إشكالية الثغر وأولويات الواقع في التربية

image_print

إن من أنفس النصائح التي نقدمها للشباب أن نحثهم على الإقبال على العلم في سن الطفولة والفتوّة والشباب، فإنها فرصة حري بالعاقل اغتنامها، فقد يعجز في المستقبل عما يستطيعه في تلك الأوقات، وللعلماء في ذلك أقوال كثيرة، توحي بأهمية الطلب في الصغر، وتميزه عن الطلب في الكبر. فقد قال الحسن البصري رحمه الله: “طلب العلم في الصغر كالنقش في الحجر”، وقال الشاعر قديمًا:

وينشأ ناشئ الفتيان منا … على ما كان عوَّده أبوه

وما دان الفتى بِحِجىً ولكن … يعلّمه التدين أقربوه

يقصد بذلك أن الفتى يكبر وينشأ على ما يعلمه أبوه، ويتخلّق بأخلاق الأقربين منه، وليس بالضرورة أن يقوده عقله للطريق الصحيح دائمًا.

أهمّيّة التعلّم في الطفولة

غالبًا ما تتشكّل شخصية الإنسان وفقًا للنمط التربوي الذي يحتضنه في طفولته، وينشأ متبنِّيًا لكثير من المبادئ والأخلاق التي تربّى عليها، وأيضًا لا يحتّم ذلك تَلبُّسه بهذه المبادئ والأخلاق طيلةَ حياته، وإنما يعلق به كثير منها بحيث يصعب التخلص منها.

في فترة الطفولة يزرع الأبوان بداخل طفلهم المعاني العميقة والمبادئ الأساسية التي سيبني عليها بعد ذلك فروع توجهاته واهتماماته، وينبثق عنها تصوراته الأولية عن الحياة والواقع، حتى يتمكّن هو من إعمال آلية عقله باستقلال، فيتبنى هذه التصورات ذاتها، أو يتحول عنها إلى غيرها.

المشكلة هنا – وفي زماننا هذا تحديدًا – أن فرصة الناشئ في إعمال عقله وتحليله للتصورات وللواقع من حوله تكاد تكون معدومة، بسبب الواقع الضاغط، وطغيان المادية وسيل التكنولوجيا الهادر، الذي يندر أن يبقي فُتات الوقت للكبار، ناهيك عن الصغار. وحتى لو تسنّت له الفرصة في تفعيل آلية خاصة يرى من منظورها ويتبنى على أساسها تصورات مستقلة، فإنه سيُطِلُّ على واقعٍ مُشوَّه، اختلطت فيه المعاني وتماهت فيه الواضحات، وكثر غموضه وفساده لدرجة أن تشوه فيه بعض ثوابت الفطرة، وتغيب فيه سطلة الدين.

إشكاليّة الثغر

في واقع متلاطم كهذا، تدفع النية الحسنة بعض الآباء إلى توجيه أبنائهم من الصغر إلى التزام نموذج معين، ينشأ فيه الطفل ويتهيأ على كونه يعد إعدادًا خاصا ليقوم بمهمة ما، ويسد ثغرًا من ثغور الأمة. حيث يوجه أن يكون طبيبا مسلما أو عالما مسلما أو مخترعا مسلما أو غير ذلك، ليكون صاحب بصمة خاصة، ويؤثر في الأمة تأثيرا نافعا وقويا.

لست بصدد مناقشة هذه الفكرة الآن، لأن الإشكال الحقيقي في نظري هو الانشغال بإعداد النموذج، دون التأسيس الصحيح في الطفولة وغرس أساسيات الدين.

في كثير من الحالات يُولَى الاعتناء بتهيئة النموذج المعد للوقوف على ثغر ما الاهتمام الأكبر، وتُبذَل فيه الجهود، ويقابِل ذلك تراخيًا في التأسيس الصحيح على الأصول المهمة. إما لسوء تقدير الأولويات من الأبوين، أو سوء التوجيه وضبط العمل على كل من الجانبين كل في زمنه وإطاره الصحيح.

 يؤدي سوء التقدير إلى صرف الجهد المبذول والاعتناء إلى تهيئة النموذج والاستغراق فيه إلى الحد الذي يتضاءل معه الجانب الآخر، وتتراجع قيمته بجانب الصورة الكبيرة التي ترسم لإعداد النموذج، وما سيكون عليه في المستقبل من ترك الأثر وسد الثغر، فينصرف أكثر وقت الطفل وجهده واهتمامه إلى الدرس أو المذاكرة أو التمرن أو تعلم مهارات أو أيا ما كانت الخطوات المطلوبة لتحقيق النجاح والوصول إلى الغاية المنشودة.

