الحبّ الخالد

image_print

هذه الخاطرة فازت بالمركز الرابع في مسابقة “في حب الرسول”:

تقرَّحتْ جفونُها تبكي أهدابَ وُدًّ تربَّعتْ فوق دمعِها المنجرفِ من مآقي الفراق؛ مع أمتعةِ رحيلِها حزمتْ ذاكرةً عصيَّةً على النّسيانِ، وبتوقيتِ عذابٍ لم يبرحْ مجهولَها الآتي دقَّت ساعةُ الهجرةِ؛ ملامحُ شريكِها الوفيِّ ترتسمُ بين تلافيفِ دماغٍ أوعزَ لخلاياها المُحِبَّةِ أمراً بحتميّةِ الانفصالِ.

قاربُ وداعٍ يستحثُّ خطاها وشراعُه وابلُ مطرٍ يبحث عن تربةِ توحيدٍ خصبةٍ تؤول إليها عقيدةُ زوجِها المغروسةِ في أرضٍ قاحلةٍ مُدنّسةٍ بالجاهليّةِ، ومع فجرِ يومٍ آخرَ أطلَّ على طيبةَ المنوّرة سابقتْ أقدامُ زينبَ لهفةَ حبِّها القديمِ، واتّجهتْ نحو المسجدِ تستجدي عطفَ أبيها.

كان طليقُها قد قرعَ بابَ دارِها هارباً بعدما اعترضتْ إحدى سرايا المسلمينَ قافلة تجارتِه العائدةِ من الشام واستولَت على أموالها، وما إن فرغَ الصّحابةُ الكرامُ من صلاتِهم حتى انكسرَ صمتُ الخشوعِ متحوِّلاً إلى صدىً قويٍّ خطَّ مسارَه من الخلفِ مُخترقاً صفوفَهم وناطقاً بلغةِ حبٍّ تفلّتتْ عروةُ جَلَدِه حين نادتْ زينبُ بهم: “إنّي قد أجرتُ أبا العاصِ بن الرّبيع”..

لم يَنْهَر النّبي صلّى الله عليه وسلّم جرأةَ ابنتِه حين قطعَتْ بحِدَّة صوتِها تراصَّ الهدوءِ السّاكنِ بين جموعِ المسلمينِ، ولم يلقِ اللّومَ على ماضي عشقٍ لم ينلْ زمهريرُ المسافاتِ من لهيبِه بل التفتَ نحو أصحابه وكأنَّ ذاكرةَ حبِّه السّرمديِّ لأمِّها قد تراءَتْ في بريقِ عينيه الشّريفتين قائلاً: “والذي نفسي بيده ما علمتُ بشيءٍ حتى سمعتُ ما سمعتُم، وإنّه يجير على المسلمين أدناهم”.

ثمّ توجّه صلّى الله عليه وسلم بحنانِه إليها قائلاً:

“أي بنيّة، أكرمي مثواه، ولا يخلصْ إليكِ، فإنّك لا تحلّين له”؛ وبعث بعدها عليه الصلّاةُ والسّلام إلى السّريّة المجاهدةِ، فقالَ لهم: “قد سمعتم ما سمعتُ، إنّ هذا الرّجلِ منّا حيث علمتُم، وقد أصبتُم له مالاً، فإن تحُسِنوا وتردّوه، فإنّا نحبُّ ذلك، وإن أبيتُم فهو فَيْءُ الله، فأنتم أحقُّ به”.

قالوا رضوان الله عليهم: “بل نردّه”.

رحل أبو العاص بمالِه نحو مكّة لكن قلبَه قد بقي معلّقاً بالمدينة؛ وكان قد عزم أمره على الإسلامِ بعد ما رأى من نبيّ الرّحمة المُعلّم وصحابته الغرِّ الميامين فأعاد للكفّار أموالهم ثمّ صاح بهم:

“يا معشرَ قريش: هل بقي لأحدٍ منكم عندي شيءٌ؟”، قالوا: “لا”.

قال: “فإنّي أشهد ألا إله إلا الله وأن محمّداً عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلامِ عنده إلا خوفَ أن تظنّوا أنّي أردتُ أكلَ أموالِكم”.

ثمّ هاجرَ إلى الرّسولِ مفترشاً طريقَ الهدى بخطىً واثقةٍ مستضيئةٍ بنورِ الإيمانِ واليقين؛ فردَّ الأبُ الحنونُ ابنتَه إليه ليكملا معاً قصّةَ حبٍّ ووفاءٍ خطّها التّاريخُ بأبجديةِ الرّحمةِ النّبويّةِ المُنقذةِ لكلِّ البشر.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد