“الإسلام حبٌّ وسلام” .. فكيف يستقيم أن نغضب ونقاطع؟
بعد إساءة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للنبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم وظهورِ حمية المسلمين وغضبهم نصرةً لنبيّهم، ظهرت دعوات تندّد بحملة الغضب من الداخل الإسلامي وترى تجريمَ الحماسِ للنبي عليه الصلاة والسلام وترفض الخروج بمسيرات الرفض أو الدعوة للمقاطعة بحجة أن ديننا “حبٌّ وسلام وإخاء”، وأنّ نبيّنا عفا عمّن أساء إليه وتجاوز عنهم، ولبّى أمر ربه بالصفح الجميل.
يقولون: لو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بيننا لقال للمسيئين “اذهبوا فأنتم الطلقاء“، ولذا ليس من حقنا نحن أن ننكر عليهم!
فما الموقف من هذا الخطاب؟
هل صحيحٌ أنّ ديننا يأمرنا بالعفو والتجاوز والإعراض عن المسيئين في مثل هذه المواقف؟ وهل صحيح أنّ النبيّ الكريم صلّى الله عليه وسلّم عاش حياةً كاملة سِمَتها العفو والصفح والتجاوز فقط؟ وما هي مآلات هذا الخطاب وأخطاره على الجيل الناشئ؟
السيرة في ظل الإنسانوية
ينبغي للرد على الخطاب أعلاه أن نوضّح إشكالًا كبيرًا نواجهه في أيامنا هذه، وهو الانبهار بقِيَم الغرب وتقديمها على أصول الدين ومركزيّته، مما يجعل النظر إلى معطيات الإسلام، محصورًا في ضوء ما تقدّسه الحضارة الغربية التي لها أن تقبل أو ترفض منه ما تريد.
ومن أهم قيم العالم الغربي اليوم: الإنسانوية، وهي إعطاء المركزية للإنسان فوق كل مردٍّ آخر وجعله المنطلَق والغاية، بحيث تكون لذته وراحته وخيريّته هدفًا لكل عمل وجهد[1]؛ وبذلك فقد تحوّل العقلُ الإنساني إلى معبودٍ جديد وإلهٍ أرضيٍّ بديلٍ عن الإله العالي، وصار الإنسان وحده مقياسًا لكل شيء ومسوِّغَ وجودِه وغايته[2].
وبالرغم من أنّ الإنسانيّة تحتوي معاني نقبلها ونتفق عليها كحبّ البشر والإحسان إليهم، إلا أنّ الإشكال يكمُن في المغالاة بنزعة الإنسانويّة وجعلها المنطلق والأساس، فهي ترى الأمور كلها بمعيار هذا المخلوق الضعيف البشري المحدود وتتجاهل سلطة مولاه جلّ وعلا.
في هذا السياق لا بدّ من التأكيد على أن تحديد الخير والشر في الإسلام مبنيٌّ على مدى رضا الله أو عدمه، فالقصاص الذي فيه قتلٌ –مثلاً- خيرٌ في مضمونه؛ لأنه استجابةٌ لأمر الله ونصرٌ للمظلومين وحفظٌ للعدل ونشرٌ للأمان في الأمة.
إنّ مضامين الخيريّة لا تبنى على رضا البشر أو سخطهم، وإنما غايتها تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى كما يريد؛ ومن ثَمّ فإنّ قراءة السيرة بمنظور نزعة “الإنسانويّة” المجرّدة دون اعتبار أمر الله جل وعلا، فإنه سيقتطع صورًا من حياة النبي دون أخرى، كما سيسلّط ضوءًا معينًا على بعضها دون غيرها، ممّا يعطي نظرة ناقصة مائلة عن الصواب.
وهذا ملاحَظ في حديث من لا يذكر من السيرة إلا مؤاخاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار وعفوه عن مشركي قريش وتجاوزه عن إساءة عبد الله بن أبي بن سلول، بينما يغضّ الطرف عن حزم النبي صلّى الله عليه وسلّم مع بني قريظة وإهداره دم أربعة من المشركين بعد الفتح وخروجه لقتال الروم، رغم أن ذلك كله ثابتٌ في الروايات الصحيحة.
ينبغي لقراءة حياة النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام الجمع بين المواقف المختلفة والمصالح التي راعاها النبي فيها لنُولِّدَ صورة متكاملة عن شخصية أسوتنا الحسنة ونهجه عليه الصلاة والسلام.
قف عند رحمة النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعائه للمشركين بالهداية وميله للعفو عند المقدرة والإحسان للخلق، وقارن ذلك بموقفه حين لم يرضَ أن تُضعف صورة الإسلام، أو تنسب الذلة لأمته، حيث أمر عليه الصلاة والسلام بمهاجمة قافلة أبي سفيان العائدة من الشام انتصارًا للمهاجرين المظلومين، ممّا أدى لغزوة بدر المشهورة، وأمر حسان بن ثابت رضي الله عنه بالرد على من سبّه، وقال له: “إنَّ رُوحَ القُدُسِ لا يَزالُ يُؤَيِّدُكَ، ما نافَحْتَ عَنِ اللهِ ورَسولِهِ” (أخرجه مسلم).
بين العفو والمهانة
بعد أن أسّسنا لأهمية القراءة الشاملة للسيرة، من الضروري أن نفرّق بين مفهومين يتمّ الخلط بينهما في سياق خطاب من يدعو إلى تجاهل إساءة المسيئين وتجاوزها، وهما: العفو والمهانة.
إن مقولة “العفو عند المقدرة من شيم الكرام” جميلةٌ للغاية، وتدور حول من يسيء إليك من تقدر على عقابه فتعفو عن حقك عنده تكرمًا وتنازلاً.
يقول ابن قدامة المقدسي: العفو أن تستحقّ حقًّا فتسقطه، كعفو عمر بن عبد العزيز عن الرجل الذي سبّه في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم[3]، وضحكه صلّى الله عليه وسلّم للأعرابي الذي جذبه من ردائه حتى احمرّ منه عاتقه (أخرجه البخاري)، وهذه من الصفات الحميدة التي يجاهد المرء نفسه عليها تقربًا إلى الله، فهو تبارك وتعالى الذي دعا أبا بكر ليعفو عن الذي شارك في قذف ابنته أم المؤمنين رضي الله عنها ويتابع نفقته عليه { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النور:22].
إنّ هذه المعاني العظيمة المحبّبة لا تشبه البتة الذل والمهانة التي تحصل حين يسيء إليك ظالمٌ متجبّر لا تقدر على ردّه أو أخذ حقِّكَ منه، فتسكت مُضطَّهَدًا ثم تتظاهر بأنك اخترت هذا السكوت من نفسك، وقد قال ابن القيم في هذا: فرقٌ بين من حلمُه ذلٌّ ومهانة وحقارة وعجز، وبين من حلمه اقتدارٌ وعزة وشرف.
وكما قيل من قبلُ:
كل حلمٍ أتى بغير اقتدار حجةٌ لاجئ إليها اللئام[4]
لقد مدح الله تبارك وتعالى المسلم المنتصر ممن ظلمه {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39]، يفسر الإمام ابن كثير هذه الآية بأن المقصود أولئك الذين فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، فهم ليسوا بعاجزين ولا أذلة، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا، كما كان حال يوسف عليه السلام حين قال لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} [يوسف:92]، فإنه مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه.
وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: حمد الله عباده على أنهم ينتصرون عند البغي عليهم، كما أنهم يعفون عند الغضب، ليسوا مثل الذي ليس له قوة على الانتصار، وفعله لعجز أو كسل أو وهن، أو ذل، أو حزن. فإن أكثر من يترك الانتصار بالحق إنما يتركه لهذه الأمور وأشباهها. وليسوا مثل الذي إذا غضب لا يغفر ولا يعفو، بل يتعدّى أو ينتقم حتى يُكَفّ من خارج، فحمدهم على أنهم هم ينتصرون وهم يعفون[5].
ولا شك أن الانتصار لحق الله أولى من الانتصار للنفس، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغضب إلا لانتهاك حرمات الله، وكذلك قال شيخ الإسلام رحمه الله إن الذي ينبغي في هذا الباب أن يعفو الإنسان عن حقه ويستوفي حقوق الله بحسب الإمكان[6].
