الإعلام والحرب على الفطرة!

image_print

هي الفطرة، نور يشترك فيه كل من خصّه الله بأن يكون خليفة على هذه الأرض، فمنهم مصلح ومنهم ظالم لنفسه مبين، تلك الفطرة التي صبغت طباع الناس وتصرفاتهم، وحملت المؤمن على إيثار كل ما يُحمد فعله من صدق وأمانة وحب الفضائل، وجعلته يمقت كل قبيح مذموم الاتصاف به من كذب وخيانة وجور وغش.

أنوار شعَّت

هي أنوار متجذرة في كل نفس، بل في كل مولود يجيء إلى دنيا البشر كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء) [أخرجه الشيخان في صحيحيهما]، والفطرة هنا كما أشار جملة من المحدثين والمفسرين يقصَد بها الدين.

وبالرجوع إلى أصل كلمة الدين عند العرب، فإننا نجدها تشير إلى العلاقة بين طرفين يعظم أحدهما على الآخر؛ فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعًا وانقيادًا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرًا وسلطانًا! [الدين، نشأته، والحاجة إليه، أحمد عبد الرحيم السايح] وبالتالي يكون الرباط الجامع بينهما هو: الدستور المنظم لتلك العلاقة.

الدين كما يرى الأستاذ عبد الكريم خطيب هو: صلة شخصية روحية بين الإنسان والإله، وبين السيد وربه، بل إن كثيرًا من العلماء غير الإسلاميين -مثل سيسرون- يرون أن الدين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله، ويعرف شلاير ماخر الدين بأن “قوام حقيقته، شعورنا بالحاجة والتبعيّة المطلقة”، وهذا مهمٌّ للغاية، فطبيعة الإنسان فيها استعداد فطري لمعرفة الله، وهذه الفطرة مستأصلة في الإنسان و موجودة منذ الأزل في أعماق روحه.[د.سامي عفيفي، العلاقة بين العقيدة والأخلاق في الإسلام].

الوحي والفطرة

مهما نأى الإنسان عن منهج الله، فلن يتمكّن من تبديل فطرته -دون تدخّل خارجي- فالله جل وعلا أودع فيها الالتجاء إليه، فهي فطرة تجعله عاجزًا عن الوقوف وحيدًا في هذا العالم دون الاعتقاد بوجود قوة أو ذات أكبر منه، قائمة على أمره، مدبرة لتفاصيل حياته وشؤونه دقيقها وجليلها، حتى إن تظاهر بالقدرة على الصمود فالخلوة فاضحة كاشفة لأمره!

إنّ الفطرة السليمة –إذًا- هي التي  تقر بأن للإنسان والوجود كلّه خالقًا، وأنّ خالق هذه الفطرة جلّ وعلا هو مُنزِل الشريعة، فكلاهما من صنع الله، وكلاهما متناسق مع ناموس الوجود، موافق للآخر في طبيعته واتجاهه. بحيث تلقى النصوص القرآنية والتشريعات المتضمنة فيها صداها في وجدان البني آدم؛ إذ إنّ الشرع يخاطب فطرة الفرد.

لم يكِل الله تعالى الإنسان إلى فطرته وحدها للتعرف عليه وأداء واجبه تجاهه، لما قد يعتريها من ضعف وتقلّبات، ولما فيها من ميل لمتطلبات تلح على الإنسان لإشباعها بأي وسيلة كانت، ومن ثمّ فقد أرسل رسله تترا إلى البشرية مبشرين ومنذرين ليبلغوهم أوامر ربهم ونواهيه. فكان الوحي هو الحبل الموصول المتين من الباري جل وعلا الذي يوطن النفس على ما جاءت به الفطرة.

إذًا؛ فإن منظومة استجابة العبد لتعاليم ونظم الدين تتشكّل من عنصرين يؤدي الخلل في أحدهما إلى خلل بالضرورة في المنظومة برمتها؛ أولها: الفطرة، فالفطرة هنا يمكن تمثيلها بالمستقبل الحسي أو الوعاء المهيأ لاستقبال ما يملأه، أما الثانية، فالوحي الذي هو بمثابة السائل أو الزيت المناسب لحصول الاستجابة أو التفاعل –أي الإضاءة-.

وفي هذا السياق يقول د. أحمد عبد المنعم –في تصوير مرئي له– أن هذا من معاني قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]؛ فالمشكاة هنا هي الفطرة والزيت هو الوحي، فالنور الأول هو نور الفطرة، والنور الثاني هو الوحي.

وهذا يقودنا بالضرورة إلى القول بأن استنكار الشرع وعدم القدرة على استيعابه هو خلل طارئ في الفطرة وبالتالي خلل في منظومة الاستجابة ككل؛ وبالتالي فإن أي خلل في الفطرة يؤدي إلى خللٍ في القدرة على استيعاب الشريعة.

[هل تحسون فيها من جدعاء!]

إن الرجوع إلى حديث الفطرة في قوله عليه الصلاة والسلام (هل تحسون فيها من جدعاء)، يحيلنا إلى الإقرار بأن تمام سوية الفطرة مرتبطٌ بصلاح توجيهها واختيار الأرض المناسبة لتنمو شجرتها وتؤتي ثمرها الطيب؛ فالبهيمة الجمعاء هي نفسها بعد شق أذنها غَدَت جدعاء لما طرأ عليها من تغيير شوّه خِلْقتها.

والرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم هنا ربط بين عقيدة الطفل الذي يولد على الفطرة، وتغير خلقة البهيمة بتشويه أذنها، والأذن كما هو معلوم هي العضو المسؤول عن السمع الذي يشكِّل بابًا لمدخلات كثيرة تحدث في النفس البشرية من التبديلات بحسب ما فيها من صلاح أو غثاء، وأولى هذه المدخلات يبزغ بين أحضان اللبنة الأولى التي يعيش فيها الطفل ويترعرع داخلها ألا وهي الأسرة، أي منشأه –بصورة عامّة- بين أبويه، فإما أن يتمّ تثبيت ما جاءت به الفطرة السليمة، وإما أن يعاد تشكيل الخطأ والصواب، والحق والباطل عنده. إذ قد تصبح جملة من الرذائل أمرًا هيِّنًا مقبولًا ومحبوبًا، كالكذب والغش والبغي وغيرها من الصفات التي كانت قبل وقت قصير مذمومة! فنجد في المحصلة أنّ الفطرة منتكسة بعدما عاثت فيها أيادٍ بغير علم ولا هدى.

توجيهُ الإعلام: ترفيهٌ أم سمّ؟

جاء في الصحيح: عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لمّا صوّر الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خُلِقَ خَلْقًا لا يتمالك) [أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، الرقم: 2611].

إنه إبليس، عدوّنا الأول على هذه الأرض، عدوٌّ قَطَع على نفسه وعدًا منذ بدء الخليقة بأن يجعلنا حطبًا لنار جهنم، بل إنه منذ إنشاء آدم وقبل نفخ الروح فيهكان مهمومًا بهذا المخلوق، وأشد فزعًا مِن الملائكة منه، فيمر عليه ويطوف به –كما في الحديث الصحيح آنف الذكر- فيختبر كينونته ويكتشف خصائصه، وكان يضربهُ فيصوِّتُ الجسد كما يصوت الفخَّار، يكون له صلصلة، -بحسب ما ورد في قصص الأنبياء لابن كثير-  فلما رآه أجوفَ، قال للملائكة: (لا ترهَبوا من هذا؛ فإن ربَّكم صَمَدٌ، وهذا أجوفُ، لئن سُلِّطتُ عليه لأهلكنَّه)، أي أن إبليس أضمر -منذ البداية- عدم القبول بأي أمر يكون فيه رفعة لمنزلة هذا المخلوق الجديد، وهو ما حصل بعد أن أبى السجود لآدم استكبارًا وعلوًّا في نفسه.

فأخذ يطيف به

إنها إشارة لنفي العشوائية في طُرق إبليس للتضليل، فهو يقوم بدراسة عدوه دراسةً تمكّنه من الإحاطة بمواطن الضعف، ليسهل عليه اختراقها أو منع وحجب موارد ومصادر قوته المتمثل في الوحي، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ} [البقرة: 123].

لقد اختلفت طرق إبليس وتعددت وسائله في إضلال بني آدم، إلا أن همّه الأوحد هو سَلْب هذا الوحي منهم، وهو الأمر الذي وعد الله بعدم تحققه، كما في قوله عز وجلّ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}. [البروج: 21-22].

فكيف السبيل إذن لبلوغ الهدف؟

لنعد قليلًا إلى منظومة الاستجابة -الفطرة والوحي- التي أتينا على ذكرها، لنحاول ربطها بما تقدم ذكره من شق آذان البهيمة!

