البروفيسور جيفري لانغ.. من الإلحاد إلى الإسلام
ولد جيفري لانغ عام 1954 لأسرة مسيحية كاثوليكية، وقد عُمِّد وتلقى تعليمه في مدرسة كاثوليكية، ومُنح تثبيتًا دينيًّا على أنه كاثوليكي[1]، ترعرع مع أخوته الأربعة، بين يدي أم رؤوم، ممرِّضة كاثوليكيَّة ملتزمة، عرفها أبناؤها بالقوَّة والصَّبر والإرادة، ووُصفت بأنها قدِّيسة حقًا، وأبّ مدمن خمر عصبيّ فظّ، أشبع الجو العائلي بالعنف والضياع النفسي، وزرع الأسى في قلب طفل عاش طفولته رعبًا من أنَّ أباه سيقتل أمَّه ضربًا يومًا ما.
كان جيفري يعيش في شَرَك عقدٍ من الذنوب من جهات مختلفة، ذنب كراهيَّته لأبيه بسبب عنفه مع أمه، وذنب أنه ربما هو سبب هذا الغضب الموجَّه ضد أمه، وأقسى ذنب على الإطلاق هو ضعفه أمام أبيه حيال إيذائه لأمه.
وفي السنوات الست الأخيرة من عمرها، أصيبت أمه بانهيارٍ عصبي، وماتت في المستشفى، ثم توفي والده بعدها بعام.. وهنا لا بدَّ أن نذكر أنَّ شكَّه بوجود الله بدأ منذ حداثة سنِّه، عندما كان يصلِّي لكي يزيح الله والده من حياتهم، إلَّا أنَّ والده ظلَّ موجودًا.[2]
كان جيفري متوقد الذكاء، كثير الشك والجدل، فالشَّك من روح العصر الذي يعيش فيه، حتى طال المؤسّسات الدِّينيَّة، فلم يستطع مدرس التَّربية الدِّينيَّة، رغم أنَّه كان كاهنًا متمرِّسًا حقًّا أن يقنع طلابه بأنَّ الله موجود حقًّا، وبما أنَّ جيفري كان مولعًا بالرياضيَّات والمنطق، كان جدله في فكرة بسيطة تتمثَّل في أنَّ مناقشة علم الوجود ليست برهانًا كافيًا على الوجود، فكان جزاؤه الطَّرد من الفصل ورسوبه في المادَّة، وأصبح ملحدًا في نظر جميع المحيطين به. ومع سيادة روح الشَّكِّ والفوضى والحرب والموت والدَّمار؛ فاغتيال كينيدي ومارتن لوثر كنغ ومخزى الرئيس نيكسون والشَّغب العرقي، ومذبحة فيتنام الغريبَّة، وكل الشغب والفوضى آنذاك، كان يعزِّز الشَّكَّ والتَّساؤل لديه.
وكان يتساءل: لماذا خلق الله هذا العالم العنيف النَّاقص؟ لماذا جعلنا نزَّاعين للإجرام قابلين للفساد؟ لماذا لم يضعنا في السماء منذ البداية بطبيعة غير قابلة للغواية؟ لماذا يعذِّب الأقوياء الضُّعفاء؟[3]
كان الإلحاد أقل رعبًا من كل تلك الأفكار التي تلاحقه حول عقوبة الله للجميع إلا فئة قليلة، وفكرة الخطيئة الموروثة، وإحساسه بغياب العدل الإلهي، وهكذا أصبح جيفري ملحدًا بشكل صريح في عمر الثَّامنة عشرة[4]، ولم يستطع أحد إقناعه بوجود إله، واستمر على ذلك فترة اثنتي عشرة سنة تقريبًا، مع حفاظه على معتقدات الآخرين، لم يكن يعتبر نفسه باحثًا في تلك الفترة من حياته، بالرَّغم من أنَّه كان يبحث دون أن يعي ذلك.[5]
أمَّا عن حياته الاجتماعيَّة، فقد انساق في بداية دراسته الجامعيَّة وراء أصدقاء من اتِّجاهات مختلفة، “ملحدين، يهود، بروتستانت”، ثمَّ بدأ يتجه في السَّنوات الأخيرة إلى “الهندوس والبوذيين”، وبدا له فيما بعد أنَّ تلك الصداقات كانت نموذجًا محددًا في صداقاته، يتطلَّع إلى أفكارهم بشأن الدِّين، وكان إصغاؤه أكثر من كلامه، فلم يضع معتقداته عقبة في طريق صداقاته.
