الدعاء بين الدنيا والآخرة
الدعاء وسيلةٌ للاتّصال باللّه تعالى والقرب منه، وهو قبل أن يكون أمنيات وطلبات يطلبها العبادُ من ربّهم، عبادةٌ وحبلٌ يربطنا بالله يوصلنا إليه، وهو كغيره من العبادات يشمل خيريّ الدنيا والآخرة، وله شروطٌ وآداب وصورٌ للاستجابة رُبّما لا يعرفها عددٌ من الناس، فهو ذو منزلة عظيمة في الدين بيّنها الرسول – صلّى الله عليه وسلم – بقوله: (الدعاء هو العبادة ثم قرأ قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]) [أخرجه أحمد في المسند].
ولعلّنا نتعرف في هذا المقال على ملامح هذه العبادة عن قُرب، ونستجلي روح بعض الآيات والأحاديث والأقوال التي تعلّق قلوبنا بها، فيزدادُ يقيننا بالله تعالى حينما نخضع ونضرع له.
الطلب: بين الأمر والدعاء
هل الدعاء رديفٌ للأمر؟ أم أنّ لكلٍ منهما معناه ومقامه؟
يغلب في معنى الدعاء النظر إليه بوصفه “استدعاء العبد من ربّه عزّ وجلّ العناية واستمداده المعونة منه. وحقيقته: إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبوديّة، واستشعار الذِلّة البشريّة، وفيه معنى الثناء على الله عزّ وجل، وإضافة الجود والكرم إليه”[1]، وعليه فالدعاء استمدادُ العون من الله والتبرؤ من الحول والقوة، ويحمل في معانيه كذلك الثناء على الله، فحينما يدعو الإنسان يُدركُ بأنّه العبد المملوك الذي يرفع يديه للإله المالك، فلا يكون طلبه أمراً، بل هو محض طلبٍ لا غير.
ربما نلحظ من هنا داعي التفرقة عند النحويين والبلاغيين المُتقدمين بين هاتين الصيغتين وبين استعمال كُلٍّ منهما، فالأمر –بحسب علماء البلاغة “يُشترَط فيه الاستعلاء، أما الدعاء فيُشترَط فيه التضرّع والخضوع”[2] وطالما أنّ الدعاء يختلف عن الأمر لاختلاف المقامات، فلا بُدّ إذن أن تختلف ماهيّته، فالعبد بالدعاء يُخاطب ربّ السماوات والأرض، مالك المُلك، العليم الخبير بنفوس خَلقهِ ومصالحهم.
وتجدر بنا الإشارة هنا بأنّ الدعاء لا يمكن أن يُدمَج مع غيره، كعلم الطاقة وما أفرزه من نتائج كقانون الجذب مثلاً، لاختلاف المرجعيّات والغايات، فالعبد حينما يدعو يأخذ بالأسباب ويدرك بأنّ النتيجة ليست حتميّةً في أمور الدنيا، مع ملاحظة أنه يؤدي عبادةً عظيمة، لا أنّه يأمرُ الرب أو الطبيعة بأن تجلب طلباته الدنيويّة.
كيف يُستجاب الدعاء؟
ما يُميّز المسلم عن غيره هو أنّه يعيش الإسلام كمنهجٍ للحياة في عالم الشهادة، وهذا المنهج أيضاً لا ينفكُّ عن الغيب والدار الآخرة، والإيمان بوجودها، ومن هنا نعلم ونوقِنُ بوجود الكثير من المجهولات والخفايا التي لا يُدركها العقل البشريّ، فهو محدود المعرفة.
يرفع الإنسان يديه لله تعالى لأجل أمرٍ من أمور الدنيا، فيُلّحُ في طلبه، فمن الناس من يدعو وهو مدركٌ لحقيقة قصور علمه وعقله أمام علم الله تعالى، ومنهم من يظن ألّا خير إلا في إجابة الدعاء بالصورة التي طَلَبها، وهنا لا نقول: إنّ الإلحاح في الدعاء أمرٌ مذموم، بل إنّ الإنسان خُلقَ لحوح الطبع، يُسَرُّ بتحقيق ما دعا الله به على الصورة التي أرادها، لكن لابُدّ للإنسان أن يُهذّب طبائعه ويدرك بأنّ الله حكيم عليم، حيث تتعدد صور إجابة الدعاء، واستحضار هذه الصور يبعث الطمأنينة في النفس بكل تأكيد.
قال صلى الله عليه وسلّم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا. قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ. قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ) [أخرجه الإمام أحمد في المسند].
إن الإنسان إذ يطلب من ربه فإنما يتعامل مع إلهٍ كريم لا يرُدُّ عبده، حكيم عليم بنفوس خلقه وبما هو أصلح لهم، فرُبّما أعطاك نعمةً فجعلتك تغفل عنه وتنشغل بالدنيا ويزداد تعلّقك بها، فتصير في ظاهرها نعمة وفي باطنها نقمة، ولعلمه الأزليّ بهذا يصرفها عنك، ويؤكد هذا المعنى قول بعض السَلَف: “رُبّ مُستَدرَجٍ بنِعَم الله وهو لا يعلم. ورُبّ مغرورٍ بستر الله عليه وهو لا يعلم، ورُبّ مفتونٍ بثناء الناس وهو لا يعلم”[3]، فكُلّ هذه الأمور ظاهرها نعمةٌ عند الناس وعند صاحبها، والله وحده يعلم بأنّها نقمةٌ على صاحبها وحُجّةٌ عليه، وبالطبع قد يُجاب الدعاء وتكون نعمة في ظاهرها وباطنها إن أحسَنَ الإنسان شُكرها ولم يغفل بها عن الآخرة، أو يعصي الله تعالى بها.
ونضيف إلى اليقين بالإجابة أثناء الدعاء فضيلة لذّة القرب، فإن كان الإنسان لحوحاً واعتاد الدعاء ولم يعترِ قلبه اليأس، فلرُبّما أعطاه الله تعالى لذّةً بالقرب والدعاء ما يُغنيه عن طلبه، ولربما منحه الرضا الذي هو أعلى مقاماً من الصبر، أو آنسَهُ به، وهذا من النعيم المُعجّل، فرُبّ خلوةٍ مع الله كانت تساوي الدنيا بأسرها أو أكبر عند المسلم، وبهذا يمتاز المسلم عن غيره؛ فغيره مُنتهى أحلامه في الدنيا، أمّا هو فمبتغاه عظيم.
أمّا معالجة طبع استعجال الاستجابة فإنه بداية يكون باستحضار صفات الله تعالى وحقيقة الدنيا والآخرة، وبذلك يبدأ الإنسان بتهذيب هذا الطبع، فتسكن نفسُه، وقد قال الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (*) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (*) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9- 11] ففي هذه الآيات يذمُّ الله صفة الغفلة والعَجَلة عند الإنسان، فهو اليائس عند زوال النعم، القانط لا الصابر، الفخور الغافل عند حضور النعم لا الشاكر، ثُمّ يُعقّب سبحانه بذكر الدواء بعدما ذكر الداء بالإشارة إلى أن الصابرين المؤمنين بما اشتملوا عليه من الإيمان والصبر وعمل الصالحات مستثنون من هذا الطبع وآفاته، وقد نبّهنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ضرورة التصبر والتمهّل بقوله “يُسْتجَابُ لأَحَدِكُم مَا لَم يعْجلْ: يقُولُ قَد دَعوتُ رَبِّي، فَلم يسْتَجبْ لِي”. [متفق عليه]
الدعاء الجامع للخير كُلّه
إذا أدركنا أنّ الدنيا بالنسبة للمسلم محض جسر للعبور إلى الآخرة، فإننا سنعلم أنّ خير الدعاء هو الدعاء الذي نطلب فيه خير الدارَين معاً، ويتجلى لنا هذا الأمر حينما نقرأ قصص الأنبياء أوّلاً، وأحاديث الرسول -عليه الصلاة والسلام- ثانياً.
فلنقف مع نموذجين من أدعية الأنبياء، أوّلهما نبي الله أيوب -عليه السلام- قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] فقد جمع أيوب في هذه الآية بدعائه “بين حقيقة التوحيد وإظهار الفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في المتملق له والإقرار له بصفة الرحمة وأنّه أرحم الراحمين”[4] أما النموذج الثاني فهو نبي الله يوسف -عليه الصلاة والسلام- فيقول داعيًا ربه: {أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] وقد “جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للربّ وإظهار الافتقار إليه والبراءة من موالاة غيره سبحانه وكَون الوفاة على الإسلام أجلّ غايات العبد وإنّ ذلك بيد الله لا بيد العبد والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء.”[5]
والشواهد على أدعية الأنبياء كثيرة لا يسعها هذا المقال، ونلحظ فيها دائماً الجمع بين حاجة الدنيا وطلب الآخرة والتوسّل لله بصفاته وأسمائه وفقاً للحاجة المطلوبة.
أمّا ما وصّى به النبيّ -عليه الصلاة والسلام- صحابتَه والمسلمين حول الدعاء فنراه في جوابه لرجل أتاه سائلاً إياه حيث قال: يا رسول الله كيف أقول حين أسأل ربي؟ فقال: قُل: “اللهمّ اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني فإنّ هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك.” [أخرجه مسلم في صحيحه] وقد حدثتنا أمّنا عائشة رضي الله عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات: “اللهم إنّي أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار ومن شر الغنى والفقر.” [أخرجه أبو داود في السنن] فيظهر لنا في هذا الحديث الجمع بين الاستعاذة من فتنة النار ومن عذابها وفتنة الغنى والفقر، فكما ذكرنا بأنّ الغنى قد يكون فتنة والخير كلّه في أن يصبر الإنسان أو يشكر مهما كان رزقه، وما عدا ذلك فالكُلُّ مُبتلىً في الدنيا، والميزان هو التقوى.
يحدثنا أنس بن مالك رضي الله أن أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- كان اللهم آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً؛ وقِنا عذابَ النار.” [متفق عليه] ويظهر لنا هذا الحديث الجمع بين خيريّ الدنيا والآخرة، ففيه توسّطٌ وتوازن لا نجده إلا في الدين المتصل بالله المبعوث به نبيه، كما يظهر هذا التوازن عندما جاء رجل إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد جُهِد حتَّى صار مِثلَ الفَرْخِ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (هل كُنْتَ دعَوْتَ اللهَ بشيءٍ)؟ قال: نَعم كُنْتُ أقولُ: اللَّهمَّ ما كُنْتَ مُعاقِبي به في الآخرةِ فعجِّلْه لي في الدُّنيا، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : ( لا تستطيعُه أو لا تُطيقُه فهلَّا قُلْتَ: اللَّهمَّ آتِنا في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ)؟ قال: فدعا اللهَ فشفاه” [أخرجه الإمام مسلم في صحيحه]، وقد “سُئلَ أبو بكر بن أبي مريم: ما تمامُ النعمة؟ “قال أن تضع رِجلاً على الصراط ورِجلاً في الجنة.”[6] فلندعُ بتمامِ النعمةِ دائماً.
خلاصة القول
إن على المسلم أن يستمر في طلب الخير في الدنيا والآخرة من الله وحده دون إفراطٍ ولا تفريط، إذ ليست الدنيا جنّةً لابُدّ أن ينال فيها كل ما يخطر بالبال، فيحذو حذو من لا يؤمن بالله في جعلها غايةً لا وسيلة، مع أنه يجب عليه في الوقت نفسه ألا ينسى نصيبه من الدنيا ويطلب خيرها تلبيةً لحاجات نفسه، مع إدراكه بأنّها مؤقتة وبأنّه مُبتلىً فيها بالخير والشر، وأنّه مفارقها إلى دارٍ أرحبَ وأوسَع، فلا يشغله عن هذه الدار شاغل.
[1] شأن الدعاء، أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي الحافظ، دار الثقافة العربية، تحقيق: أحمد يوسف الدقاق، ص 4.
[2] شروح التلخيص، سعد الدين التفتازاني، على تلخيص المفتاح الخطيب للقزويني، أدب الحوزة، جـ 2، ص 320- 321.
[3] الداء والدواء، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، ص 42.
[4] الفوائد، ابن قيم الجوزية، دار ابن الجوزي، الطبعة الثانية، ص 198.
[5] المرجع السابق، 198، 199.
[6] عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، ابن قيم الجوزية، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، ص134.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!