التلاعب بالألوان والرموز .. الصورة النمطية بين الترغيب والترهيب

image_print

الألوان التي تراها العين المجردة، تُسمّى علميًّا بألوان الطيف، ويتألّف هذا الطيف من ألوان تصدر إشعاعات كهرومغناطيسية تراها عين الإنسان، وتتوزع من اللون البنفسجي إلى اللون الأحمر، وهي سبعة ألوان: البنفسجي والأزرق والسماوي والأخضر والأصفر والبرتقالي والأحمر. وكل الإشعاعات الفوق بنفسجية وتحت الحمراء هي ألوان لا تراها عين الإنسان.

ألوان الطيف نراها بكل وضوح بهذا الترتيب في ظاهرة قوس قُزَح التي تعقب عادةً نزول المطر، وهي ظاهرة طبيعية تبهر كل من يراها. وبالتالي ألوان الطيف هي ليست مجرّد إشعاعات فيزيائية بل ألوان حيّة تنبض بالجمال، نراها في كل شيء تقع عليه عيوننا. وهي من الأساسيات التي يتعلمها الأطفال فور بدئهم للنطق: السماء الزرقاء، الشجرة الخضراء، الشمس الصفراء، الفراشة الحمراء، الخ..

الإعلام وتنميط العلاقة مع الألوان

بعد هذه المقدمة عن الطبيعة ومصدر الألوان، سندخل في عالم الإعلام والتسويق والعلامات التجارية ونطرح السؤال التالي: هل يحق لأي أحد أن يحتكر لوناً أو مجموعة من الألوان لنفسه، وتصبح الرمز الحصري له، مع أنها ظاهرة طبيعية تعني الجميع؟

في الحقيقة ليس لأحد الحق في ذلك، فالألوان هي مِلك عام، وكل إنسان له الحق أن يعبّر عن نفسه بلون أو مجموعة من الألوان، ولا يستطيع أحد أن يحتكرها أو أن يجعلها الصورة الحصرية له.

لكن مع تطور وسائل الإعلام وتنامي قوتها، أصبح الإعلام قادراً على ربط صورة معيّنة بمعنىً معيّن -قد لا يكون مرتبطاً به- ولكن عبر التكرار والتكرار وإظهار هذه الصورة بأسلوب جذاب يُبهر الناظرين، يستطيع الإعلام فعلاً أن يربط هذه الصورة بهذا المعنى وأن يرسّخ ذلك في أذهان الناس، وهذا ما يُعرف “بالصورة النمطية”stereotype ، ومن خلالها يستطيع الإعلام تغيير أفكار الشعوب، وذلك سيف ذو حدّين، وهنا يكمن خطر الإعلام. وهذا هو السبب الرئيسي لاهتمام الأنظمة الدكتاتورية بالإعلام كوسيلة لضخ الأفكار وتكرارها والتحكم بوعي المجتمع بما يخدم سياسة النظام، وهذا ما يُعرف “بالبروباغندا”.

هل يستطيع الإعلام قلب مفاهيم المجتمع وإقناعه بأفكار جديدة؟

نعم، القوة الإعلامية قادرة على تغيير وعي المجتمع وتغيير مفاهيمه لأجل الهدف التجاري أو الأيديولوجي الذي يريد الترويج له.

وثمة مثال شهير على ذلك: خاتم الماس. ففي السابق لم يكن خاتم الماس مرتبطاً بالزواج ولم يعرفه عامة الناس، لأنه لم يستطع توفيره إلا الأثرياء، ولم يكن الطلب عليه كبيراً، إلا أنه في عام 1947 قامت شركة DeBeers المحتكرة لسوق الألماس بالطلب من شركة N.W. Ayer الإعلانية الرائدة في الولايات المتحدة أن تصمم لها حملة إعلانية ضخمة لزيادة مبيعات الماس، فأطلقت الشركة حملة “الماس إلى الأبد”A Diamond is for Ever ، وكان هدف الحملة إقناع الناس أن خاتم الماس يجب أن يكون الخيار الوحيد لخاتم الزواج. فإذا أراد الرجل أن يعبّر عن حبه للمرأة التي يريد أن يتزوجها يجب عليه أن يقدّم لها الخاتم الماسي الغالي الثمن كدليل على شدة حبه! وهذه ليست إلا فكرة رأسمالية استهلاكية شوّهت مفهوم الحب عبر ربطه بالمادّية والمال.

حملة “الماس إلى الأبد”A Diamond is for Ever  التي أطلقتها شركة N.W. Ayer الإعلانية

وكانت نتيجة هذه الحملة الدعائية: أن 78% من الخواتم التي يتم شراؤها اليوم في أمريكا لأجل الزواج تحتوي على الماس. نعم، نجحت الحملة واقتنع الناس بضرورة إنفاق المال الطائل لأجل خاتم زواج! وبالتالي استطاع الإعلام أن يجعل الخاتم الماسي صورة نمطية للزواج.

ونستحضر في هذا السياق حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول لرجل فقير أراد الزواج: (التمس ولو خاتمًا من حديد) [رواه البخاري ومسلم]. فانظر إلى تيسير الإسلام وإلى تعسير الرأسمالية.

ولنتساءل الآن: هل يستطيع الإعلام كسر صورة نمطية كانت موجودة في السابق، ثم استبدالها بصورة نمطية جديدة؟

كسر الصور النمطية: الأزرق للإناث والزهري للذكور .. ثم صار العكس.

في الماضي لم يرتبط لون محدد بجنس المولود، فالأزرق لم يكن مرتبطاً بالذكور ولا الزهري مرتبطًا بالإناث. وكان الناس لضيق الحال عموماً يُغطون أبناءهم بالملابس البيضاء بكل بساطة ودون تكلّف، وكانت الملابس هي نفسها للذكور وللإناث حتى عمر السادسة.

حتى بداية القرن العشرين وبعد الثورة الصناعية، أصبح هناك ألوان جديدة مرتبطة للجنسين في الغرب: الأزرق للإناث والزهري للذكور! نعم فقد كان الاعتقاد آنذاك أن اللون الزهري هو قريب من الأحمر وبالتالي هو لون قوي لا يصلح للإناث لذلك هو أقرب للذكور، بعكس الأزرق الهادئ الذي يذكّرنا بلون السماء لذا هو أقرب للإناث ولا يصلح للذكور، كما كان الاعتقاد شائعاً.

ظل الأمر كذلك حتى مطلع الخمسينات عندما تم عكس اللونين، بعد عدة حملات من شركات إعلانية، خصصت اللون الزهري للإناث حصراً.

بطاقة معايدة من عام 1910 تُظهر فتاة ترتدي اللون الأزرق وصبي يرتدي اللون الزهري

ألوان قوس قزح وتنميط أيديولوجيا محاربة الفطرة

ظهر في زمننا علم ملوّن، أراد مصممه (جيلبرت بايكر) أن يرمز لمختلف الميول الجنسية -الفطريّ منها والمحارب لها-، فصمّم علمًا من ستة ألوان مستوحى من ألوان قوس القزح، يرمز إلى التنوّع -كما يقول-، ثم رُفع لأول مرة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية.

وهذا الربط ليس عفوياً بريئاً، فإن لوبي الضغط العالمي لدعم هذه الجماعة، أراد أن يروّج لبضاعته الرافضة للفطرة السويّة، عبر ربطها بمفاهيم مقبولة عند الناس ويحبها الجميع، مثال:

  • ألوان قوس القزح: ولها معاني مرتبطة عند الناس بجمال ألوان الطبيعة، وبالألوان الجميلة التي تظهر في السماء بعد توقف المطر، والقوس الملوّن الذي يرسمه الأطفال عند بداية تعلمهم للرسم. هل من الصدفة ربط المعاني الجميلة بفاحشة لا يرتضيها الله ولا الفطرة؟ لا معنى لهذا الربط إلا لجعله مقبولاً عند الناس وخصوصاً الأطفال.
  • اسم “Gay”: وهي كلمة تعني بالأصل في الإنجليزية “الفرح والسرور”، ثم تمّ ربطها بالذكر الذي يمارس الفاحشة المثلية، وذلك بهدف ربط هذا العمل بمعنى يرمز للجمال والفرح.
  • كلمة “Pride”: وتعني الفخر أو الاعتزاز، ثم خصصوا، ليس فقط يوماً واحداً، بل شهراً كاملاً من كل عام للاحتفال بما يسمى Pride Month أي الفخر بالانحراف عن الفطرة السويّة!

ولم يتوقف الأمر عند ربط المثليّة الجنسيّة بصورة نمطية مشرقة عبر ألوان قوس القزح، بل تعمّد الإعلام أن يرسّخ هذه المفاهيم عبر التكرار والتعميم في مختلف المجالات:

  • وضع هذه الألوان الستة داخل معظم شعارات الشركات العملاقة العالمية.
  • رفع هذا العلم عند المشاهير و”المؤثرين” ومنهم المغنين واللاعبين الرياضيين والرؤساء والمسؤولين الحكوميين.
  • حتى الشخصيات الكرتونية التي يحبها الأطفال أصبحت ترفع هذا العلم الرامز لهذه الفاحشة!
  • الترويج لألعاب للأطفال تحمل شعار الألوان الستة.

