استمرار السيطرة (4)
بعد طغيان القيم الفردية التحررية، وُجد شكل جديد للجمهور لم يعد فيه المستهلك يتصرف كما هو متوقع منه. فقد استعانت الشركات بمحللي النفس وخبراء السوق، وتبين أن أصحاب هذه القيم هم مستهلكون أيضًا، لكنهم يبحثون عن منتجات تعبر عن تفردهم، وتحررهم. وهذا تطلب تغييرًا جذريًا في نمط الإنتاج، والتحوّل من الإنتاج الضخم للسلع المتماثلة إلى التنوع في المنتجات، وتقسيم السوق وتقييم المستهلكين على أساس فردي.
لذا لجأت الشركات في نهاية سبعينيات القرن العشرين إلى أحد أفضل مراكز الأبحاث عالميًا؛ مركز ستانفورد للأبحاث (Stanford Research Institute- SRI)، والذي عاد إلى دراسات أبراهام ماسلو –أحد رواد حركة الإمكانات البشرية (HPM)– لإيجاد أداة دقيقة لقياس رغبات المستهلكين الجدد ومن ثم تلبيتها.
وكان ماسلو قد ابتكر نظاما للتصنيف النفسي أطلق عليه “التسلسل الهرمي للاحتياجات”، والذي يعد نقطة البداية لتصنيف جديد للمجتمع بناءً على رغبات الأفراد ودوافعهم، لا طبقاتهم. وبالتالي أمكن لمعهد ستانفورد تعريف الناس من خلال أنماط السلوك المختلفة التي اختاروا من خلالها التعبير عن أنفسهم، فالتعبير عن الذات يقبع ضمن أنواع محددة.
ومن هنا ابتكر فريق معهد ستانفورد مصطلح “أنماط الحياة” (lifestyles)، فتم تصنيف الفردية الجديدة، وأطلقوا على نظامهم هذا اسم: “القيم وأنماط الحياة” (Values and Lifestyles- VALs).
أتاح هذا للشركات معرفة فئات المستهلكين الواجب استهدافها، وبالتالي تحديد الطريقة التي يمكن بها تسويق السلع إليهم، وذلك بتحديد الدوافع والقيم الحقيقية الكامنة وراء قرارات الشراء التي يتخذونها. وكانت هذه بداية التسويق القائم على نمط الحياة (lifestyle marketing).
وهكذا فإن الجيل الذي أراد إنشاء هويته الخاصة وكان يندد بالنزعة الاستهلاكية، اعتنقها بعد أن ساعدته في التعبير عن ذاته، فأمكنه شراء الهوية بدل إنشائها.
ومن هنا قامت الشركات بتعزيز شعور الأفراد بالتميز والاختلاف، بحيث تقدم لهم خيارات لا تحصى للطرق التي يمكنهم من خلالها أن يعبروا عن تفردهم، وما زال هذا الأسلوب مُلاحظًا في الكثير من شعارات الشركات وإعلاناتها التي تعمل على تكريس النزعة الفردية، مثل إعلان لشركة بيبسي يتضمن شعارات من قبيل “عبّر مين قدك؟”، “أنت الفكرة، أنت الجديد، أنت الوحيد”.
الرأسمالية والتفاوت الطبقي
استمر النظام الرأسمالي بالتلاعب بالجماهير عبر التعظيم من شأن الاستهلاك وتكريس النزعة الاستهلاكية، وبما يضمن زيادة تدفق الأرباح.
وهذا يُعطي لمحة عن سبب التفاوت الطبقي الهائل الذي سبّبه النظام الرأسمالي، مستخدمًا الصورة الإعلامية المبنية على أسس نفسية. ففي مطلع عام 2017، أصدرت منظمة “أوكسفام” تقريرًا مفاده أن ما يملكه النصف الأفقر من سكان العالم مجتمعين، يعادل ما يملكه أغنى ثمانية أفراد لوحدهم، وأن عدد هؤلاء الأفراد في تناقص مستمر، فقد كان 43 فردًا عام 2010.
وقد وجد أخصائي الأوبئة الاجتماعية ريتشارد ويلكينسون أن ما تشترك به المجتمعات الأكثر صحة ليس في كونها أعلى دخلًا أو أفضل تعليمًا، بل في ما تتمتع به من المساواة في التوزيع والتفاوت الطبقي الأقل.
كما فصَّل ويلكينسون الآثار الخبيثة للتفاوت الطبقي على المجتمعات من تآكل الثقة وزيادة القلق والمرض، فهناك فروق ضخمة بين المجتمعات ذات التفاوت الطبقي ونقيضاتها، لا سيما في نتائج الإحصاءات المتعلقة بكل من متوسط العمر المتوقع، والمرض العقلي، ومعدلات الولادة في سن المراهقة، والعنف، وتعاطي المخدرات، ونسبة السكان القابعين في السجون. وكلها أسوأ بكثير في البلدان الأكثر تفاوتًا طبقيًا؛ ففيها ثمانية أضعاف عدد الولادات في سن المراهقة، وعشرة أضعاف معدل جرائم القتل، وثلاثة أضعاف معدل المرض العقلي.
وفيما يتعلق بالاستهلاك، فإنّ ويلكينسون يُرجع سبب النزعة الاستهلاكية المستشرية، ليس إلى الاهتمام بالذات، بل إلى التفاوت بين طبقات المجتمع، والهوة بين الأغنياء والفقراء؛ فالإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، ولديه قلقٌ دائم حيال كيفية نظر الناس إليه، فيشتري السلع الأثمن وذات العلامات التجارية الاشهر، ليُنظر إليه على أنّه من “طبقة أفضل”، حتى إن أدى ذلك إلى قلة الادخار أو حتى زيادة الديون. وهذه من الأشياء المشاهدة بكثرة، والتي عززها بيرنيز كما بينّا في المقال الأول من هذه السلسلة. وسواء كان الاستهلاك بغرض التحرر أو التعبير عن الذات أو الانتماء لطبقة أفضل، فبكل الأحوال تبقى الامبراطوريات الاقتصادية هي المستفيد الأول.
النظام السياسي والرأسمالية والمجتمع
تبنّت كل من إدارة رونالد ريغان الأميركية وحكومة مارغريت تاتشر البريطانية في ثمانينيات القرن الماضي للفكر النيوليبرالي، الذي يجعل الرضا الشخصي للفرد وسعادته ورفاهيته هي المعيار؛ ما أدى إلى تراجع دور الدولة وأفسح المجال لرجال الأعمال للسيطرة على الاقتصاد من جديد، فتضخمت الشركات العابرة للقارات وتغوّلت ظاهرة العولمة.
وكان من أسوأ ما فعله ريغان بالمجتمع الأمريكي أنّه برر انعدام الرحمة، وجعله أمرًا محمودًا. فكان يقول إن من عمل بجد وجمع أمواله يجب ألا يشعر بالذنب إزاء رفض رميها بعيدًا للناس الذين يختارون عدم العمل وأن يكونوا بلا مأوى. وهذه أسوء صور الفكر الليبرالي الذي ما زال مهيمنًا على المجتمع الغربي عمومًا، والأمريكي خصوصًا.
وإن ظهر النظر لكل الأمور –حتى الأخلاقي منها- بعين الرضا الذاتي، كانتصار للذات. فإنّه في الواقع إلغاء للمجتمع، فبهذا المنطق لا يعدو المجتمع كونه مجموعة من الأفراد يتخذون خيارات فردية بشأن رفاهيتهم الشخصية!
ويُلاحظ انتشار هذا المنطق بين الشباب مؤخرًا، فبات “الاختلاف” و”التفرد” هدفًا لا سبيل لتحقيقه إلا بالتمرد على كافة الضوابط والقيم والأعراف والسلطات، من سلطة الأسرة أو الدين، وذلك كله بحجة “التعبير عن الذات” و”الحرية الشخصية”.
ومع انتشار هذه الثقافة، وبوجود وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح لأي شخص بأن ينشر فضلاته الفكرية، فلا عجب بأن يُغيّب الدين وتنحّى الأخلاق، وأن تعلو الأصوات المدافعة عن أشياء كالشذوذ الجنسي أو الإلحاد.
وحيث أن كل هذا التلاعب بالجماهير يتم تحت حكم نظام “ديمقراطي”، ولأن الأساليب المتبعة لإقناع أكبر كم من الناس بأن يضعوا اسم مرشح في صندوق بغض النظر عن أهليته، لا تختلف كثيرًا عن إقناعهم بشراء سلعة ما بغض النظر عن مدى فائدتها أو حاجتهم إليها. وقد أثبت بيل كلنتون ذلك فعليًا؛ لذا فإن المقال القادم سيسلط الضوء أكثر على النظام الديمقراطي، وكيفية توجيه الرأي العام بما يخدم أقطاب السياسة والاقتصاد، في النظام المسمى بالديمقراطي.
أهم المصادر والمراجع:
صناعة الواقع، محمد علي، مركز تفكر للبحوث والدراسات، 2014.
The Century of the Self, Adam Curtis, BBC, 2002.
Why Everyone Suffers in Unequal Societies, Richard Wilkinson, YES! Magazine, 2010.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!