الشهرة والظهور وتطوّر مفهوم الـ (trend) عبر العصور
الشهرة هي تلك الرّياح التي تواجه مركبك طالما اخترت الإبحار، والناس بين مسخّر تلك الرّياح لخدمة شراعه بحيث يصل بسموّ أفكاره ويحقق نفعها الانتشار، وبين متشاغل بالعاصفة ظانّاً أنّها قد ترفعه طالما تفوق سرعة المركب، فتراه نسي الوجهة وظنّ أنّ الطيران يتمّ بشكل عشوائي ناسياً أنّ الوصول للهدف يتمّ على نحو مدروسٍ مهذّب.
وأكثر المشاهير اليوم بين إيجابيّ وسلبيّ، فالأمر فيه بحث ونظر، ولكن إنّما نتحدّث عن مسلّماتِ مراعاةِ شفافية وعاء الروح لكيلا نلقاه بالبهرج والوهج المؤقّت قد تكدّر أو انكسر.
وسم الشهرة
لا يخفى أن (trend) كلمة إنكليزية، وتطلَقُ على كلّ حدث أو نموذجٍ يُحدث ضجّة إعلاميّة بين النّاس ويوجّه الأنظار لطرفٍ أو قضية ما، وهو ما يثبته المعنى اللغوي، فالـ (trend) هو الاتّجاه، وهو –باصطلاح مواقع التواصل الاجتماعي – الشيء الأكثر بحثاً أو الأكثر تداولاً في فترة معيّنة.
لنسلك النقاش بالأمر ضمن اتّجاه واضح؛ إذ يجب علينا أن نعرف حقّ المعرفة أنّ الـ (trend) ظاهرةٌ تستولي على العقول اليوم، فالكلّ يريد أن يكون ذاك الشّخص الذي يؤثّر في الناس، أو محورَ الحدث الذي تنطلق إليه الأنظار.
وبناء على هذا التصوّر بات الاتجاه لا يهمّ، فالبعض يختار سفاسف الأمور كتصوير الشباب لدقائق حياتهم أو خروج أحدهم بشيء مخالف للدّين أو للفطرة السليمة، وكلّ الهمّ أن يصبح حدثاً يتمّ التكلّم عنه، متناسيًا أنّ هذه الطفرة في عمقها أمرٌ هشّ وأنّ هذا التوهّج المفاجئ كاذبٌ مؤقّت، لا يرفع بنياناً ولا يُقيم عمراناً.
وهنا أسأل نفسي، هل مفهوم الـ (trend) يتعارض مع مبادئ المسلم؟
لم يكن الإسلام يوماً مقيّداً لأي لبِنة خيرٍ إيجابية تسهم برفع راية الأمّة، وإنّما كان مهذّباً ومقوّماً لكلّ مائل عن الطريق المتّجه نحو السموّ والرفعة؛ إذ إنّ الإنسان الذي كرّمه الله تعالى على جميع مخلوقاته وميّزه بالعقل والإدراك لا ينبغي له أن يسمح لنفسه بالسقوط نحو القاع ولو بتنازلٍ بسيط؛ ولذلك فإنه لم يكن ثَمّة مانعٌ في الإسلام لتوجيه السلوك باتّجاه معيّن يدخل في أهداف الإسلام وخدمة مبادئه، بل إنّ من توفيقَ من الله في أن يترك الإنسان أثره النافع في الآخرين أينما سلك وتوجّه.
من الممكن أن تقوم بمناقشة كتب تُساهم في بناء عقول سليمة لمن حولك وتشارك تجربتك مع الآخرين، ومن الممكن أن تطرح محتوى يطوّر لغة تتقنها لدى من يريد التعلّم، ومن الممكن فعل أشياء أخرى كثيرة، فالأبواب مفتوحة لكل راغبٍ في إحداث أثرٍ إيجابيٍّ بالناس.
إلا أن مدار الأمر وعمقه يظهر لك حين تسأل نفسك عدّة أسئلة لتقيس صحّة اتّجاهك، كأن تسألها “لمَ أقوم بهذا الأمر الذي يجعل مني شيئًا أو من فعلي حدثاً مميّزاً”، “ما نوع المحتوى الذي أقدمه للآخرين”، “ما الرؤيا التي وضعتها لنفسي ولأمّتي”، وقبل كل ذلك أن تسأل نفسك: هل الهدف منفعة شخصية آنيّة لا تُسمن ولا تغني من جوع؟ أم أنّ هناك طبخة دسمة لأوصال الأمّة المقطّعة جوعاً؟ وأن تفكّر مليًّا في أنك إن سلكت مسلكاً إيجابياً، فهل تملك الحصانة لنفسك ضد الشهرة ونسيان الهدف الأسمى والأساسي؟
هذه جزءٌ من الأسئلة التي يجب أن يجيب المرء عليها قبل أن يشرع بتقديم أي محتوى للنّاس.
نماذج من ظاهرة التأثير في القرآن
القرآن الكريم والسّنة النبوية زاخران بالأحداث التي كانت حديثاً مطروقاً بين أصحاب وقت ما، بين إيجابي وسلبيّ، ولكن في نهايات كلّ قصّة نأخذ عبرة واحدة أنّ ما كان سلبياً كان مؤقّتاً وما كان إيجابياً بقي نبراساً يُستضاء به.
- قارون نموذجًا سلبيًّا على الصعيد المادّي
كان قارون رجلاً من قوم سيدنا موسى، آتاه الله مالاً عظيماً، فما كان منه إلا أن ردّ الفضل لذاته، وخرج يستعرض ماله وكنوزه بين النّاس بطَراً وأشَرَاً، بدل أن يكون جزاء إحسان الله إليه إحساناً لخلقه، لا استعراضاً لبهرج زائل ومال آفل.
لقد كان قارون -بلغة العصر الحالي- المؤثر الشهير (trend) في تلك الفترة بماله وكنوزه، وكان حديث النّاس بين لائم له ومذكّر بفضل الله عليه، وبين حاسد ومتمنٍّ أن يؤتى مثلما أوتي قارون من مال، ولكن طريقة طرح قارون السلبية للأمر جعلت النهاية إلى سراب.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ *فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ۖ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ۖ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:76-82]
- ماشطة ابنة فرعون نموذج إيجابيّ على الصعيد الإيماني:
أدركت ماشطة ابنة فرعون الحقّ واتّبعته، فكانت اتّجاهاً مختلفاً عن السائد في ذلك الوقت من تأليه لفرعون وتقديس له، لقد عرفت الصواب فلزمته، ولم يؤثّر عليها فساد ما حولها، وإنّما كانت نقطة ضوء وسط ذلك الظلام فكانت بلغة العصر الحالي (trend) في ثباتها وعدم تزعزعها.
عن عبد الله بن عبّاس tقال: قال رسول الله r: (لَمَّا كانتِ اللَّيلةُ الَّتي أُسريَ بي فيها، أَتَتْ عليَّ رائحةٌ طَيِّبةٌ، فقُلْتُ: يا جِبريلُ، ما هذه الرَّائحةُ الطَّيِّبةُ؟ فقال: هذه رائحةُ ماشِطةِ ابنةِ فِرعونَ وأَولادِها. قال: قُلْتُ: وما شَأنُها؟ قال: بيْنما هي تَمشُطُ ابنةَ فِرعونَ ذاتَ يَومٍ، إذْ سَقَطَتِ المِدْرَى مِن يَدَيْها، فقالتْ: باسمِ اللهِ، فقالتْ لها ابنةُ فِرعونَ: أَبي؟ قالتْ: لا، ولكنْ رَبِّي ورَبُّ أَبيكَ: اللهُ. قالتْ: أُخبِرُه بذلكَ؟ قالتْ: نعَمْ. فأَخبَرَتْه، فدَعاها، فقال: يا فُلانةُ، وإنَّ لكِ رَبًّا غَيري؟ قالتْ: نعَمْ، رَبِّي وربُّكَ اللهُ. فأَمَرَ ببَقرةٍ مِن نُحاسٍ، فأُحميَتْ، ثمَّ أَمَرَ بها أنْ تُلْقى هي وأَولادُها فيها. قالتْ له: إنَّ لي إليكَ حاجةً، قال: وما حاجتُكِ؟ قالتْ: أُحِبُّ أنْ تَجمَعَ عِظامي وعِظامَ ولدِي في ثَوبٍ واحدٍ وتَدفِنَنا، قال: ذلكَ لكِ علينا مِنَ الحقِّ. قال: فأَمَرَ بأَولادِها فأُلْقوا بيْن يَدَيها؛ واحدًا واحدًا، إلى أنِ انتَهى ذلكَ إلى صَبيٍّ لها مُرضَعٍ، وكأنَّها تَقاعَسَتْ مِن أجْلِه، قال: يا أُمَّهْ، اقتَحِمي؛ فإنَّ عذابَ الدُّنيا أَهْوَنُ مِن عذابِ الآخِرةِ، فاقتَحَمَتْ.) [مُسند الإمام أحمد، بإسناد صحيح]
الشهرة والتأثير وأسئلة الشباب
كثيرٌ من الشباب يتساءل عن اتجاهات التأثير، ترى بعضهم يقول: إن المحتوى الإيجابي لن يجعلني trend)) لأنّ الشهرة لأولئك الذين يقدّمون محتوى سخيفاً لا فائدة منه.
بادئ ذي بدئ يجب أن نعلم أنّ العوامل التي تؤثر في جودة أي محتوى هي: موافقته للشريعة والصدق والجودة والابتكار.
أما الموافقة للشريعة فيكون ذلك بأن لا يخالف المحتوى عقيدة ولا مبدأ من مبادئ الإسلام، بالتوازي مع الصدق في إرادة التغيير، والجودة بحيث يكون المحتوى هادفاً ومنسوجاً من خيوط قويّة، وأن تحقق فيه الابتكار بأن يكون غير مملّ ولا مكرراً لغيره.
هنا -أي بعد تحديد الاتّجاه- يأتي أمر مهمّ وهو استحضار أنّ الشهرة ليست شيئاً منشوداً، وإنّما هي شيء مساعد لتحقيق الانتشار، والمؤمن مُدرك لحقيقة نفسه وقدراته وأنّ كلّ ما يأتيه من نِعَم فإنّما هي من الله تفضّلاً ومنّة، لا من جهد شخصي.
قد يتساءل آخرون بأن العمل على محتوى جيّد لن يجلب العدد المطلوب من المُتابعين، إذ لا أحد يهتمّ رغم أنّ المحتوى هادف؟
هنا لا بد من أن نتذكّر أن ديدن الصالحين –دائمًا- هو العمل والتوكّل، فربّ عمر يقضيه الإنسان يعبّد طريقاً ما، دون أن يُعرَف، وكان له شرف تمهيد الطريق فحسب، وربّ عمر قضاه نبيّ وهو يدعو إلى الله تعالى دون أن يؤمن به مؤمن واحد، فقد جاء في الحديث الشريف: عن عبد الله بن عبّاس t قال: قال رسول الله r: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النبيُّ والنبيَّانِ يَمُرُّونَ معهُمُ الرَّهْطُ، والنبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ) [رواه البخاري، حديث صحيح] وبالرغم من أنه لا رسالة يتمّ تقديمُها أعلى وأجود وأفضل من رسالة التوحيد، إلا أن بعض الأنبياء يأتون دون تابعين، فعدد المُتابعين ليس دليلاً على جودة الرسالة، إنّما الخير باستمرار تمهيد الطريق ولو لم نلقَ سالكين.
يترك بعض الأشخاص الأثر دون أن يُذكروا في صفحات التاريخ أصلاً، وخير مثال على ذلك، الرجل الصالح الذي جاء من أقصى المدينة يسعى فقط ليقوم بالمهمّة التي يمليها عليها إيمانه، رجل لم يأتِ ماشياً، وإنّما جاء يخطو على نحو مسرع، لم نعرف اسمه، وإنّما رفع ذكره صفاء رسالته، قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]
إن الشهرة لها متلازمة المتابعين، حيث يبدأ الإنسان –أحيانًا- منحاه بشكل سليم، إلا أنه سرعان ما يُقيّد نفسه وسط الطريق بردّة فعل الآخرين، يرتفع بمدحهم ويُحبَط بذمّهم، وإن قلّ العدد قلّ منه العطاء والمدد، وبات كزهرة ذابلة تشعر أن لا أهمّية لها دون التصفيق والثناء من الجمهور، فإن أحجموا ذبل وإن أقبلوا بثّ أجمل العطور، وهذه حمّى تعترض السائر نحو هدف سامٍ، إذ إنّ العين يعتريها عند السلوك ضعف بصر وبصيرة، وتربط حبالها بجهة متقلّبة الأهواء والآراء، متناسية أنّ أمتن حبل هو حبل يُربط مع خالق الأرض والسّماء.
إن كيان المؤمن في نموّه وانطلاقته ورحلته ونتائجه مرتبط بنفسه وعقيدته ونتاجه، فقد قال رسول الله r: (مَثَل المؤمن مَثَل النحلة، لا تأكُلُ إلا طيِّبًا، ولا تضَعُ إلا طيِّبًا) [صحيح ابن حبان: 247]
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!