إنها حضارة زائفة!

بعد كل ما شاهدناه ونشاهده، لا نبعد عن القول: إن أحوالنا أقرب للهزيمة، وإذلال الأمة العربية، فقد تداعت وتكالبت عليها الأمم! وهذه الحال التي يعيشها العرب والمسلمون الآن لا شك فيها أنها أقرب إلى الهزيمة النكراء الممزوجة بيأس عام، في ظل تشدق كبير بالحضارة الإنسانية، التي لا شيء يصفها حقا إلا التأكيد على أنها “حضارة زائفة”.

لماذا هذا اليأس؟

يأسنا هذا له أساسان، أساس أول منبعه داخلي، حيث يئسنا من أنفسنا ونحن نشاهد إخواننا في غزة يذبحون ويقصفون وتدمر حيواتهم، وحراسنا، وولاة أمورنا، وكأنهم غير معنيين بما يجري فيها، ولا يحركون ساكنًا، بل إنهم يتعمدون إشعارنا بأنهم متواطئون ويظهرون لنا بسخرية أيديهم الملطخة بدماء الأبرياء.

وأساس ثانٍ مصدره خارجي، وهو يأسنا من المجتمع الدولي الذي توهمنا أننا ننتمي له، حيث رأينا رعاته يدَّعون وصولهم لأعلى سمات التحضر والرقي واحترام الحقوق، إلا أنهم ما لبثوا أن صفقوا للقاتل وناصروا عدوانه والظلم وسفك الدماء، وفعّلوا ما استطاعوا من نفاق وزيف بكل مخاتلة ومواربة للدفاع عنه والإمعان في قتل المظلوم!

‏ما تعيشه القضية الفلسطينية اليوم، يعتبر محورا فاصلا وصلنا إليه من خلال تفعيل ما يسمى بالقانون الدولي، والذي تأكد لكل عاقل أنه ليس إلا قانونا يحمي الأقوى، ويسحق الضعيف، ويفقر الفقير، ويغني الغني، ويبرّئ المعتدي، ويجرم البريء.

هذا القانون الدولي لا يُفعّل حين يحتاجه المحتاجون، ويُتشدَّق به لتبرير وحشية وبشاعة الجرم ومساندة المجرم ودعمه؛ حيث إنه لا وجود فعلي ضمنه لتفعيل مبدأ المقاومة، فبات في طويته ليس أكثر من حبر على ورق، هذا المبدأ الإنساني الجليل والسامي الذي يدعو لمجابهة ومجاهدة الاحتلال والغطرسة والعنصرية وكل أنواع المظالم تحول إلى كلام مكروه ومقيت لا يريد أحد أن يسمعه.

هذا القانون الدولي يسمح للدول القوية أن تعمل بازدواجية في المعايير، فتناصر بكل قوة حلفاءها وتشيطن كل من اعتبرته عدوا لها، فتفرق بين عرق وعرق، وتعلي دما وتقلل من دم آخر، تستخف بشعور الشعوب، وتُسند أحكاما جائرة لا يقبلها منطق ولا ملة، تبرر من خلالها وحشية وغطرسة المعتدين الغاصبين.

ما الذي تغير؟

‏كنا إلى وقت قريب، نُكن لبعض الدول الأوروبية وحضارتهم الغربية شيئا من الاعتبار والتقدير، خاصة أنها لا تنفك عن المناداة بقيم الديمقراطية والمساواة والحرية وحقوق الإنسان والحيوان وأشياء أخرى عديدة!. ظننا أنها تحمي الحقوق على قدم المساواة وتنتصر للمصالح والمبادئ العليا، وحين سمعنا شعاراتها المدوية التي اتخذتها نهجا، وهي في الحقيقة فارغة من أثرها ومعناها.

ظنناها تقود مواطنيها وشعوبا أخرى تابعة لها باتجاه الرقي والازدهار والرخاء النفسي والاجتماعي والاقتصادي، لكن ما نشهده اليوم، ليس إلا إيضاحا مزلزلا ومفندا لكل ذلك.

لقد تمكنت هذه الدول من دعم ونشر شتى أنواع المفاسد الأخلاقية والسلوكيات الرديئة، وأن تدفع بفئات من يافعيها وشبابها للمجون والضياع والانغماس في وحل الممنوعات والمدمِّرات، من مسكرات ومخدرات وملهيات ..إلخ، وتزج بهم نحو تعاملات وعلاقات غير سوية، منافية للطبيعة، ومن ثم نحو أمراض نفسية خطيرة، واضطرابات سلوكية عميقة وفقد الشعور بالطمأنينة والغاية المرجوة من الحياة.

أين وعي الشعوب؟

ظهر جليا أن معظم شعوب هذه الدول في حقيقة الأمر مخدوعة بشعارات دولها وأفكارها وإعلامها، فهي مغرر بها ومتلاعَب بعقولها، غُسِلت أدمغتها وبرمجت منذ عهود بشكل لا إرادي، فتشبعت جل فئات مجتمعاتها بقيم الحرية المطلقة حتى خيل إليها أن زمام أمورها بأيديها وحدها وأنها أعطيت كامل الحق بالتحكم المطلق بذواتها .

تلك الحضارة الغربية التي منحت شعوبها عديدا من الحقوق المادية البحتة وأقنعتها بأن بإمكانها التحكم فيما لا يُتحكم فيه أصلا.  فتم أن كانت لهم الجرأة وبشكل رسمي وحتى قانوني على تغيير سنة عظمى من سنن الكون، جُبل عليها الانسان منذ أن وطئت قدماه هذه الأرض، ألا وهي أن جُعل من كل شيء زوجا وأن خُلق الذكر والأنثى كنواتين وحيدتين وأساسيتين لاستمرارية الحياة بشكل طبيعي وموزون وراقٍ.

إننا نحيا منذ سنوات مضت على وقع نسف هذه القاعدة الكبرى للحياة وتصاعد محموم لإعلاء راية شذوذ الفكر والأخلاق بكل أنواعه، بل وتشجيع متبنيه ومساندة قضيتهم وحمايتهم بكل الوسائل في وجه كل من يتجرأ أن ينتقدهم أو يعاديهم، وقد وصل بهم الأمر إلى فرضه في كثير من منظوماتهم التعليمية ووضعه كبرنامج أساسي في مناهجهم التربوية بهدف تغيير سليقة الناس منذ نعومة الأظفار وبداية الطفولة، فأعطي الجميع حتى غير البالغين والأطفال، الحق في هذه الممارسات اللامعقولة واللاطبيعية، بل ودعمهم في قضية تغيير جنسهم إن أراد الطفل ذلك تأثرًا بما يحشى في ذهنه من معلومات وافتراءات، وهم الأطفال الذين لا يكادون يميزون من معاني الحياة شيئا بعد!

‏ثم ماذا؟

إن ما نشاهده من هجوم على الفطرة السوية ومحاولة خلخلة وزرع الشكوك في الكثير من الثوابت الإنسانية والكونية مؤشر جلي على انحدار وانحطاط هذه الحضارة إلى الحضيض وعلى نسف قواعدها التي ترتكز عليها من الأساس، فإلى أين يسير الانحطاط الحضاري الذي تسرع نحوه جل الدول الغربية بكل ما لديها من ترسانات قانونية وعلمية وعسكرية تتبجح بها وبقوتها.

كيف لتلك الدول التي تتشدق علينا بحضارتها السافلة ومدنيتها الزائفة أن تنصّب نفسها راعية للعالم، ثم نراها لا ترعى أولى أولويات الحياة كما لا تأبه لمصير شعوبها وتعمل بكل ما أوتيت على تدمير طفولتها وشبابها وإفساد سجيتهم وترمي بهم في أتون الضياع الإنساني.

فهل بعد ذلك قد نتوقع منها أن تأبه لشعوب أخرى وتراعي حقوقها؟

الجواب حتما هو: “أبعد ما يكون”.

صحيح أنه لا يمكن إنكار ما بلغته وتمكنت منه هذه الحضارة من علوم وتقنيات وعمارة واختراعات وسبر للآفاق، فقد قدم منافع مادية ملموسة تلقي بظلالها على جودة الحياة، إلا أنه لم يساعد البتة على إعلاء الشأن الإنساني القيمي الذي يرقِّي ويعلي بقدر الشعوب، روحا، وضميرا، وخُلقا، وسلوكًا.

إنها حضارة مجبولة في طياتها على الجانب المادي المستعلي مقابل الجانب القيمي المنحط الذي تضيع فيه الحقيقة والغاية.

‏إذا كان الأمر كذلك، فإنه ليس من الصعوبة أن نصل إلى أن غطرسة قادة الدول الغربية اليوم، وما يعبرون عنه، وما يجرؤون على فعله وتقديمه بكل مواربة، من دعم سافل للإجرام والطغيان والتدمير وسفك للدماء البريئة بتبريرات واهية مخزية ومفندة بشهود عيان وصور ساطعة سطوع نور الشمس، ليس إلا تجليا من تجليات بطلان حضارتهم الغربية التي انبنت على قواعد إنسانية باطلة وعلى قيم زائفة بعيدة عن الحق والحقيقة.

‏أبعد كل هذا نثق بهم وبحضارتهم؟ أبعد كل هذا نعدهم قدوة لنا وأنموذجا حضاريا؟ أما آن الأوان أن نستفيق من نومتنا وغفلتنا، ونقوم من كبوتنا فنحيي ونعلي قيمنا المثلى التي تجاوزناها؟ أما آن الأوان ان نعتمد على أنفسنا وننهض فنعد لهم عدًّا؟

شارك المقال