وأحسب أن الصورة باتت واضحة الآن، فالشيطان وجنده إذا ما عبثوا بأحد عنصري هذه المنظومة تمكّنوا من بلوغ ما يصبون إليه، فيكون الإعلام الفاسد على هذا النحو هو أنجع سبيل، بل هو أقصر السبل للإضلال ومسخ الفِطرة وتنفيذ خطة إبليس!

وبالرغم من موجات التطاول على النصوص القرآنية التي نشهدها حاليًّا، ومحاولات ليّ عنق الآيات بما يتناسب مع الأفكار الوافدة والدخيلة، إلا أنها تبقى طريق شاقة لا يسلكها إلا كل ذي عزم وهمة عالية في تطويع الوحي الصريح. والأيسر على هذا النحو إذًا يكون بتخريب المستقبلات الفطرية وتشويهها، بحيث يغدو المآل هو رفض هذا الإنسان-المشوّه الفطرة- نفسه للشرع وما جاء به!

وهو الدور الذي لم يألُ الإعلام جهدًا للوصول إليه، فتفريغ النفس من الفضيلة يجعلها تبحث عن الإشباع بشتى الطرق لسد حاجتها وجوعها، فتغدو الأنفس كأيادٍ ممدودة تنتظر من يشدُّ عليها ويملأها برغائبها. وهنا يأتي لها الإعلام بالغذاء الفاسد من كل حدب وصوب فيعيد تشكيل قيمها ومبادئها، وما هي إلا شيئًا فشيئًا حتى يحصل التطبيع مع شاذ الأعمال والصفات التي لا تقبلها الفطر السليمة، مقابل استنكار تعاليم الشرع الذي جاء به الوحي!

هي حرب بدت بوادرها حتى في أول لحظة من بعثة النبي، إذا سلك كفار قريش ومشركوها-الإعلام- ذات السبل، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].

نتفليكس نموذجًا للانحلال الفطري والعقدي

شبكة نتفليكس، التي تسوق لمنتجاتها في قالب “المحتوى الترفيهي!” في مسلسل لها لقي حظوة وشهرة كبيرة في أوساط الشباب خاصة، أي  Dark، حيث عملت على استغلاله لطمس فطرة المشاهد  وجعله ينسلخ شيئًا فشيئًا عن قيمه ومعتقداته، وبالتالي الانسلاخ عن هويته، حيث” استغلت فكرة السفر عبر الزمن لتظهر أن شذوذ النساء –أي السحاق- منتشر في المجتمع منذ خمسينات القرن الماضي، وتظهر على سبيل المثال بطلي المسلسل يبكيان لأنها لن يستطيعا الاستمرار سوية، بعد اكتشاف البطل أن حبيبته هي عمته، وأن حبهما سيتحطم بلا حول منهما ولا قوة، فلن تملك إلا التعاطف معهما ومَقتِ ما أدى لانهيار حبهما.” [من مقال: مسلسل DARK.. “هكذا خُلق العالم”!، هادي صلاحات].

أرأيتَ شدة هذه العبارة، “ومقت ما أدى لانهيار حبهما”! فههنا مربط الفرس، فأنت أيها المشاهد تحت سطوة العاطفة، والفراغ العقدي، وبالتالي فإنك ستمقت أي تشريع يفضي لنهاية تعيسة حزينة من هذا القبيل، وبالتالي مقت التشريعات الإلهية، ورفضها عن طيب خاطر منك!

فلو جئت اليوم بذات الشاب-بعد مسخ فطرته- الذي استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالزنا، وخاطبت فطرته كما فعل عليه الصلاة والسلام بأن تقول له: (أترضاه لأمك)؛ لردّ قائلًا: وأين العيب والعلة في ذلك، فالكلُّ حر فيما يفعل!.

وأنصح بمشاهدة هذا الفيديو الذي يوضح بشكل تفصيلي مدى خبث شبكة نتفليكس وإظهارها بمظهر البراءة، وهو من إعداد وتقديم الأستاذ أحمد دعدوش:

هذا وأختم قولي بما قاله ابن القيم رحمه الله: “أرض الفطرة رحبة قابلة لما يغرَس فيها، فإن غرست شجرة الإيمان والتقوى أورثت حلاوة الأبد، وإن غرست شجرة الجهل والهوى فكل الثمر مرّ”! [الفوائد، ابن القيم، ص:50]

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد