اعتراضات حول الأمومة.. لا نريدك شمعة تحترق لتضيء للآخرين!
كثيراً ما تأتينا ردود صادمة عند الحديث عن تقدير الأم والأمومة، والثناء على التفرغ لتربية الأبناء، فبين من ترفض ذلك لئلا تذوب شخصيتها في البيت، وأخرى تقول إنها لا تريد أن تحصر معارفها في تربية الصغار، وأخرى تريد عملاً مؤثراً يثبت ذاتها ويسلط الضوء على إمكاناتها وقدراتها، وغير ذلك من ردود تظهِر بمجملها أن هناك خللاً واضحاً في التصور الذي يحمله كثيرون عن الأمومة وأدوار الأم في تربية أبنائها وأداء حق زوجها وكونها ربة بيتها بشكلٍ عام.
فهل المقصود من مدح الأمومة هو الدعوة إلى أن تكون المرأة شمعة تحترق لتضيء للآخرين؟ أم هل تقتضي الأمومة حصر المعارف في مجال واحد؟ وهل المطلوب من الأم أن تدور في فلك زوجها وأبنائها حتى تنسى نفسها حرفياً في سبيلهم؟ أم أنّ العمل خارج البيت يعني إثبات الذات ضرورةً، بينما البقاء فيه يساوي محوها وانعدام تأثيرها؟
إزاحة التصورات الخاطئة
مع الأسف، فإنّ كثيراً من القرّاء حين يرون كلاماً عن الأمومة يتبادر إلى ذهنهم مباشرةً كمٌّ كبير من الصور الإعلامية التي ألفوها عن الأم “التقليدية” التي غالباً ما تكون في ثوب مهترئ، شعثاء الشعر، تركض وراء طفلٍ وتصرخ على آخر ليهدأ، متعبة طوال الوقت، لا تنام إلا بضع ساعات، وجل اهتمامها هو فيما يلبسه أبناؤها وما يملؤون به بطونهم!.
هي صورة كئيبة لربة البيت التي لا تعرف من التربية إلا تأمين حاجات البقاء عند أبنائها من غذاء ودواء ونوم ونظافة ولا تعرف من الحياة إلا واجبها تجاه أسرتها، ولا تعرف هذا الواجب أيضاً إلا بصفته قائمةً طويلة من المهام المادّيّة المملّة، ولا تقضي الوقت الزائد عن ذلك إلا بتزيين البيت والتجوّل في المحالّ التجارية ولغو الحديث مع الجارات والصاحبات الذي غالباً ما يكون غيبةً للزوج أو نميمة لغيرها من النساء!
إضافة إلى ذلك فقد زرعت الثقافة الشعبية في النساء فكرة تمجيد “التضحية البطولية” التي صارت منوطة بدور الأم المتفانية، تلك التي تعتني بترتيب البيت أكثر من عنايتها بإتمام خشوع الصلاة، وتلك التي تتقن كل فنون الطبخ وتحضير الولائم، ولا تكترث بواجب طلب العلم المفروض عليها، أو إجابة ما يدور في خلدها من شبهات وتساؤلات حول وجودها وهويتها. إنها أم مثالية بنظر مجتمعها لأنها ذات أبناء مهذبين مرتبين على الدوام، بينما هي نفسها جاهلة بالسبب الذي يجعلها تنهك نفسها في سبيل إرضاء كل الناس إلا نفسها التي بين جنبيها والتي هي مناط اختبارها وسبيل نجاتها {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10].
ولنتوقّف أولاً لنقول إنه ينبغي أن نلف هذه الصور النمطية التعيسة والبعيدة كل البعد عما يريده منا خالقنا تبارك وتعالى بكل ما فيها من خداع ومزج بين الحق والباطل في حزمة واحدة ونرميها إلى مقبرة النسيان، وننظّف فكرنا وتصوراتنا عن الأمومة منها، ثم نبني فهمنا لمهام التربية ودور الأم التي جعلها الله أحق الناس بحسن الصحبة كما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأننا إن كنا لم نأت لها العالم بإرادتنا، ولم نخلق أنفسنا ولا اخترنا الزمان ولا المكان الذي ولدنا فيه، فإن العقل يفرض علينا أن نتلقى وظائف وجودنا من خالق الأكوان تبارك وتعالى لتكون الإجابات الصحيحة لدينا حين نُرَد إليه ونسأل عن عمرنا فيم أفنيناه وجسدنا فيمَ أبليناه.
خطوتان إلى الوراء
ينبغي أن نتذكر في حديثنا عن دور الأم أنها أمة لله قبل أن تكون أمّاً وزوجة، هي نفسٌ إنسانية وضعها الله في هذا الكون من أجل الاختبار كما قال جلّ وعلا {ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [النّبأ:2]، فهي تشترك مع كلِّ البشر بأنها ممتحنة في أن تؤمن الله وتتوجه إليه وتستكثر من الصالحات ما عاشت، وتشترك معهم كذلك في أصول هذا الابتلاء، من كونه متعلقاً بتزكية النفس لتقوم بما أمرها به خالقها خشيةً سخطه ورجاء رضاه وحباً له جل وعلا، والأبناء والزوج في ذلك فروعٌ عن الأصول، فهم طريق لطاعة الله والتقرب منه بكل كلمة ونظرةٍ ولحظة تقدمها من نفسها لهم، كأي مسلمٍ يجتهد في عبادة الله، ويخدم أمّه المريضة كجزء من هذه العبادة متقرباً بها إلى مولاه سبحانه.
والمشكلة في موضوع الأمومة -كما أرى- بدأت حين توقفنا عن استحضار الغيب في الأعمال الروتينية وغاب عنّا ذكر الموت والآخرة في الحياة اليومية، وصار همّ الناس محصوراً في النفع المادي الحاضر العاجل من أي سلوك، ولأن تربية الأبناء قد تعطي ثمرةً متأخّرة وقد لا تفعل (فالله يهدي من يشاء).
لقد حوّل المجتمع هدف الأمومة من كونه جزءاً من تحقيق العبودية لله إلى تحصيل المديح والثناء المجتمعيّ على ما يظهر للناس من الأعمال، وسبحان الله الذي افتتح صفات المفلحين المهتدين في سورة البقرة بإيمانهم بالغيب وختمها باليقين بالآخرة الذين ينبني عليهما تحديد أولويات المرء ومن ثمّ الأعمال التي تشغل جدوله اليومي، قال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:2-5].
فالأمومة إذن لا تنحصر في مهام مادية بسيطة، بل تتعداها إلى أداء حق النفس من حيث تزكيتها وتعليمها وفهم هويتها وغايتها والترويح عنها لتتمكن من طاعة ربها وتمثيل القدوة السعيدة المطمئنة لأبنائها، وإعطائهم من عاطفتها وفائض نفسها، ولئلّا تتعلّق بهم بشكلٍ مرضيٍّ يغلب عليها ويتعبها، إضافة إلى ذلك فهناك تربية هؤلاء الأبناء، وقد شرح د. إياد قنيبي مكونات التربية في الفيديو المعنون “بس تربية؟”[i]، حيث وضح أنها تعني بناء الإنسان الذي يعمل لتحقيق العبودية بمفهومها الشامل لصلاح الدنيا والآخرة. وهناك كذلك القيام بحق الزوج الذي جعل الله السكينة والمودة والرحمة التي تجمعه بزوجه من آياته تبارك وتعالى في الدنيا. فهذه هي الوجوه الثلاث التي ينبغي أن نرى الأمومة من خلالها، وهي ثلاثتها تنضوي في مفهوم عبادة الله تبارك وتعالى والنجاح بالامتحان الذي وُضِعْنا فيه، وذلك تطبيقاً لكلمة سلمان الفارسي رضي الله عنه التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم (إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعطِ كل ذي حق حقه) -أخرجه البخاري-.
ماذا عن تحقيق الذات؟
هل من الممكن أن تقوم المرأة بكل ذلك ثم لا تشعر بتحقيق ذاتها؟ هل يمكن أن ترى أنها في كل لحظة تملأ ميزان حسناتها عند الله تبارك وتعالى وتزرع بذوراً لمجتمع أفضل، ثم تحس بأنها إنسانة ناقصة لا شخصية لها؟ وإن كانت تشعر بذلك فعلاً، فهل ستجد الحل لذلك في مجرد وظيفةٍ خارج بيتها؟
الحقيقة أن للعمل عدة جوانب إيجابية، وقد يكون ضرورياً بالنسبة لكثير من الأمهات في عالم اليوم، لكنه وبلسان معظم الموظفين لا يقدم إجابة لقضية تحقيق الذات، بل إنه يصعب إيجاد تعريف منضبط لتحقيق الذات، لكن الأكثر رواجاً له هو التعبير الحر عن النفس وإحداث التغيير، فمعظم الموظفين يعملون في جداول روتينية محصورة في تنفيذ رؤية إدارة الشركة وتكرار ذلك على أيام الأسبوع ومن ثم الشهور ليتقاضوا مرتبات يدفعون بها أجرة بيوتهم وفواتيرها، ولا يتاح لهم في ذلك إبداء رأي أو إحداث تغيير، وهذا ما تثبته الإحصاءات، فقد وجد تقرير بيانات لـGallup أن 13% فقط من الموظفين حول العالم يحبون الوظائف التي يعملون بها، ويستيقظون متحمسين للقيام بها كل صباح![ii]
وليس المقصود من ذلك النهي عن العمل خارج أو الدخول في فتوى حله أو حرمته، إنّما فصل مفهوم الوظيفة عن مفهوم تحقيق الذات، وتوضيح أن الأم التي تعرف ما لها وما عليها وتقوم به تكون محققة لذاتها وإن لم تتقاضَ على كل فعلها فلساً واحداً من أحد، فلكلّ امرأة ظروفها وقدراتها وحاجاتها التي تعرفها هي من نفسها، وليس في الأمر منافسة ولا سباق مع أحد، إنما هو طريقٌ إلى الله يسلكه كل منا بحسب ما يمكنه.
إذًا لا توجد قائمة مهام شاملة وافية تسري على كل الأمهات إن حققنها تيقنّ رضا الله عنه، لكنها خطوط عامة من الأولويات والأساسات التي تنظر لكل شيء على أنه جزء من العبودية لله، وهذا ما نلمسه في الاختلاف الذي وجد في نمط حياة الصحابيات اللواتي منهن من كانت تعمل في حقل زوجها وتساعده، ومنهنّ من كانت تبقى في بيتها مع بنيها، ومنهن من كانت تخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد، ومنهن من كانت تعلم النساء القراءة والكتابة، وهكذا..
ثم ماذا؟
بعد أن قررنا أن هناك نظرة مجتمعية خاطئة تجاه الأمومة وظالمة في التعاطي مع مستحقاتها ومفهومها، وأن هناك ترسبات وعوالق كثيرة في النفوس حول هذا الموضوع، نجد أنفسنا –نحن الأمهات- أمام خيارين: أولهما أن نعيش دور الضحية، فنختلق الأعذار، ونعيش مع الذكريات، ونضيع العمر في ذم الزمان السيء الذي ولدنا فيه، ثم نأتي يوم القيامة وقد فرّطنا بفرصتنا الوحيدة في النجاة الأبديّة -معاذ الله من ذاك الخسران العظيم- أو نلجأ للخيار الثاني حيث بإمكاننا التوقف والتفكر في أن الموت قد يأتي في أي لحظة، وفي أننا سنأتي يوم القيامة أفراداً لا يمكننا لوم أحدٍ على أعمالنا، ولا تعليق أخطائنا بغيرنا، فنفهم أننا أفراد من هذا المجتمع نملك القدرة على تزكية أنفسنا وتربية جيلٍ متحرر من جاهلية المجتمع وإعلامه الذي تعرضنا نحن لها.
ولا ننسى نهايةً أن ننبّه إلى أن دور الأمومة جزء من مسؤولية رعاية البيت التي تتشاركها الأم مع الأب، فمن الضروري أن يعلم الرجل عِظَم المسؤولية التي أوكل الله إليه، فيطلب ما لا يسعه جهله من العلم المتعلّق بتربية الأبناء في واقعه، ويستشعر حاجة زوجته لدعمه وتقديره أمام سيل المادية والنسوية والشبهات الذي يواجه ثباتها على ثغرها، فالرجل راعٍ في البيت قبل المرأة، وهنا تبرز حاجتها لقوامته وولايته وحمايته لتوجّه الأسرة وتركيزها على هدفها الثابت وهو تحصيل رضا الله وجنته تبارك وتعالى.
[i] د. إياد قنيبي. بس تربية. (6) “بَس تربية؟” – YouTube
[ii] Jena McGregor. Only 13 percent of people worldwide actually like going to work, 2013. The Washington Post.
Only 13 percent of people worldwide actually like going to work – The Washington Post
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!