إصلاح التعليم بين التنظير والتنزيل
بعد الاطّلاع على أطروحات متنوعة لإصلاح التعلم أو منظومة التعليم، تبيّن -بالرغم من الجهود الحقيقية المبذولة- أنّ جميعها لا تخلو من أفكار يصعبُ جدًا تحققها في أرض الواقع، وأنّ تحديات الواقع الحالي تُشكِّل عائقًا حقيقيًا أمام المصلحين في كافة الميادين؛ ولذا فإني سأحاول في هذا المقال بإذن الله عرض وتفكيك بعض هذه التحديات لعل ذلك يفتح مسلكًا لأفكار أخرى فتظهر للوجود.
أصل الإشكال
إن كارثة المدارس الإلزامية لا تتوقف عند تجهيل الأجيال، وإنما تمتد إلى هدر حاضرهم ومستقبلهم، فعندما يدفع الشاب والفتاة حياتهم في تعليم دون تعلّم، أو مكاسب معلوماتية وأخلاقية واجتماعية حقيقيّة، ودون اكتساب مهارات كبرى في هذه الفترة الحرجة من حياة الإنسان، فهذا بمثابة إعلان على تخريج ملايين البشر المجوفين، الذين لا يعرفون معنى العبودية ومركزيّتها، ولا يملكون علمًا أو خبرة عميقة، أو مبادئ فكرية صحيحة، فمع أول جيل ينتجه هؤلاء، سينتشر الفساد في الحياة الاجتماعية ويطغى في كافة جوانبها سواء في الحياة العامة أو الخاصة، وهنا تتبلور الكارثة الحقيقية التي تواجه المصلحين في هذه القضية، وهي أنّ كل خطاب إصلاحي موجه للناس ستكون القاعدة الكبرى المتلقية له جوفاء لدرجة تهدر أي جهد إصلاحي.
في جدوى بعض الأطروحات
-
فكرة التعليم المنزلي (التعليم غير النظامي):
مع إدراك الكثير من المصلحين حجم الفساد الذي طال المدارس الإلزامية، ومدى تأثيرها السلبي على المستوى الفكري والاجتماعي والنفسي؛ نرى أن عددًا كبيرًا منهم اتجه نحو التعليم المنزلي، واتخذوا هذا النموذج حلًّا يصلُح تعميمه في المجتمع، وبالرغم من الإيجابيات الحقيقية التي تمتاز بها هذه الأطروحة، إلا أنها تواجه ثلاثة تحديات أساسية:
الأول: طبيعة المجتمع الراهن.
إنّ تجربة التعليم المنزلي لا يمكن تعميمها في المجتمع الحالي، لأنّ نجاحها مرهون بالمستوى الثقافي وحركة الرواج العلمي التي تتبناها الحاضنة المجتمعية، وبالتالي يكون نجاح هذا النموذج مقتصرًا على الأسر التي تحمل مستوى ثقافيًّا وفكريًّا وتربويًّا يُمكّنّها من المواصلة في الارتقاء الديني والثقافي والفكري والاجتماعي للأبناء، وكذلك مواجهة التحديات الاجتماعية التي يفرضها العصر، والمثبطات التي لا حصر لها، إذ أنّ العقل الجمعي في المجتمع هشّ البنية، ذي الهُويّة المشوّهة، لا يقبل بسهولة أنّ يرى من يذكّره بحقيقته، أو يخبره بنمط حياته المقولَب الذي لا يستطيع الخروج عنه، أو حتى أولئك الذين يرون أنّ هذا إهلاك وتضييع للأبناء، وهذا أمر يحتاج إلى حكمة مع حزم لتخطي هذه العقبات.
بعد دوران عجلة المدارس الإلزامية مئات المرات، باتت هناك أجيال كاملة تكونت منها ملايين الأسر التي لا يجيد أربابها أيًا من الأساليب التربوية المستقاة من مرجعية الوحي فضلًا عن الثقافية أو الفكرية، وأصبحت المجتمعات تحوي نسبًا مرعبة من الأمية، سواء الأمية بمعناها المعروف أو أمية الوعي، وهذه أضل سبيلًا، فهذه الأجيال غير مهيّأة للتربية الصحيحة فضلًا عن حمل مسئولية التعليم كاملة.
الثاني: لا يزال الإشكال قائمًا!
عندما اطلعتُ على بعض تجارب التعليم المنزلي سواء المعتمد على شبكة الإنترنت أو الكتب، وجدت أنّ الأغلبية الساحقة لم تستطع كسر دائرة النظامية والمناهج المهندَسة عند ممارسة التدريس للأبناء، لأن القولبة التي تسببها المدارس الإلزامية ترسّخت في أذهان الحاضنة المجتمعية لطول عهدها بها، فبدلًا من الذهاب بهم إلى فصول المدارس، باتوا يدرّسونهم المناهج ذاتها بالطريقة ذاتها، ولكن في رحاب المنزل وبين غُرفه.
صحيح أن بعض الإشكالات النفسية والاجتماعية تمّ تلافيها، خصوصًا إذا كان الوالدان على وعيٍ كافٍ بها وحَرِصا على تعزيز هذه الجوانب بشكل صحيح، إلا أن السؤال يبرز: ماذا عن الإشكالات الفكرية التي ملأت أوراق تلك المناهج؟
إنه حتى لو تم تصفية بعض المواد من الإشكالات الصارخة كنظرية التطور الدارويني ونظريات نشوء الكون الإلحادية، فالمناهج في ذاتها تحمل نَفَسًا عالمانيًّا ودعوات واضحة في الانفصال عن الدين، فهي مُصمَّمَة لتحقيق مقاصد تختلف تمامًا عن المقاصد الإسلامية، ولا عجب في ذلك فهي نابعةٌ من النظام الغربي الحداثي وما يحمله من أيديولوجيات، لا من مرجعية إسلامية تضبط بوصلة المسلم، فيطوّع كل علم يدرسه لتحقيق مقاصد الدين.
الثالث: النظام التعليمي المنزلي غير مدعوم في أغلب الدول.
إنّ هذا إشكال حقيقي يواجه هذه التجربة، إذ إنّ الآباء الذين استطاعوا تجاوز التحديات السابقة بأمان، يسقط بعضهم عند شفا هذه الإشكالية، كما أنّ عدم حصولهم على شهادات رسمية من التعليم المدرسي يحرمهم من الدراسة الجامعية أو الانخراط الطبيعي في سوق العمل، ولعل البعض استطاع تخطيها من خلال الصعود الصوري في المراحل التعليمية المدرسية لعدم فقد هذا الجانب، وممّا شجّع الكثيرين على الاستمرار هو تواجد عشرات الفرص من الأعمال الحرة العالمية التي يمكن أن يحترفها الإنسان ويتكسّب منها دون احتياج إلى المدارس الإلزامية.
-
أطروحات إصلاح التعليم الإلزامي.
عند الاطلاع على الأطروحات التي عمدت إلى إصلاح المدارس الإلزامية، نجد أنّها انقسمت إلى قسمين:
الأولى: أطروحات تتجه إلى إصلاح التعليم بشكله الحالي.
وهذا من خلال توسيع النظر إلى الشخصية المتكونة من خلاله، فالأفراد يجب ألّا يكونوا مكسبًا للاقتصاد والسوق بمختلف فروعه فحسب، بل يجب توسيع الدائرة لتشمل الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، حيث تشير عشرات من التقارير الدولية إلى الرابط بين القصور في نظم التدريس من جهة، والبطالة ونقص الاستعداد لمواجهة التحديات الاقتصادية الوشيكة من جهة أخرى.
بيد أن هذا الفهم للمشكلة الذي يتركّز على الكيفية التي يتعيّن فيها على المدارس أن تهيئ الطلاب لمواجهة الوضع الاقتصادي يتسم _على الرغم من دقّته_ بضيق الأفق، فالإصلاح لا ينبغي أن يركّز على المدارس وحسب، بل على الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع التعليم، فالأمر لا يتعلق فقط بالتقدّم الاقتصادي وموقع العمل _رغم أهمّيتهما_ بل كذلك بالاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي.
وثمة ملمح آخر وهو نقد الصورة الحالية للمناهج الدراسية كمًا وكيفًا، فقد رأى النقاد أنه ينبغي عدم اقتصار الإصلاح على طرح سلسلة من التغيرات المحددة في المناهج الدراسية القائمة لتلبية احتياجات سوق العمل اليوم، بل لابد من أن يكون التركيز -بدلاً من ذلك- على بذل الجهد لدفع المجتمع، على جميع الأصعدة (من القيادة السياسية، والموظفين العموميين، والمدرّسين، والطلاب، والأهل، والمجتمع المحلي) إلى بلورة الرؤى حول التعليم في مجتمعاتهم، ويجب أن تقوم هذه الرؤى بدرجة أقل على المواد التي يجب تعليمها في المدارس، وبصورة أكبر على كيفية تطوير عملية تعليمية تدمج ما يجري في الصف وخارجه، وفي موقع العمل، وفي وقت الفراغ، ولفترة طويلة بعد التخرج.
كان من المُلاحَظ أنّ النظم التربوية العربية لا تشجّع -بل لم تُصمَّم لتشجّع- روح التشاركية والإخاء الأهلي في جوانبها كافة، وهي _بدلاً من ذلك_ تركّز على التعلّم بصفة عامة، ويشدّد أكثرها بصورة أضيق على اكتساب مادة معرفية محددة ومتفق عليها، وتُصمَّم النظم المدرسية لاستخدام مادة أكاديمية محددة.
نتيجةً لذلك، يشجَّع المدرسون على تعليم مهارات إدراكية متدنية (تقوم على التذكّر والاستيعاب) على حساب المهارات الأكثر رقيّاً (في مجالات التطبيق، والتحليل، والتوليف، والتقويم، والتفكير النقدي). ومن ثم تنتج تلك النظم خرّيجين يحملون المؤهلات، لكنهم لا يمتلكون منظومة المهارات الضرورية للتصدي للتحديات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي تواجه المجتمعات العربية، أو حتى لتلبية احتياجات موقع العمل، وهي الهدف المعلن لكثير من الجهود الإصلاحية الأخيرة.
وكذلك شملت بعض هذه الأطروحات نظرة الأهالي إلى المدارس التي اعتبروها مواقع يكتسب منها أطفالهم المقدرة على تحصيل الرواتب العالية، واكتساب المهارات التقنية، والتمتّع بمستقبل مهني مُجزٍ، وعندها تنحصر هموم كبار المسؤولين في إنتاج الخرّيجين الذين تزيد سيرتهم الذاتية من مكانتهم في سوق العمل.
مع محاولتهم بحث إشكالية أهلية المعلمين وضعف التمويل، وثمة أطروحة اعتبرتهما التحديين الكبيرين اللذَين يواجهان إصلاح التعليم، حيث إنّ ضعف تأهيل المعلّمين ووجود عشرات الألوف منهم ممن لم يتلقّوا أي تدريب على طرق ووسائل التعليم والتقييم الحديثة، مما يؤثر في ضعف العائد على الكلفة الباهظة للتعليم، والآخر هو ضعف تمويل برامج إصلاح التعليم، وبالتالي فإن وضع إصلاح التعليم على الطريق الصحيح يحتاج أولاً إلى بدء برنامج واسع ومكثف لإعادة تأهيل المعلمين القائمين حالياً، وإعداد المعلمين الجدد بمقاربة مختلفة عما يجري حالياً لمواجهة تزايد الطلب على التعليم، وكذا زيادة الإنفاق على التعليم وتحسين كفاءته.
إشكالات وتحديات
ورغم الجهود الجهيدة في هذه الأفكار، إلا أنني أرى فيها إشكالين رئيسيين:
الأول: إنّ هذه الأطروحات تصلح لترميم الأنظمة المدرسية المتهالكة في المجتمعات الغربية، التي ابتدأت هذا النظام أصلًا للحصول على عمال ماهرين -وتفصيل ذلك في مقال سابق– وصُمِّمَ لهذا النظام مناهج مناسبة له وتحقق مآربه، ولكن هناك تصادم حاد بين غايات ومقاصد المجتمع الغربي والمجتمع المسلم تُحتِّم وجود اختلاف جوهري في منظومة التعليم التي تنتج الأفراد الأكفاء لتحقيق تلك الغايات، وبالتالي فإن هذه الأطروحات لو تحقّقت ستؤدي إلى نشوء مجتمع عالماني مكتمل الأركان بالمقاييس الغربية، وهذا يعني أنّ هذا “الإصلاح” ما هو إلا مزيد من التوغل في البعد عن تحقيق العبودية لله عز وجل، بل إنّ من الأسباب التي جعلت المجتمعات المسلمة حتى الآن تحتفظ ببعضٍ من أصل الدين هو فساد هذا النظام التعليمي العالماني، فبدلًا من خروج فرد عالماني، يخرج فرد مجوّف، فمجموع الفرد الأول يجعل المجتمع ماديًا عالمانيًا محضًا، ومجموع الثاني يجعله مجتمع يرزح في الجهل، والعمل الإصلاحي في كلٍ من الصنفين يكون شاقًا للغاية.
الثاني: لا يمكن تحقيق هذه الأطروحات إلا من خلال جهات رسمية تملك الحل والعقد، وبالتالي فإن هذه الأطروحات تعتبر ضربًا من المثاليات لنشوئها في هذا العصر، وحتى القليل من الأطروحات التي يملك مديرو المدارس صلاحية تحقيقها، سوف تقتصر على المدارس المتواجدة في مناطق راقية ذات مستوى اجتماعي عالٍ تتمتع بقدر من الرفاهية الاجتماعية التي تسمح للطرفين (الأهل – المدرسة) القيام ببعض هذه الأدوار.
الثانية: أطروحات تدعو إلى استنساخ تجارب إسلامية ناجحة.
عند النظر إلى التاريخ الإسلامي سنجد تجارب تعليمية برّاقة كالمدارس النظامية السلجوقية مثلًا، والتي جمعت بين صناعة المسلم الحق، الخاضع لله والمحقق العبودية له تبارك وتعالى، والشمولي -كذلك- في طلبه لكل أنواع العلوم انطلاقًا من دوره الاستخلافي، وتحقيقًا لمقاصد العبودية، مُزكّى النفس، سليم التفكير.
ولكن يواجه هذه الأطروحة ذات الإشكال الثاني الذي يواجه أطروحة إصلاح المدارس الحالية.
إذًا، ما الحل الذي يناسب المجتمع عامة، وأهل الوعي خاصة؟
هذا ما أسعى للإجابة عنه في مقالٍ لاحق بإذن الله.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!