 هذا الاستغراق قد يُترجِمُه الطفل إلى منهج حياة، ويلتئم تصوره على كون هذا الإطار الذي يعيشه هو السبيل الوحيد الموصل إلى وجهته، فعلى قدر الغاية يكون البذل والاهتمام. وإذا انقضت سنين الطفولة على هذه الحال حتى يشب ويكبر، ثم يصطدم بمجريات الواقع المتداخل المليء بالشبهات والشهوات، دون إعداد مسبق أو على الأقل توجيه رشيد بالتمسك بالأصول والرجوع إليها، فإنه ينغمس في الواقع يتجاذبه هنا وهناك. ولربما تنال منه شبهة أو شهوة، أو على الأقل يقع في المحظورات. فنجد النماذج قد أنتجت اقتصاديا مسلما كل معاملاته وأكثر رزقه من الربا، وطبيبا مسلما حاذقا في مجاله العملي، وهو في نفس الوقت لا يلتزم أخلاقيات مهنته، ولا يتورع فيها عن الحرام. وتجد الأكاديمي المسلم الذي لا يعرف أي شيء من دينه أو دنياه، وعقله مستهلك حصرا في مجاله الأكاديمي وفقط، ثم هو يستخدم وجاهته أو سلطته في الشر أكثر منها في الخير، وتجد المخترع المسلم الذي يفني عمره في تنمية وإثراء مجتمعات وأمم غير أمته، التي قد أعد أساسا لخدمتها وسد ثغر من ثغورها، وتجد كل نموذج في مجاله قد اكتملت صورته المنشودة ظاهريا، على هيكل أجوف لا يعرف كيف يوظف هذا النموذج في خدمة مجتمعه، أو على الأقل لا يتجنب محظورات يقع فيها غيره. بل قد يصل الحال بالبعض إلى خدمة أيديولوجيات هي في الأصل على النقيض من دينه وقيمه، إما جهلا منه أو تهاونا.

أولويات الواقع وإعداد النموذج

لا يمكن أن يكون كل الناس علماء في الشريعة أو فقهاء في الدين، وليس هذا مطلوبا أصلا. كما لا يمكن أن يكون كل الناس أطباء أو مهندسين أو محامين أو لاعبين. ولكن في حالة أردنا إعداد نموذج من هذه النماذج ليكون نموذجا صالحا يقوم بما عليه تجاه مجتمعه وأمته. فالنية الحسنة وحدها لا تكفي هنا، بل يلزمها علم وجهد في التعليم والتوجيه.

فيلزم على الآباء أولا أن يتعلموا ضرورات دينهم، وما يجب عليهم أن يتعلموه كمسلمين بالغين، بغض النظر عن تخصصاتهم. ثم يتعلموا بعد ذلك ما يجب عليهم تعلمه فيما يتعلق بتخصصاتهم العملية أو العلمية من الفقه والأحكام وغيرها، ويلزم تعلُّمهم هذا ليعلموا أبناءهم، ففاقد الشيء لا يعطيه.

ثم بعد ذلك يكون تعليم الأبناء من الصغر ضرورات دينهم، بما يطيقه كل منهم حسب عمره وطاقته وقدرة استيعابه. وإن لم يستطع الآباء ذلك لسبب أو لآخر، فليلتمسوا لأبنائهم مربيا أو معلما، يعلمهم ما يكفيهم من الضرورات وينبه على المحظورات. فيأخذ الأبناء مع نموهم بطرف من أطراف علوم الشريعة، والقرآن والعقيدة على رأسها، جنبا إلى جنب مع المذاكرة أو دراسة التخصص أو غيرها، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ولا تتداخل الأطر، مع معرفة أهمية كل منهما وإنزاله منزلته. فترسم للأبناء المرجعية الأولى وهي الدين، وينمّى عندهم الارتباط القوي بدينهم وأحكامه، وتبنى عليه الانطلاقات والتوجهات.

ثم بعد التخصُّص يجب على كل واحد منهم أن يتعلم ما يلزمه من أحكام في تخصصه، فيعرف حرامه وحلاله من المشهور، ثم يكفيه أن يعرف أن له مرجعية وأصلا ثابتا منه ينطلق، وهو الدين وأحكامه، فيسأل أهل العلم فيما يشكل عليه، ويتعلم منهم ما يجهل. وعليه ألّا يقنع بحاله هكذا بل ينمي من معرفته في علوم الشريعة، فالفتن لا تنفك تطرق الأبواب، والشبهات ملء السمع والبصر.

 فلو تم للأبناء العلم بضرورات دينهم منذ الصغر، ووُجِّهوا أولا إلى تعلُّم علوم الشريعة ولو أقل القليل منها، ثم بعد ذلك يوجهون إلى المجالات والتخصصات المختلفة لاكتمل لهم النموذج، بفاضله ومفضوله، فيجمع بين الأساسيات التي يحتاجها كل مسلم، بالإضافة إلى ما يعنيه هو في مجاله. وحبذا لو تميز في تخصصه وتفوق، وهو المرجو من شخص قد أعد إعدادا صحيحا وبني بنيانا سليما، فيستطيع بذلك أن يترك أثرا فاعلا ويسد الثغر الذي أُعِدَّ لأجله.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد