الشوق لرمضان.. أم السؤال عن معجون الأسنان؟

image_print

كلّما استحضرتُ قربَ الشهر الفضيل، وحاولت عيشَ أجوائه الدافئة في ذاكرتي أو مخيلتي، راودني تفصيلٌ تافهٌ أو عابر –ربما-، ولكنّني أجدُ فيه تفسيراً يمكن إسقاطه على كلّ تجاربنا المختلفة في رمضان.

كثُرت النكات في آخر الأيام على فكرة الأسئلة التي يطلب الناس فتواها من الشيوخ وعلماء الدين في أوائل أيام شهر رمضان، حتى اختصر كثيرون ذلك على الناس بنشر كل تلك الأسئلة -الساذجة المكررة- في صورة واحدة بجدول “يفطر أو لا يفطر”.

إلا أن السذاجة لا تقتصر على تلكَ الأسئلة، بل لعلّها تحدث في زوايا كثيرةٍ من أفعالنا في هذا الشهر المبارك الذي يبدأ سيناريو اشتياقنا له بالنصوص والعبارات، وربما في مواقف صادقةٍ أكثر، في احتياج الروح للقرب والتهذيب والتنقية حقًّا، ولكنّ هذا الصدق قد يتشابه مع صدق صاحب ذلك السؤال الذي جعلناه نكتةً، ربما إن فهمنا دافعَ سؤاله أكثر.

إنّنا نسأل الأسئلة في بعض الأحيان لا لرغبةٍ حقيقيّةٍ في الإجابات، وإنما لفكرة السؤال نفسه.. لأقرّبَ الوصف أكثر؛ فإنّنا قد نسأل عن حال بعض المعارف أحياناً دون رغبةٍ حقيقية بمعرفة أخبارهم، ولكن مخافة العتاب، أو إرضاءً للواجب، هذا ما يحدث بالضبط مع تصرفاتٍ -بتنا نسميها رمضانية- كثيرة، أن نُشعِر أنفسنا بأنّ واجباً علينا يُؤدّى، بأنّنا مهتمّون حقّاً برمضان والبداية جادّة.

ظلم تشبيه الـ ( 1 ) بالـ ( 11)

جُعِل الصوم مميّزاً عن باقي العبادات في تفاصيل مختلفة كجزائه القدسيّ سواءً من ريانٍ، أو ذاك الذي تركه الله له، وهو يجازي به، ولنا أن نتخيل حجم عطاء الكريم إن وعد.

كما أنّه مختلفٌ في توقيته الخاص، وحدانيّته وسط 11 شهراً آخر، وهنا بالذات قد نفسد من حيث نريد الإصلاح، فنأتي لنُشعِرَ أنفسنا بأن هذا الشهر هو الكنز المنتظر، ذو اليوم المختلف، والروتين الخاص فنقعُ في مأزقين معتادَين.

أولهما: لحظة ما بعد العاصفة، والعاصفة التي أقصد هي مآزق وعثراتُ وسقْطات الأشهر الإحدى عشر، عواصفُ الذنوب والأخطاء والوساوس التي لاقَينا سوء عاقبتها، وتعب المصير الذي آلت بنا إليه، تلك الموعودة بالإصلاح دائماً دون جدوى، إلى أن يخطر في البال طيف رمضان كشهابٍ رابح، ليبدأ الذهن في ترتيب مراسم التوبة والنسك والتهجد.

وهنا أستحضر مشهد السفينة في عباب البحر، يركبها المسافرون يواجهون أكثر لحظات الخطر والمشقّة (حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ.. ) يخاطبون الله، يدعونه، يَعِدونه ويعدون أنفسهم بتغيّرٍ عظيم؛.. (لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس:22]، إلا أن عاقبة هذا الوعد معروفةٌ في أحيانَ كثيرةٍ للأسف..

ذاتُها حماسة صاحب السؤال التي تتلاشى بحلول أول مغيبٍ للشمس، أو بالأحرى تخمةِ أول إفطارٍ وليلةٍ رمضانية.. وقد تكون حماسةً تمتدّ بضعةَ أيّامٍ ثم تعودُ للغياب.

إفطار رمضان

أمّا المأزق الثاني: فهي تلك التفاصيل التي نضيفها على الجدول الرمضانيّ بمضضٍ في أوّل الأمر، والتي نحفظ مواعيدها متظاهرينَ بعدمِ الانتباه – فالجدول المُعَدُّ قد لا يتسع شيئاً سوى العبادة- وإذا بالجداول تتمزّق قبلَ أن تُخَطَّ على الورق، وإذا بتلك البرامج، والمسلسلات، وحتى السهرات تفرض جداولها بنفسها دون كلفةِ ترتيبٍ أو تنسيق. لنمحو بأيدينا ما ينفعُ الناس، ونتركَ الزبدَ الجفاءَ يملأ أيام رمضانَ الفضيل حتى يغرقها ونغرق.

وهنا نظلم هذا الشهر الواحد بأن جعلناه فارغاً مليئاً بكلّ ما يفرغنا أكثر، جاعلين إياه كـالـ ( 11) شهرًا مضى، وهو واحدٌ يزيدُ  على بقيّةِ عامٍ بأكملها.

مَن جَدَّ وَجدْ

سنكون متشائمين إن ذكرنا الأخطاء ولم نتطرّق للصحيح والمفروض، ولكنّ الغرض كانَ مباغتةَ الأخطاء واستعراضها في مشهدٍ استباقيٍّ تحليليّ، غايةُ مُناه أن لا نكرّرها، والله من وراء القصد.

لا مثالَ أوضح على الجدّ من عمله ﷺ  وعمل أهله وصحابته في هذا الشهر الكريم، من الدعوات اللحوحة، واستباق الخيرات، من تدبّر القرآن في الشهر الذي أنزل به ومن إحياء ليلة القدر على الوجه الدي يرضي الله (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر:2].

أناسٌ جَدّوا فوجدوا، فاستمرّوا، فكان رمضانهم موعداً مع قضاء الحاجات والكُرَب. أدركوا عظمة فكرةِ أن يكونَ في العام أيّامٌ تعدِلُ لحظات جمع الغنائم بعد المعارك الطاحنة، مواسمُ قرباتٍ وطاعاتٍ ورضا، القَدرُ والرزق، ابتلالُ العروقِ بعد شهور الظمأ، ثباتُ الأجر بعدَ الغفلة عن الصوم والتهذيب أيّاماً كثيرات.

يا إلهنا.. اشتقنا لرمضانَ حقًّا، فأصلح أنفسنا وأبعد عنها ضلالاتها فإنّك إن تَكِلنا إليها نهلك، اللهم سلّمنا لرمضان وسلّمه لنا وتسلّمه منّا متقبّلا.

 

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد