الشباب بين التكليف ووهم المراهقة
لم تخلَق للألم!
بلا شك سبق لك أن شهدت طفلًا برفقة أمه وهي تحوطه بأقصى درجة من الرعاية والاهتمام، ليبلغ الأمر حد منعه من اللعب والتمرغ في الوحل كباقي الصغار خشية أن يصاب بمكروه أو أذى، حتى إذا ما أصيب تعالى صراخه ووصِّفت حالته بأوصاف مضخّمة أكبر مما هي عليه حقيقة، وذلك بشكل مبالغ فيه لا يتلاءم البتة مع حالته ووضعه، وكأن لسان حالها: لم تخلق للألم ومكابدة الصعاب يا ولدي!.
هذا المشهد ما هو إلا تصوير بسيط لما أصبحت عليه حياة الشباب اليوم، إذ أصبح لديهم في الأساس التعامل غير الراشد في تعاطيهم مع مشاكل الحياة ومنعرجاتها اليومية، فتجد أن نفسياتهم غدت قابلة للكسر عند أول معترك يعترض سبيلهم، وتحت أقل درجات الضغط.
إن هذا التعاطي الطفولي المزمن ما هو إلا نتاج وتحصيل حاصل لرؤية مشوهة عن طبيعة الحياة وسنة الله في الخلق، كان مبتدأها طفل لم يتعلّم كيف يسير وسط الوحل، ولم يعلم أن السقوط والشعور بالألم جزء من المرحلة بل من رحلة السير كلها.
أريد أن أعيش في جلباب صباي
جيل رقائق الثلج، هكذا اصطُلح على الجيل الجديد، وجاءت هذه التسمية كما أشار د. إسماعيل عرفة في كتابه الهشاشة النفسية لسببين اثنين:
الأول: أن رقائق الثلج هشة جدًّا، وسريعة الانكسار، لا تتحمل أي ضغط عليها بأي شكل من الأشكال، إذا تعرض هيكلها الضعيف لأدنى لمسة خارجية له ستجعله يتفكك وينكسر بالكامل. وهكذا هو جيل رقائق الثلج هشٌّ نفسيًّا، وتركيبته النفسية خالية من أي هيكل صلب يقويها ويدعمها ويساعدها في مواجهة مشاق الحياة.
أما السبب الثاني فهو شعور كل فرد من هذا الجيل بالتفرّد، فالنظرية العلمية السائدة تقول إن رقائق الثلج لها هياكل فريدة، ولا يمكننا أن نجد رقيقتين متشابهتين أبدًا. [الهشاشة النفسية، إسماعيل عرفة]
وهكذا نجد أن الفتاة أو الشاب الذي يسير بيننا اليوم، ما هو إلا طفل-على أفضل تقدير- في تصوراته وفقهه لحقيقة الأشياء وطبائع الأمور، وكأنه ما زال يقبع في جلباب صباه، تعرّيه الضغوطات مهما صغرت أو كبرت، عظمت أو تفهت، كفراق حبيبة أو قدوم امتحانات مدرسية أو جامعية، أو وفاة أحد الأقارب، وتنمّر بعض الأصحاب… وغيرها كثيرٌ من المحطات الحتمية في حياة كل فرد.
لقد غدا التباين واضحًا بين مواجهة شباب اليوم للمصاعب، ونظرتهم لها من زاوية قاتمة ومعتمة، تودي بهم أخيرًا إلى عدم القدرة على الصبر والاحتمال، وبين جيل آبائنا وقدرتهم الهائلة على الصبر والتجلّد أمام مشاقّ الحياة.
بل إن تصوير الأشياء البسيطة وتوصيفها اختلف بين اليوم والأمس، وهذا ما يظهر جليا فيما حدث للكاتبة البريطانية كلير فوكس مع ابنتها، حيث إنها بينما كانت تقوم ببعض الأعمال المنزلية، فوجئت بدخول ابنتها منهارة وغارقة في دموعها، فسألتها الأم عن هذا البكاء الشديد! فقالت: “لقد تعرضتُ للتنمّر”، ومن الطبيعي أن الأمّ ظنت أن ابنتها قد ضُرِبت، أو استحوذ أحدهم على مصروفها اليومي، أو أن هناك من أرغمها على التمرغ في الوحل!
لكن الحقيقة أنها لم تتعرض لشيء البتّة من ذلك، فغاية ما في الأمر أن صديقاتها قد ذهبوا إلى السينما دون إخبارها. [الهشاشة النفسية، إسماعيل عرفة]
إن هذه الرؤية الهشة -الآيلة للسقوط- هي التي مهدت السبل أمام هذا الجيل لرفض النضج، وتولي مسؤوليات مرحلة الرشد، وكأن لسان حالهم: لا أريد أن أكبر، أريد أن أعيش في جلباب صباي ومراهقتي!
دعه إنه مراهق!
إن الناظر المتفحص لأحوال من سبقونا، يدرك أن ما نعيشه اليوم ما هو إلا ضرب من ضروب الوهم، حيث غدت عبارة: “إنه مراهق” عذرًا كافيًا لكل ما يصدر عن هذا المراهق-المكلّف حقيقة- من أفعال طائشة متهورة، وكأنه غير مسؤول عما يصدر عنه، و كأن حسابه سيؤجل إلى أن يتجاوز مرحلة الزيف هاته!، وبذلك أصبحت المراهقة -على هذا النحو- وكأنها صكّ للنجاة لا يؤاخذ الشاب بموجبها ولا يحاسب!
غير أن للواقع شواهد كثيرة تضرب بهذه الرؤية الواهمة عرض الحائط، ابتداءً من خير الأزمان وانتهاءً بجيل ليس عنـا ببعيد!
فهذا أسامة بن زيد يولِّيه الرسول صلى الله عليه وسلم قيادة جيش من كبار الصحابة، وهو لمَّا يبلغ العشرين عامًا، و ذاك معاذ بن جبل بعثه الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى اليمن بعد غزوة تبوك، ليعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم وجعل إليه قبض الصدقات من العمال الذين باليمن، وشيّعه ماشيًا في مخرجه وهو راكب، وهذا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وثلة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم كانوا حماة للإسلام ودرعا له أمام صناديد قريش و كبرائها، وهم ما يزالون شبابًا لمّا يتزوّج معظمهم آنذاك.
أين الامتحان؟
إن غياب مفهوم الامتحان، يجعل من الحياة صعبة لا تطاق، فكيف لذهن طُبع في ثناياه أن الهدف من وجودك هو الاستمتاع بالحياة، أن يتعايش مع الألم ومتطلبات المعيشة وخشونتها؟
هذا التغييب يتحمل الحصة الأكبر منه الأهالي، حيث إن الطفل يُنشّأ على أنه لا يستحق إلا الأفضل، ولا يتوقع من الآخرين إلا التعامل الجميل الراقي، فهو لا يغفر أي خطأ في حقه وشعاره: اعتزل ما يؤذيك!
لكن لنتساءل بعيدًا عن طبيعة هذا الأذى، وهل يصب في مصلحة الإنسان أم لا؟
إن الرؤية الهشّة لشباب وأطفال اليوم يغذّيها الإعلام ويدعمها، ابتداءً من المسلسلات التي ترسم سيناريوهات مثالية -غير واقعية- للحياة، يسيل أمامها لعاب المُشاهد وهي تلعب على أوتار مشاعره، حيث تصور له الحياة مزخرفة و بسيطة سهلة، لا عقبات فيها! وبالتالي فما إن تخرج الفتاة أو الشاب إلى معترك الحياة الحقيقي ومنعطفاتها، حتى يغرقوا في الشعور بالتحطم الروحي، والإنهاك النفسي.
لقد أصبحت فكرة اختبار الإنسان في الحياة ثقيلة شاقة على ظهورهم. فإحدى نتائج هذه الهشاشة هو تضخيم أي مشكلة في الحياة إلى درجة تصويرها بوصفها كارثة وجودية لا حول لك ولا قوة أمامها. [تدليل العقل الأمريكي،جوناثان هايدت، جريج لوكانيوف].
آثَر ما ينبغي إيثاره
إن الألم هو ما يجعلنا نكبر وننضج ونتحمل مسؤوليات الحياة، الألم هو الفيصل إن صح القول بين مَن فقِه دوره على هذه الأرض، وبين من اختار السير بلا هدف أو بوصلة، إذ إن غاية غاياته أن يستمتع!.
وفي كلتا الحالتين الألم حاضر موجود، إذ إنه أمر حتمي لا مناص منه ولا هروب. غير أن من يألم ليحقق عبوديته، ليس كمن يألم استجابة لنداء الطين ونوازع الشهوة بداخله! “ومن عرف قدر التفاوت آَثَر ما ينبغي إيثاره ” [الفوائد، ابن القيم]
وأخيرًا، فإن كلماتي هذه ليست من باب الجلد والتقريع، فأنا شابة لا أنكر أنني سلكت ذات السبل ولَكَم ضخمت وهوّلت من آلامي، غير أن معرفة المشكلة هي جزءٌ أصيل من الحل، لفك التطبيع الحاصل مع هذه الظاهرة في أوساطنا نحن الشباب، بل جميعنا نحن بني آدم الذين استخلفنا الله على هذه الأرض ومدنا سبحانه وتعالى بحبل منه نستهدي به لبلوغ دار الخلود.
“فهلمّ بنا نشتري أنفسنا: فالسوق قائمة والثمن موجود!” [الفوائد، ابن القيّم]
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!