البديل الشرعي وضعف الانقياد.. حول الأنمي من جديد
كنت مهتمًّا بقراءة رأي القراء الكرام لمعرفة رأيهم فيما كتبته في مقالي السابق عن الأنمي، وكنت أتفقد خصوصا تعليقات من يظهر من خلال صورته الشخصية أنه من المهووسين بالأنمي Otaku، فأعجبني في كثير منهم صراحتهم واعترافهم بمخاطره التي تتسلل إلى اللاوعي في حالة دفاع مكشوف من المشاهد، فيشاهد بهوس كبير دون رفع لسابغات النقد والتحليل لما يرمي المانجكا Mangaka -رسام المانجا الذي عادة ما يكون صاحب القصة- ترسيخه في المشاهد، وقد رأينا في المقال السابق إلى أي درجة يمكن للأنمي التأثير في حياة المهووسين به وفي تصوراتهم وهندامهم.. إلخ.
إلا أنني كنت أجد لوعة وأنا أقرأ بعض التعليقات التي يربط خرزات عقدها معنى واحد، جاء فيه الإقرار بهذه الأضرار التي قد تنجم عن مشاهدة الأنمي، مع الإلحاح على الإتيان بالبديل، وإلا فلا يحق النقد دون تقديم البدائل، يمكننا تصور هذا الكلام بصورة أخرى نتخيلها وهي أنه لا يحق لك التنبيه على المخاطر البيئية الناجمة عن انبعاثات المصنع إذا لم تكن تقدر على الإتيان بشيء بديل في دلالة ضمنية عن الحاجة لأنمي محلّي أو إسلامي، ويكأن الإتيان بالبدائل أصبح من لوازم النقد!
مهلاً.. لنفكك هذه العقدة!
إن العلم والإقرار بمخاطر شيء لا يسوغ أن يرضى الإنسان بالبقاء أسيرا فيه بحجة عدم إيجاد البديل، إذ تقرر في ديننا أنّ العلم يقتضي العمل، وأنّ العمل المنتظر هو تغيير إيجابي في السلوك، أي أنه تغيير نحو الأفضل، فلا بد من استثمار العلم في الرقي الإيماني والأخلاقي والمدني كذلك.. هذا الذي يجب أن يكون عليه الأمر، أما الواقع فأمر آخر تماما..
ذلك أن الرقي نحو الأفضل والذي يمكن أن نُطلق عليه كلمة الاهتداء، ليس لازما من لوازم العلم أبدًا، أي أنك لن تجد في المُحصِّلة دوما أن العلم يقود للأفضل دومًا، بل في الغالب يقود للأسوأ إذا لم ينضبط بضوابط إلهية حاسمة؛ إذ إن الطبيعة البشرية الخاصة لا يمكن توقع مخرجاتها ونتائجها بعد تلقيها العلم النافع، فالإرادة الحرة للإنسان تجعله يلج مفاسد يعلم أنها ممنوعة كما يجتنب بملء إرادته مصالح يعلم أنّها مطلوبة، وهذا من أخطر ما يمكن أن يقع فيه الإنسان وهو عين ما شنّعه ربنا في وصفه لصنيع الرجل الذي علم وعمل بنقيض عمله وانسلخ من علمه وخلعه خلع المعطف الذي ينبذه غير المكترث أرضا ثم يمضي، فقال سبحانه: ﴿وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ الَّذي آتَيناهُ آياتِنا فَانسَلَخَ مِنها فَأَتبَعَهُ الشَّيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوينَ﴾ [الأعراف: ١٧٥].
وتثبيتنا للحقيقة السابقة، لا يُفهم منه بطبيعة الحال الخروج بحكم شرعي عام حول الأنمي بقولي إنه حرام مثلا، فهذا مما يتورع عن الخروج به فحول العلماء الذين يخشون التقوُّل والكذب عن الله سبحانه، فالحكم الشرعي في قضايا النوازل بمثابة التوقيع عن الله سبحانه، إلا أنّ ما سبق تأكيدٌ لعدم سلامة الأنمي في الجملة من المخالفات الشرعية متفق على تحريمها، وأقرب مثال على ذلك الإباحية وتعمد إقحامها في أنميات الشونن-Shōnen التي تستهدف الأطفال ما بين 14 إلى 18 سنة والتي يكون مدارها على الأكشن والمغامرات والقتال.
لا يغيبنّ عن عقلك.. ثمة مقدمة مغلوطة
يرى البعض أن الشرع كلما حرم شيئا يلزمه تقديم بديل عنه؟ فهل نُسلِّم بهذه المقدمة أصلا؟
هذه المقدمة لا يُسلّم لقائلها بها لأن الدليل العقلي يفرض على الإنسان المؤمن بالله واجب الوجود، الإله المطلق، خالق الكون، الذي تواصل مع البشر عن طريق الأنبياء لتبليغهم المقصد من خلقهم، وتبليغهم ما يريده منهم، يوصل الإنسان إلى نتيجة مفادها أنه مفتقر للمطلق عاجز أمامه في حاجة دائمة له، وهذه الحقيقة البرهانية ليست إلا تأكيدا لشعور فطري كان يجده الإنسان في نفسه قبل دخوله غمار البرهان الفلسفي على وجود الخالق.
وكون هذا الإنسان مفتقرا للمطلق يحيل إلى لزوم طاعته والاستسلام والانقياد والتسليم له من منطلق الإيمان بالعلم المطلق والحكمة المطلقة لخالق الوجود، دون الحفر في علل وأسباب تشريع خالق الوجود للأحكام الشرعية حتى لا يضعف الانقياد له بالتعلق بالأسباب الذي يؤدي عند الكثيرين إلى الاستهانة بأمر الحكم الشرعي.
ولا ينبغي أن يكون البحث في علل الأحكام إلا في إطار ما يخدم الانقياد وتحقيق المقصد من الحكم الإلهي وهذا يدخل فيما يُعرف بعلم مقاصد الشريعة الإسلامية.. كما أن مطالبة الشارع بالبديل عند كل حكم لم يُعجب المتلقي البشري الممتَحن في هذه الدنيا بامتحان الانقياد والتسليم لله، يجعل المتلقي هنا غير منقاد لأمر الله سبحانه، مع كون التسليم والانقياد هما مدار دين الإسلام المشتق من التسليم.
كما أنّ دليل الشرع يدل أنّ الإنسان لا يملك حرية تغيير الحكم الشرعي في فعل ما يريد عندما يَرِد الحكم الشرعي القطعي، وإلا كان عابدا لهواه متبعا لرغباته ونزواته الشخصية مسلِّما لها من دون الله، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَما كانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمرًا أَن يَكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالًا مُبينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦].
كما يتجلى التسليم في أعلى درجات الكمال عند سيدنا إبراهيم ﷺ في طاعته لأمر الله تعالى له بذبح ابنه رغم دواعي عدم التسليم التي لو توفرت لغيره لترك الانقياد:
الداعي الأول: أن هذا الأمر جاء بصورة من صور الوحي أقل وضوحا من غيرها وهي الرؤيا، فصور الوحي متعددة منها مخاطبة الله تعالى لأنبياه، ومنها مخاطبة الملَك للنبي بصورته الملائِكية، وكذلك مخاطبة الملَك للنبي بصورة بشرية يراه وحده أو يراه معه الناس، ومنها أيضا الدخول في حالة وحي داخلية تبدأ بسماع صلصلة جرس وتنتهي بفتح النبي لعينيه وهو في حالة وعي كامل وقد كانت هذه الحالة هي أشد صورة من صور الوحي على رسول الله ﷺ، و حالة أخرى يجد فيها النبي علما بشيء في نفسه لم يكن يعلمه من قبل بعد نفث جبريل في روعه، وكل صور الوحي السابقة واضحة في ما جاءت من أجله لا تحتاج معها إلا مؤكدٍ آخر، أما الرؤيا وهي صورة أخرى من صور الوحي عند الأنبياء وهي وحي لا أضغاث فيه، فلا يخفى على من قارن صور الوحي هذه أن الخطاب الإلهي يكون مباشرا أكثر في الصور التي قبل الرؤيا، إلا أن كمال تسليم إبراهيم عليه السلام لأمر ربه جعله لا ينثني عن الانقياد.
الداعي الثاني: أن إبراهيم عليه السلام بلغ معه ابنه السعي، أي وصل العمر الذي يعمل مع أبيه فيه ويقضي له حوائجه، مما يزيد الأب تعلقا بابنه، ولم يثن ذلك إبراهيم ﷺ عن الانقياد لأمر ربه.
الداعي الثالث: الأسئلة التي سرعان ما تزدحم على ذهن خفيف التسليم من قبيل ما الذي سيستفيده الخالق من ذبح صبي صغير؟ أين الرحمة الإلهية؟ أين الحكمة؟ أين العدل؟ أين أين..؟
كما أن أمرا آخر يتعلق بواقع الأحكام الشرعية، فالمتأمل فيه لا يجد أن الحكم الشرعي إذا جاء بصيغة التحريم فإنه يكون ملتصقا بالبدائل فلا يصح القول إن الإتيان بالبدائل في المحرّمات واجب محتّم، وإلا فمن يقول مثلا بأن عصير البرتقال بديل عن الخمر المحرم؟
هل الشرع الإلهي يفتقر إلى البدائل؟
وضح الله تعالى لعباده أنّ من مقاصد الشريعة الإسلامية، مقصد رفع الحرج فقال سبحانه وتعالى: ﴿ما يُريدُ اللَّهُ لِيَجعَلَ عَلَيكُم مِن حَرَجٍ﴾ [المائدة: ٦] وقد ورد بيان هذا المقصد في الآية نفسها التي ذكر فيها ﴿وَإِن كُنتُم مَرضى أَو عَلى سَفَرٍ أَو جاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الغائِطِ أَو لامَستُمُ النِّساءَ فَلَم تَجِدوا ماءً فَتَيَمَّموا صَعيدًا طَيِّبًا فَامسَحوا بِوُجوهِكُم وَأَيديكُم مِنهُ ما يُريدُ اللَّهُ لِيَجعَلَ عَلَيكُم مِن حَرَجٍ وَلكِن يُريدُ لِيُطَهِّرَكُم وَلِيُتِمَّ نِعمَتَهُ عَلَيكُم لَعَلَّكُم تَشكُرونَ﴾ [المائدة: ٦].
والمقصود باختصار أنّ التيمم بديل ورخصة عن الوضوء -على رأي من يقول بأنه رخصة- في حال انعدم الماء حقيقة أو حكما أو لعذر المرض وغيرها من الأعذار التي يجدها طالبها في مظانها من كتب الفقه الإسلامي.
وكثيرا ما تأتي البدائل في الإسلام عن العبادات التي تعذر تحققها، ويشار إلى هذه البدائل في الاصطلاح الأصولي بالرُّخص، بينما يشار إلى الحكم الأصلي بالعزيمة، فقضاء الصوم رخصة لمن عجز عن الصيام لعذر مرض أو سفر وهلم جرا..
إذن ففقه البدائل أمر حاضر في الشرع الإسلامي بلا شك، وفي أبواب واسعة من أبواب العبادات، وهذا ما يفسر النَّفَسَ الفقهي الرُّخَصِي -إن صح التعبير- عند علماء الإسلام الذين يبحثون عن الرخص للمستَفْتِين السائلين عن حكم الشريعة بُغية التيسير عليهم سيرا على هدي النبي ﷺ وعملا بأمره ﷺ بالتيسير على الناس.
هل يلزم الشرع الإتيان بالبدائل في أمور الترفيه؟
قد تتدخل الشريعة ببديل مباح في أمور الترفيه إذا كان فيها ما يُستنكر، إلا أنه لا يلزمها الإتيان دائما بالبدائل المسموح بها شرعا لكون باب الترفيه من الأبواب الواسعة والمتجددة في الزمان والمكان، فهو مجال واسع للإبداع البشري لم يقيده الشرع إذا كان في إطار المباح.
كما أن الترفيه أصلا ليس من القضايا التي جاء الأنبياء ليشغلوا أنفسهم بها بدل نشر التوحيد في الآفاق، وتعريف الناس بخالقهم، وإصلاح الفساد المنتشر في أزمنتهم، والتعليم والتزكية، وإقامة الحجة على الناس بالتبشير بالجنة والإنذار من النار..
إن الترفيه إذن من أمور الدنيا المباحة ما دامت تحترم الضوابط الشرعية، والشرع لا يقيدها إلا إذا بدى له فيها قفز إلى جهة الممنوع شرعا، وقد قال رسول الله ﷺ في قصة تأبير النخل أنتم أعلم بأمور دنياكم.. وما أحلى الترفيه إذا كان يخدم قضايا الأمة الإسلامية، وينطلق من ثوابتها وأصولها باعتبارها ركائز يبنى عليها الترفيه.
إن مركزية الترفيه في حياة الناس اليوم، جعلت الكثير من أصحاب المشاريع الكولونيالية والليبرالية والجندرية وحركة العصر الجديد وغيرها يستثمرون في منصات الترفيه العالمية لإنتاج أفلام وأنميات تخدم تلك المشاريع، فهوليود مثلا كانت داعمة للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين، حيث صدرت عشرات من الأفلام التي تكرس الهجرة إلى أرض الميعاد في العشرينات والثلاثينات، كما حملت على عاتقها مهمة الترويج المجاني لنشوء هذه الدولة وإظهارها في صورة الحمل الوديع المحاط بقطيع من الذئاب، أثناء الإعلان عن قيام دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948، ثم تتكثف جهود هوليود لدعم إسرائيل مع اندلاع حرب 1967، ويعطي أحمد دعدوش في كتابه ضريبة هوليود أمثلة عن أفلام أنتجتها هوليود تخدم هذا الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، كما يبيِّن إلى أي درجة خدم اليهود قضيتهم من خلال ما يُشاهده الناس على أنه ترفيه، وإلى أي درجة خان البعض قضيتهم من أجل النجومية والظهور في فلم من أفلام هوليود ولو تطلب الأمر الإساءة إلى دين وهوية وثقافة الشعوب التي ينتمي إليها..
فلم لا تكون ممن يسعى ليأتي بالبديل في سبيل خدمة قضايا أمته، بدلا من محاولة كبح أي صوت ناقد ومنبه.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!