف الله سبحانه لنا الإيمان به وشهادة أن لا إله إلا الله بالشجرة الطيّبة، راسخة جذورها، سامقة فروعها، دانية ثمارها في كلّ حين..

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24-25].

وكذلك حال المؤمن العامر قلبه بالإيمان والإخلاص لله وحده وعبادته وطاعته ليلًا ونهارًا، وإليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح في كل غُدوة وعشيّة.

أما كفر الكافر وعمله: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26].

هكذا في ومضة، استؤصلتْ كأن لم تكن في الأمس! وكذلك مثل الكافر، لا أصل ولا فرع لاعتقاده وعمله، قد مُحق الخير منه في الأرض، ويحمل أوزاره على ظهره فلا يصعد له عمل صالح أو قول طيب..

صورة رمادية كالحة، في مقابل صورة خضراء نضرة، ليتّعظ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

يوسف وبيان الحق.. يدًا بيد

وتقرأ قوله تعالى على لسان امرأة العزيز: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51].

وتكاد ترى حروف كلمة “حصحص” تنطق بالبون الشاسع بين الحقّ والباطل! فحرف الحاء مرقّق يخرج من وسط الحلق، أما الصاد مفخّم يخرج من طرف اللسان، حرفان متضادان لا يجتمعان مخرجًا وصفة، وكذلك نور الحقّ وظلمات الباطل.

ويريد أن ينهى عباده عن غيبة الآخر وتبغيضها إلى قلوبهم ونفوسهم فيصوّرها في نموذج إنساني:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}؟ [الحجرات: 12]. وتقف ها هنا.. تقف طويلا طويلا.. تستحضر في خيالك ذلك المشهد النتن وأنت تنهش في لحم أخيك، فتزداد نفورًا وإعراضًا عن ذلك الفعل المشين.

خلاصة القول     

هذا نزرٌ يسير من براعة نظم القرآن الكريم وكمال أسلوبه وفرادة نسجه، بين يديك هذا الكتاب الذي لم يَشُبْ نبعه الأصيل كدر، والذي لا تنقضي معجزاته وعجائبه وتأثيراته، به ندرك حقيقة الكون والحياة والإنسان وأنّها خيوط متشابكة مردّها إلى يد الله سبحانه وتعالى، بأسلوب يأخذ بتلابيب العقل وبمجامع القلب ويوقظها من سباتها وتبلّدها بتدبّرها لكتاب الكون المفتوح، وكتاب النفس المكنون، المتجلّية فيهما آيات الحقّ البديعة، فيخلق وشيجة حيّة بين الإنسان والوجود تُفضي إلى صداقة مؤنسة مع هذا الكون الرحب.[4]

أسلوبٌ هو أشدّ ما يكون تأثيرًا في الكينونة الإنسانية والضمير البشري، يلجُ إلى أغوار النفس من كل مساربها الظاهرة والكامنة، ويخاطب بقايا فطرة خالصة لم تَشُبْها أهواء إنسيّة أو تطمسها نوازع شيطانية، فيؤجّج نار قلق المعرفة في أعماق القلب، والتي لن يخمد لهيبها سوى التوصّل إلى الحق الأبلج بعد التيه والشرود في ظلمات لجلج. ومن ثم ليخبرنا القرآن بأن الهداية إلى الحق لا تؤول واقعًا حيًّا وأثرًا ملموسًا ما لم نقتفِ منهجيّته وأساليبه في الهداية، بعيدًا عن جدل السفسطائيين وتضليلهم ومغالطاتهم، وترفّعًا عن المحاججة بغية إفحام الآخر وإلجامه.

منطق فطريّ جليّ يحاكي مفردات العالم المشهود المحسوس ومكوناته، بسماواته وأرضينه، وشمسه وقمره ونجومه، وجباله وهضابه وتلاله، وبكل ما فيها من خلق؛ تُخلَع عليها صفة الحياة لتحيلها صورة حيّة، فترتسم المعاني في وجدانك متحوّلة بذلك إلى تجربة شعورية متكاملة، ثم يُستمطَر من قلبك التصديق واليقين، ومن جوارحك الحركة والفاعلية.

والحمد لله رب العالمين.


[1] سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، (القاهرة: دار الشروق، 1945) 36.

[2] المصدر السابق، 37.

 [3] وهذا مما ينفي عن المرء الشعور بالسلبية في نظام الكون، فكل ما فيه مسخّر للإنسان ولتحقيق مصالحه ورساليّته وغاية وجوده، وشعوره بأنه مكلّف بالسعي في مناكب الأرض وعمارتها – في حدود طاقاته – مع شعوره بأنه مُعان على هذه المهمة بتسخير القوى الكونية له؛ يدحض السلبية والسخط في قرارة نفسه ويدفعه دفعًا حثيثًا للعمل والإنتاج والحركة الإيجابية.

[4] على خلاف الفلسفات والتصورات التي شطّتْ فجعلتْ كلًّا من الإنسان والكون عدوًّا للآخر يتربّص به.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد