الزواج بين مطرقة الصّراع وسندان الماديّة
من الملاحظ في زماننا أنّك تحسب بعض الزّيجات سجالًا لا اكتمال فيها، فتجد الطّرفين قبل الخطو في هذا المشروع المقدّس والعلاقة السّامية محمّلين بمجموعة من الأفكار المغلوطة، التي تكون في غالب الأمر نتاج تجارب فاشلةٍ، ووعظٍ مذمومٍ، واستنتاجاتٍ باطلةٍ خلص إليها العقل بعد طول احتكاكٍ بنماذج أساءت الاختيار، أو لم تمتلك الخيار.
الزواج بوصفه صراعًا لإثبات الأقوى
لم يكن الزّواج يومًا معركةً بغالبٍ ومغلوبٍ، بل هو علاقةٌ ساميةٌ أساسها الاحترام والتّقدير، عنوانها التفاهم والتّفهّم، هو مشروعٌ يتعاون فيه الطّرفان معًا على النّهوض به وإنجاحه، فإذا ما ظنّ الواحد منّا أنّه من خلال تشبّثه بأفكار ومعتقدات المجتمع الخاطئة والمنتشرة في الوسط العامّ، سيستطيع المضيّ قدمًا في شأنه فإنه لا جرم مخطئٌ لأبعد حدّ.
من البديهيّ أن تجد الفرد قبل خطوه في هذا الطريق، مسلّحًا بأفكارٍ متشعّبةٍ، ومعتقداتٍ غير صائبةٍ، وخوفٍ يجعله مستعدّا لردّ الصّاعٍ صاعين وكأنّه في معركةٍ داميةٍ وليس في رابطةٍ ساميةٍ؛ وذلك لأنّ الفرد لكثرة استماعه لأشخاص سلبيين، وتعمّقه في واقعٍ مريرٍ يصوّر إلا القبح والسّوء فيما شرّعه الله وأحلّه لعباده، وذلك بغرض التنغيص والتّنكيص على كلّ مقبلٍ إلى الحلال، وتسهيل وتزيين الحرام كمفرٍّ لتجنّب ما لا يحمد عقباه.
لم يكن الزواج يومًا علاقة سطوةٍ وسلطةٍ بحاكمٍ ومحكومٍ، ولا علاقة ربحيّة لتقاسم المصاريف واحتساب العوائد، والخوض فيه بقلمٍ وورقةٍ لمعرفة ما على الطرفين أداؤه أواخر الشّهر. ولا علاقة مثالية ورديّة تتراقص على أمواجها حوريّات الحبّ، وتزقزق في سمائها عصافير العشق، وتلثم صباحاتها قبلات الشّمس، فحتّى السّنة جعلها الله بأربعة فصولٍ، فلا تشرق شمس الرّبيع في صباح الشّتاء، ولا صباح الخريف قد يحلّ على صباح الصّيف إلاّ بأمر من الله.
وكذا الزوّاج تطرأ عليه فصول متغيّرةٍ، وطقس تارةً يكون بهيجًا دافئًا، وتارةً ينقلب عاصفًا باردًا، إلا أنّ الله جعل في المودّة والرّحمة ربيعًا يحلّ بعد شتاءٍ قارسٍ فيعمّ الدّفء والسكينة، والخريف ما هو إلا غمامةٌ عابرةٌ تشتدّ به الأواصر وتقوى، وليست الاختلافات مذمومة؛ بل إن الله لم يجعلنا متطابقين متشابهين إلا لحكمةٍ أرادها، ولولا ذلك لما جعل للذكر حاجة للأنثى ولا حاجة للأنثى للذكر، وما جعل من ذكرٍ وأنثى حينها {وليس الذّكر كالأنثى} [آل عمران:36] كما أتى في كتابه العزيز، ولا الأنثى كالذّكر، فهما مختلفان متفرّدان اختصّ الله كل واحد منهما بميزاتٍ خاصّة، وأعطى كلّ منهما ما يليق به ويناسبه.
لقد جعل الله القوامة للرجل، واختصّ الأنثى باللّين والسكينة ليسكن إليها، فالحال خارج أسوار بيت الزّوجيّة ليس مفروشًا بالورد والرّيحان، وليس محاطًا بالأمن والأمان، بل إنّه قاسٍ وصعبٌ على رقيق الطّباع والقلب أن يتحمّله أو يألفه، كما أنّ الغلظة والقسوة مطلوبتان لمجابهة العالم بالخارج. لهذا جعل الله الخشونة في الرّجل ولم يجعلها في الأنثى لئلا تنتكس رقّتها وأنوثتها.
من يظنّ الزّواج سبيلًا لإثبات القوامة بالعنف والسّلطة، ما هو إلا مخطئٌ تشبّع بأدران الذّكوريّة المناقضة لأوامر الله، ومن ظنّت أنّ طاعة الزّوج بالمعروف تخلّفًا، وخدمته وأطفالهما ذلًّا يحلّ بها، ما هي إلا مخطئةٌ تشبّعت بأدران النسويّة المقيتة، فليست القوامة بالعنف، ولا الطّاعة ذلًّا وضعفًا، وما تلك إلا أفكارٌ متوارَثة عن جهلٍ وبغضٍ، وما يريد المشرّع لها إلا فسادا بالذكر والأنثى. فانظر واعتبر، فإن تسهيل الحرام وتصعيب الحلال ما هو إلا سبيلٌ ليعمّ الفساد وتتهدّم الأسرة، وتتشتّت الروابط الأسريّة، وتختلط الأنساب، وتنتشر الفواحش، ويغدو الفرد كالبهيمة تحرّكه شهوته دون تحكمّ، وأينما حلّ يقضي وطره دون عقدٍ أو إبرامٍ أو محلّ.
هذا في مفهوم الزّواج المعمول به فكرًا وفهمًا واستعدادا من لدن بعض المقبلين عليه، ليس الزواج أيّ مما ذكر سالفًا، ولن يكون كذلك مهما حاولوا تشويه مفهومه وصورته لكلّ مقبلٍ ومدبرٍ، فإن من خلق آدم لحوّاء لحكمةٍ، وسنّ الزواج للحياة سنّة، قادرٌ على التّصدي لكلّ من سوّلت له نفسه تشويه هذه السّنة وتدنيس ميثاقها الغليظ المقدّس.
الماديّة وانتهاك حرمة الزّوجية
مما لا شكّ فيه أنّ الماديّة طغت على معظم الأوساط إن لم يكن جلّها، فأضحى المرء يصوّر حياته من كل الجوانب ويفخر بما ملك وإن لم يملكه، حتى أقدس ميثاقٍ أصبح في وقتنا الرّاهن موقعًا للتّبختر والتّغنّج وحصد الإعجابات وتحويلها إلى أموال، وليس أسوأ من العزوف عن الزّواج، إلا انعدام المروءة والرّجولة، وهتك العرض مقابل المال، وهذا هو النّمط الرّائج في الوسط حاليًّا.
أستغرب كلّ الاستغراب ممّن سوّلت له نفسه أن يضع من زوجته إطارًا لحصد الإعجابات والمشاهدات مقابل دخلٍ ماديّ تجود به التطبيقات مثل تيك توك ويوتيوب وانستغرام على مستخدميها النّشطين، فتجد المرء يصور مقطع رقصٍ وتمايلٍ على إيقاع الموسيقى لينال المشاهدات وإن كان على حساب عرضه وكرامته، ليس هذا وحسب، بل ينفطر القلب حسرةً وشفقةً على من اختار نشر خصوصياته كأوراق ممزقة متاحةٍ للعامّة، فتجد الواحد يستغلّ خصوماته وزوجه ويصوّرها خفيةً أو عن طيب خاطرٍ، ليرفقها بعنوانٍ لافتٍ، جاذبٍ لمحبّي الفضائح والمشاكل تحت ذريعة “ربّ ضارة نافعة”
لا يوجد أسوأ ممّن فقد غيرته إثر احتكاكه بعالم السوشال ميديا المريع، ولا أقبح ممّن يستغلّ عرضه وشرفه لجلب المال كمصدر ربحٍ سهلٍ يسيرٍ لا يتطلّب من المرء إلا أن يضع رجولته في صندوقٍ ويلقيه في غيابات الجبّ، وذلك بعد التّأكد من إرفاقه بالحياء والأنوثة ليستأنسا معًا في الظّلمة بعيدًا عن أصحابهما.
هذا النّوع من الزّواج من جهةٍ أخرى، هو وباءٌ يفتك بأهله وكلّ من يأنس به، فلا يبقى الأمر مقتصرًا على طرفين معًا، بل تتسع دائرته ليشمل المتابعين البالغين واليافعين، وكلّ من عشّشت التّفاهة بواطن عقله ليغدو بذلك هدفًا ومبتغىً يطمح إليه كل مشاهد ومتابعٍ وفيّ، وهب ما قد يحصل إذا ما تفشّت التّفاهة في الوسط، وغدا السفيه والتافه قدوةً للكثير، إنّ العاقبة لا شكّ تكون وخيمةً.
هما نوعان طغا في الوسط العامّ، وأصبح من الضّروريّ التصدّي لهما بما أوتي الواحد منّا من قوةٍ وطاقةٍ وجهدٍ، فالأول تشويهٌ لجمالية الاقتران بشريك حياةٍ نمضي قدما برفقته، نخطّ دروب الحياة معًا حتى المشيب، يسند أحدنا الآخر في ضعفه، ويحنو عليه في أوج حاجته، ويكون الطرف للآخر ملجأ وسندًا، فليس العيب أن يكون الزّوج زوجًا، وأبًا، وأخًا، وصديقا، وحبيبًا، ولن يزيده ذلك إلا حلمًا ورجولةً، ليس العيب أن تكون الزوجة لزوجها زوجةً، وأما، وأختا، وصديقةً، وحبيبةً، ولن يزيدها ذلك إلا رقّةً وأنوثةً.
ليس النّوع الثاني سوى انتكاس للفطرة، فما خلق الله الأنثى إلا والأنوثة والحياء منها ولها، وما خلق الذّكر إلا والغيرة والرجولة منه وله، وما تخلّى أحدهما عمّا حباه الله به إلا بملك إرادته وتمام قبوله، فمن قبل بانتكاس فطرته عاش ذليلًا بين أقرانه، لا يرفّ له طرفٌ، ولا ينغص عليه القلب، فإمّا أنّه قد مات ضميره فيحييه الله بأمره، وإمّا أنه لا حياة له، فإنّا وإنّه لله وإنا إليه راجعون، نعوذ به من انتكاس الفطرة، وموت الضمير والفؤاد.
رمزيّة الزواج ودور كلّ من الرجل والمرأة داخل أسواره
إنّ الزواج لم يكن سجالًا، ولا معركة هازمٍ ومنهزم، وليست الرابطة بين الذكر والأنثى في بيت الزوجيّة كعلاقة المالك بالرقيق، بل هما جزآن يكملان بعضهما بعضًا، وما أكثر ما تجد من مهرطقين لا يرون في المرأة إلاّ آلةً لإشباع غريزتهم، وأنّها كائنٌ لا يستحقّ إلا الخشونة والزّجر لكيلا تطغى على زوجها، أو تكون في مرتبةٍ قريبةٍ منه، بل أنّها لا شكّ أدنى منه مرتبةً وعقلًا، وأنّه هو صاحب الشّأن الذي تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه وإن لم يكن بالمعروف، فتجده إذا ما دخل البيت هابه أهله، وهرب كل منهم بجلده، وكأن الذي عاد طاغيةٌ متجبّر، وليس أبًا وزوجًا.
كم من زوجٍ تخافه زوجته وتطيعه في أمره خشية أن يحلّ عليها وابلٌ من السبّ والضرب منه، وكم من أبناءٍ لا يرجون من حياتهم إلا خلاصًا من أغلال العنف والتوبيخ التي تطالهم من أبيهم، وما أكثر المهرطقات ممن تجدهنّ يقضين معظم أوقاتهنّ في تصفح المواقع الخليعة ومتابعة المسلسلات التي تحرّض على الانحلال الخلقي، حتى إذا ما حضر الزوج بعد طول عملٍ وتعبٍ وجد البيت في فوضى عارمةٍ، وحالها كحال العائد من موتٍ وشيكٍ، فإذا ما حدّثها عما شغلها عن القيام بواجباتها المنزليّة، انفجرت في وجهه تجهّما وغيظًا أنّها ليست بخادمةٍ ولا منظفةٍ ولا طبّاخةٍ، وأنّها ليست ملزمة للقيام بشأنه وإن كان جلّ يومها يمضي في تفاهةٍ وسفاهةٍ.
كثيرات تجدهنّ يطالبن بالمساواة وحفظ الحقوق والقيام بالواجبات، وهنّ أكثر من يهتكن الحقوق، ويتغاضين عن الواجبات، وما هكذا يكون الزواج، وما هكذا يكون مربّي الخلف الذين سيُباهى بهم السّلف.
لينظر الواحد منا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وليتعلّم ويعتبر، فهو النبيّ الرسول حامل الرسالة السماويّة، والمنزّل عليه الوحي بالقرآن الكريم، كان ليّنًا رحيمًا بأهله، يعطف ويحنو على الصّغير والكبير، ويستشير أهله في أمره فيأخذ منهم الرأي، ويأخذون منه المشورة ويطيعونه في كلّ أمره.
وبالمقابل تجد من الأزواج من يعامل زوجته بدلالٍ وعطف، فيرقّ قلبه خشيةً عليها، وينقبض صدره إذا ما أصابها مكروهٌ، يعينها في شؤون بيتهما تخفيفا عليها، ويحرص على تربية أطفالهما معًا، فلا يلقي كلّ الحمل عليها، ولا يؤاخذها بتقصير حصل بتعبٍ سهوًا منها، إذا حضر البيت هبّ كل من فيه يستقبله بحفاوةٍ وسعادةٍ بعودته، وإذا خرج رافقته الألسنة والقلوب بالدعاء له بالحفظ من كل شر ومكروه.
ومن الزوجات من تجدها تدلّل زوجها أيّما دلالٍ اهتمامًا به، تقوم بشؤون بيتها وتعتني بأطفالهما، فلا يدخل ليجدها متجهّمة الوجه بل باسمةً جميلةً نظيفةً تنتظر عودته، يتجاذبان أطراف الحديث بالنقاش والذكر والتّرتيل، في جلسةٍ أسريّةٍ ملؤها العطف والمودّة، تحفظ عرضه وسرّه، لا تتأفّف لضيقٍ حلّ بهما، بل يحتسبان أجر الصبر عند خالقهما.
إنّ الزّواج جميلٌ فحرص كثيرٌ من المفسدين على أن يقبّحوه، وبدل عدّ محاسنه حرصوا على طمسها تضليلًا وتزييفًا، ومثلما ساهموا في تشويه صورته بكلٍ الطرق، سلكوا كذلك السّبل الممكنة لترهيب الشباب منه، فصوّروه ببشاعةٍ لا يتّصف بها، فالفطن من عرف سمّ مكائدهم، واللّبيب من تخلص من مسعاهم، وليس المغلوب على أمره إلا من اتبّع هواهم فأضلّوه السّبيل والتّفكير، وغدا فردًا من قطيعهم المتمرّد على الفطرة، نسأل الله إلا سلامة الفطرة والهدى والتّقى، وإنّ له الحكمة البالغة، فالأمر له من قبل ومن بعد، وإنّ له في خلقه شؤونٌ.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!