وأي حق لله ورسوله أعظم من مقاطعة من يسيء للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم بكل جهده ويدعم ذلك رسمياً وحكومياً؟
أما رحمة النبي وعفوه فكانا عن مقدرة واختيار، لا عن ضعف وجبن، فقد كان عليه الصلاة والسلام أشجع الناس وأشدّهم في القتال، حتى إن عليًّا رضي الله عنه -المعروف بشدته- قال: كنا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون أحدٌ منا أدنى إلى القوم منه (أخرجه أحمد بإسناد صحيح). وهو الذي قال لسعد بن أبي وقاص: ارمِ سعدُ فداك أبي وأمي (متفق عليه)، وقال: المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف (رواه مسلم).
فلا الإسلام دين سلبي جامد ولا النبي عاش حياة استكانة أو ضعف، ولا قدّس قيم ما بعد الحداثة التي يريد الناس ترويجها اليوم عبر سيرة الحبيب، لكنه كان متوازنًا حكيمًا يطيع أمر الله ويبحث عن مصلحة الإسلام والمسلمين في اجتهاده.
أما اليوم فحين تسيء دولة قوية لنبينا ونحن في حالة ضعف عام وانقسام، يأتينا قائلٌ ليقول: إن علينا الإعراض عن فعلهم والتشبّه بفعل النبي لمّا عفا عن اليهودية التي سحرته، فما علينا إلا أن نقول: شتّان بين حالنا اليوم وحال المسلمين حينها، وبين العفو عند المقدرة وبين مخادعة تخفي ذلاً وعجزًا ومهانة!
مآلات التسامح المخادع
إن عرض الإسلام على أنّه دين التسامح الدائم والسلام والمحبة المغالى فيها، له أضرار وعواقب كثيرة ينبغي الحذر منها.
فالجيل الناشئ اليوم يكبر موجَّهًا من كل آلات الإعلام لينبهر بالغرب، وليرى في رموزه قدوة لمجرد أنهم بنوا الأبراج واقتحموا الفضاء، وتعمل الآلات ذاتها على توجيهه نحو مقولات حيادية الدين وضعف أثره في الحياة، وإشعاره بأنّه واقع في ذنب عليه أن يبرئ نفسه منه، ثمّ بعد هذا كله يأتي خطاب التسامح المذِلّ ليقول له: لا حق لك أن تدفع عن نبيك ولا حتى بالكفّ عن شراء جبن أو عطر أو مستحضر تجميل!
فكيف يعتزّ هذا الشاب بدينه بعد هذا، وكيف يثبت أمام عشرات الشبهات التي تعرض له كل يوم فضلاً عن أن يكون داعيًا له؟ وكيف يتأسّى بنبيه إن كان لا يعرف إلا جزءًا يسيرًا من سيرته؟
إنّ تصوير التدين على أنه لباسٌ معين مرتبط بانحناء الظهر والمسكنة والانكسار ينتج متديّنين مهزومين لا فخر لهم بهويتهم ولا ثبات لهم عليها، وهو بالتأكيد منافٍ لنهج السلف والصحابة والنبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
لقد مدح الله عباده الذين يحبهم بأنهم {أذلَّةٍ على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرين} [المائدة: 117]، فالقوة في الحق مطلوبة لأن المؤمن القوي يُنتج ويَعمل للمسلمين وينتفع المسلمون بقوته البدنية وبقوته الإيمانية وبقوته العملية[7]، والعزة تنتج القوة التي تثبت على الإيمان وترغب فيه. ولذا دعا رسول الله ربه أن يعز الإسلام بأحب العُمَرين إليه (أخرجه الترمذي).
إن دين الإسلام متوازن ومتّزن ومتناسب مع الفطرة، لا يدعو للسكوت على ظلم ولا للانفصال عن واقع، وفيه النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن، وفيه {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]، وفيه {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، لأن الله الذي خلقنا أعلم بنفوسنا وطبائعنا وحاجاتنا وما يناسبها.
نسأله تبارك أن يؤتي نفوسنا تقواها ويزكيها هو خير من زكاها، وأن يهديها صراطه المستقيم..
والحمد لله رب العالمين.
[1] سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي، ص: 250.
[2] سلطان العميري، ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي، ص: 252.
[3] ابن قدامة المقدسي، مختصر منهاج القاصدين مكتبة دار البيان، ص: 183.
[4] ابن القيم، مدارج السالكين، دار الكتب العلمية، ج2، ص: 223.
[5] محمد بن مفلح بن محمد المقدسي، الفروع في الفقه الحنبلي، ص: 150.
[6] المصدر السابق ذاته.
[7] المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان، ج5، ص: 380.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!