وأمَّا عن حياته العلميَّة والمهنيَّة والعائليَّة؛ فقد أكمل دراسته الجامعيَّة في قسم الرياضيَّات في جامعة كونيتيكت، ثمَّ تزوج بعدها زواجًا نفعيًّا، حيث اتَّفقا على أنَّه يمكن إنهاؤه في أيّ فترة، ورحل مع زوجه إلى لافاييت الغربيَّة (إنديانا) لكي يتابعا دراستهما في جامعة بردوPurdue University [6]، وتمَّ طلاقهما بعد ثلاث سنوات بناءً على طلبها. ثمَّ تابع دراسته إلى أن تخرَّج سنة 1981م، وبقي في نفس الكليَّة محاضرًا حيث درَّس فيها فصلًا واحدًا.[7]
انتقل عام 1982م إلى مدينة سان فرانسيسكو الكبيرة، للتَّدريس في جامعتها، وهي أقدم جامعة يسوعيَّة في أمريكا[8]. وفي أولى محاضراته في هذه الجامعة تعرَّف على شاب وسيم أنيق وثري اسمه محمود قنديل، من أصل سعودي، وتوطَّدت علاقته به بأن عرَّفه على عائلته؛ أخوته (عمر وراجية قنديل)، واتَّخذوه صديقًا مقرَّبًا لها، عاش معهم أوقاتًا سعيدة جدًا، وكان جيفري يناقشهم في بعض الأحيان في الدِّين فيجيبون عن تساؤلاته، فوجد أنَّ أفكارهم الدِّينية تتبع ميثولوجيا محدَّدة وأساساً منطقيًّا معينًّا، وفي يوم أهدوه نسخة من القرآن الكريم مع بعض الكتب عن الإسلام، وبعد أن وجد في القرآن ما وجد، شعر بالانقياد إلى طريق واحد لا ثاني له، فاتَّجه إلى مسجد الكلية ليسأل بعض الأسئلة[9]، وإذ به يسلم وينطق بالشَّهادتين.[10]
تزوَّج من راجية قنديل أخت صديقه محمود، وعاش مع عائلته وبناته الثَّلاث (جميلة وسارة وفاتن) في كنساس، حيث عمل أستاذًا في قسم الرِّياضيَّات في جامعتها، إلى أن استقال مؤخرًا من عمله[11]، ومازال يرفل في سلام وسكينة الإسلام.
عانى في الفترة الأخيرة من أزمات قلبيَّة جعلته ينقطع عن العمل وعن التَّواصل مع النَّاس[12]، وقدَّم الكثير من المحاضرات واللقاءات عن الإسلام، وكانت له عدَّة مؤلفات، ساهمت في تكوين حصيلة من الأدبيَّات الإسلاميَّة المهمَّة في المجتمع الغربيّ.
الهوامش
الكاتبة مساعد العميد في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر.
[1] جيفري لانغ. الصراع من أجل الإيمان، ص: 22.
[2] جيفري لانغ. ضياع ديني، ص: 31-33.
[3] المرجع نفسه، ص: 33-34.
[4] جيفري لانغ. الصراع من أجل الإيمان، ص: 24. ورد في كتاب ضياع ديني أنه أصبح ملحدًا في سن السادسة عشرة من عمره. انظر: كتاب ضياع ديني، ص: 34.
[5] جيفري لانغ. ضياع ديني، ص: 34.
[6] جيفري لانغ. الصراع من أجل الإيمان، ص: 26.
[7] جيفري لانغ. الصراع من أجل الإيمان، ص: 28.
[8] المرجع السابق، ص: 30.
[9] المرجع نفسه، ص: 33-34.
[10] المرجع نفسه، ص: 43.
[11] زغلول النجار. قصة إسلام العالم الأمريكي جيفري لانغ، برنامج أفلا يعقلون، سلسلة الإعجاز العلمي، 22 سبتمبر 2012، رابط المقال:
https://www.youtube.com/watch?v=2LU0x9qG-CE
[12] في رسالة الكترونية أرسلها جيفري لانغ إلي بتاريخ 23 مارس 2017، أخبرني فيها أنه تعرض في ديسمبر 2016، إلى ثلاث عمليات جراحية في القلب خلال أربع وعشرين ساعة، اثنتان منها كانتا حالات حرجة.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!