وبعد كل هذا الضجيج الإعلامي، استطاع الإعلام أن يجعل هذه الفاحشة مرتبطة في أذهان الناس بهذه الألوان الستة. وهذا هو عين الاحتكار، فالألوان هي ملك عام، ولا يجب أن يحتكرها فئة معيّنة من الناس. لذلك يجب على الإعلام المحافظ ألّا يكرّس هذا الاحتكار عبر التحذير من هذه الألوان ثم تحذير الأهل والأطفال من استخدامها، بل يجب استخدامها بأشكال مختلفة ومتنوعة ومتعددة لكسر هذا الربط بينها وبين هذه الفاحشة، وهي ألوان أساسها من الطبيعة، كما أسلفنا في البداية، فلا عيب في ذاتها.

ولكن هل هناك أمثلة أخرى عن ألوان أو شعارات تم استخدامها كصور نمطية لترسيخ بروباغندا معادية؟

نمطية الترهيب من الإسلام

في أعقاب حادثة الاعتداء على صحيفة “شارلي إبدو” في فرنسا عام 2015، زادت الحملات الإعلامية للتحريض على الإسلام والمسلمين. وقد عزّز هذا الخطاب وسائل الإعلام الغربیة عامةً والفرنسية خاصةً، بكل أشكالها بدایة من الإمبراطوریات الإعلامیة الكبرى مثل France 24، TF1، Canal+، ARTE وغيرها، وصولاً إلى الصحف والمجلات والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. وكان من نتائج هذه الحملات الإعلامية تعزيز العداء تجاه المسلمين أو “الإسلاموفوبیا”، حتى أصبح الوعي الغربي والفرنسي بعد الحادثة، یربط بشكل مباشر بین الإسلام والمسلمین من جهة والعنف والإرهاب من جهة أخرى، ولا یملك الآن إلا صورة نمطیة سوداء عنهما.

مجلات فرنسية عديدة تبنّت خطاباً محرّضاً على المسلمين

كيف يشيطن الإعلام خصمه أمام الجمهور؟ بتحليل بسيط لعيّنة من أغلفة مجلات فرنسية صدرت عام 2015 وبعده (الموجودة في الصورة) نستخلص منها عدة رسائل تريد إيصالها للقراء:

  1. الإسلام خطر (يهدد الدول الغربية، الثقافة الغربية): استخدام صور تظهر تجمعات المسلمين وكأنهم ينتشرون ويهددون المجتمعات الغربية، إظهار المساجد وكأنها تغزو أوروبا، إظهار العلم الفرنسي عليه هلال ونجمة وكأنهم يقولون: هكذا ستكون هوية فرنسا إن لم توقفوا “تمدد” المسلمين، إظهار الصليب يتهاوى أمام الهلال.
  2. الإسلام يحض على الكراهية، على رفض الآخر: إظهار المسلم بوجه غاضب وعابس، عنيف، يحمل سلاحاً ويريد الهجوم.
  3. الإسلام يحض على ظلم النساء والأطفال: إظهار الحجاب أو النقاب بشكل قبيح، بلون أسود، يقيّد المرأة.
  4. الإسلام رجعي، يدعو لأفكار قديمة، قد “تجاوزتها” أوروبا: الإسلام يريد تطبيق الشريعة بالقوة، يريد فرض لباس معيّن على الناس، يفرض قيوداً على غير المسلمين..

إن الإعلام إذا أراد الترهيب من فكرة معيّنة، يُلبسها اللباس الأسود ويقدمها بالصورة المظلمة القاتمة، ويظهرها على أنها خطر وتهديد. وإذا أراد الإعلام الترغيب بفكرة أخرى، يقدمها بالألوان الجميلة الزاهية المُبهجة المُفرحة! ويظهرها على أنها تدعو للمحبة والسلام والتنوع!

بالمحصّلة، الإعلام سيف ذو حدّين، يستطيع ترسيخ ألوان معيّنة كصورة نمطية عن مفهومٍ ما عند أذهان الناس، ويستطيع كذلك، أن يكسر هذه الصورة النمطية. والعاقبة لمن يستطيع استخدام الإعلام بذكاء وتكرار واستمرار!


المصادر:

  1. https://www.brilliance.com/education/diamonds/history
  2. https://www.forbes.com/sites/shelleyzalis/2019/09/05/busting-gender-stereotypes-the-pink-versus-blue-phenomenon/?sh=607f32cc2764
  3. https://www.lyoncapitale.fr/actualite/les-musulmans-sont-pris-entre-deux-feux-pour-al-kanz

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد