إشارات أولية لإصلاح العملية التعليمية

image_print

بعدما تعرفنا في مقالٍ سابق على أبرز الأطروحات الإصلاحية للتعليم ومدى جدواها، سأحاول في هذا المقال بعون الله وضع إشارات يمكن أن تكون علامات للطريق القويم في إصلاح العملية التعليمية

واقع التعليم من المآل إلى الحال

بعد دخول النموذج الغربي للمدارس الإلزامية في عالمنا الإسلامي، بدأت تبعاتها الفكرية والاجتماعية والنفسية تتسرب وتتراكم في المجتمع كمآل لهذا الواقع الجديد، وبعد ما تطبَّع الناس على هذا الواقع وألِفوه وأصبح حالًا لهم؛ بدأت تظهر مآلات جديدة نابعة من هذا الحال الذي صار واقعًا، كمشكلات في منظومة الأسرة والزواج، وشخصية الأفراد وطبائعها، ومستوى الوعي عند عموم الناس وغير ذلك، فعمد الكثير من المصلحين إلى حل هذه الإشكالات دون البحث عن بواعثها الحقيقية، وبالتالي فإنه مهما كفكفوا هذه المآلات الجديدة، فإن جذر الإشكال يبقى حيًا ناميًا.

ومن هنا كان لا بد من السؤال عن: كيف يمكن إصلاح التعليم لعموم الناس؟

عند النظر إلى ما وصل إليه المجتمع كنتيجة تراكمية لروافد عديدة تشمل بشكل أساسي هذا النظام التعليمي، سنجد أنّ محاولات الإصلاح لا يمكن أن توجَّه إليهم بشكلٍ مباشر، إذ إنّه ليس في مُكنَتِهم تنفيذ هذه الأطروحات، بل بعضهم يظن أنّ في هذا الأمر إهلاكٌ وتضييع لمستقبل أبنائه.

الحل إذًا مع هذه الفئة يكون حولهم وليس لهم، وهو يعتمد على عنصريين أساسيين يجب أن يسعى فيهما المصلحون.

الوعي الجمعي أولاً

إنّ بث الوعي في المجتمع بالطرق كافة هو الوسيلة الوحيدة التي يمكنها إعادة تشكيل الحاضنة المجتمعية التي ينتمي إليها عامة الأفراد، وتشكيل بيئة عامة من الوعي تسمح لشرائح جديدة الانخراط فيها، والوثوق في أطروحتها، وإدراك إشكالات الواقع.

ورغم أنّ هذه الطريقة تُصَنَّف ضمن الطرق التكوينية الطويلة التي تحتاج طولَ نَفَسٍ وصبر، إلا أنها شِقٌّ أساسي لشَقِّ طريق الإصلاح، وعاملٌ مركزيٌ لبث نفحات البعث التي تُحقق روح النهضة، وتُهَيكل مرحلة الصعود.

في هذا الإطار نجد قول مالك بن نبي: “لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات بن باديس، فكانت تلك ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدَّر يتحرك، ويا لها من يقظة جميلة مباركة، يقظة شعب لا زالت مقلتاه مشحونتين بالنوم، فتحولت المناجاة إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل، وهكذا استيقظ المعنى الجماعي، وتحولت مناجاة الفرد إلى حديث الشعب” [شروط النهضة]، فكلمات بن باديس رحمه الله التي حملت في طياتها البعث استطاعت تحقيق هذا الوعي الجمعي.

عبد الحميد بن باديس (ويكيبيديا)

ويمكن تحقيق الوعي المؤثِر في إشكالية التعلُّم عن طريق:

١- تعميق معاني العبودية وبثّ مبدأ التسليم لله عز وجل التي يجب أن يكون عليها المسلم، ويدرك بها دوره الاستخلافي الذي يدفعه إلى حفظ ذريته وتنشئتهم على مراد الله سبحانه وتعالى.

٢- نشر وتوضيح مآلات المدارس الإلزامية سواء الفكرية أو الاجتماعية والنفسية أو غير ذلك على الناس.

٣- تعظيم شعور المسئولية المنوطة بالأهل في رعيتهم -أبنائهم- ليتهيّأوا نفسيًا لتقبل حلول جديدة بدافع الحرص والخوف على أبنائهم.

٤- نشر ما يجب أن يتعلمه المسلم ويتربّى عليه، وكذلك التوعية بمقاصد التعلم في الإسلام.

٥- الوعي التاريخي بهذه القضية، سواء على مستوى التسلسل الفكري التاريخي الذي آل إلى الوضع الحالي، أو نماذج ناجحة للتعلُّم في التاريخ الإسلامي.

٦- حثّ الاختصاصيّيّن في مجال التربية والعاملين في هذا المجال ليوطّدوا أنفسهم على التغيير، ويفهموا الواقع بصورة تدفعهم لوضع تصورات لمنهجيات رصينة يمكن أن تكون البديل.

هذا النمط التوعوي يجب أن يُبَث بشتى الطرق العصرية المسموعة والمرئية، واستغلال كافة المحافل والوسائل لإنضاج هذا الوعي في المجتمع، وعلينا ألّا نتصور أن هذا التحرك التوعوي يمكن أن ينفذ إلى كافة شرائح المجتمع مهما كان قويًا ومثمرًا وفعالًا، إذ ثمة شرائح تُمثِّل سوادًا كبيرًا من العسير جدًا إخراجها من الدوامة الحياتية، ولكن الهدف هو ضم شرائح جديدة من حافة الوعي إلى مركزه، والتي ستتوسع وقتيًا لتُحدِث حالة مجتمعية يمكنها احتضان أفراد الشرائح الأخرى البعيدة تمامًا عن نسائم الوعي.

التمويل ثانيًا

إنّ وجود مصدر تمويلي يمكنه تبنّي المشاريع الإصلاحية أمرٌ في غاية الأهمية، بل إنّ انتشار المدارس الإلزامية كان من أسبابه الرئيسية دعم رجال الأعمال، فنجد أنّ جون روكفلر مثلًا دفع لأجل تعميم هذه المدارس مبلغًا يربو على ما قدّمته الحكومة الفيدرالية، مما أدى إلى تعميمها على أربعٍ وثلاثين ولاية، لذا يجب وضع مساحة مخصوصة لتوعية وتحفيز رجال الأعمال المسلمين على استثمار أموالهم في هذه المشاريع، ويجب على المصلحين وضع دراسة جدوى مُحكمة، ورؤية رصينة واضحة، لتشجيعهم على بذل أموالهم لإنهاض هذه المشاريع التي يمكنها أن تتمثل على أرض الواقع عند الوصول إلى نقطة الوعي التي تمتد لهيكلة الحاضنة المجتمعية على نحوٍ صحيحٍ ناضج، مما يؤدي إلى نشوء مسالك حقيقية تسمح بنفوذ أطروحات إصلاحية من خلالها.

هذا ما يخص عموم الناس، مما يعني أنّ حصول إصلاح حقيقي للتعلُّم في عموم المجتمعات يحتاج وقت طويل يصحبه جهد إصلاحي بنائي مكثف.

جون روكفلر

ويجب أن نستحضر خلال هذا المسير أنَّ إصلاحَ التعليم وتأطيره ضمن المقاصد العقدية المنشودة أمرٌ لم يغفل عنه أي مجتمع أراد تغيير وجه الحياة فيه، فنجد أنّ الخطوة الأولى التي اتخذها العلمانيّون لعلمنة فرنسا -مثلًا- كانت مع المدارس، حيث “خاضت الدولة هنا صراعها الأكبر في مجال التعليم، مُضْفِيَة قَدَاسَة على الفَصْلِ التَّام بين التعليم ومقولات الدين وقيمه، وذلك للحفاظ على ذاتيّةِ البناء اللاديني للمجتمع وأفكاره الكلية” [العالمانية طاعون العصر- د. سامي عامري]، حيث اعتبروا أنّ “استرجاع الأملاك العامة من الكنيسة إلى الدولة بداية لفك ارتباط الكنيسة بأهم مُؤسَّسةٍ مُؤثرة في المجتمع وهي المدرسة، وهي المعركة الكبرى التي خاضها العالمانيون في أوروبا بكل شراسة”[العالمانية طاعون العصر- د. سامي عامري]، لذا لا يجب التهاون أبدًا في الخطوات المتوجهة نحو إصلاح التعليم.

رسائل لأهل الوعي

قبل اقتراح بعض الإشارات التي قد تُمثِّل ومضات مضيئة في مسيرة تعلم الإنسان التي تبدأ مع الولادة، وتنتهي عندما تبلغ الروح الحلقوم، يجب أن نستحضر أمرين مهمين، أولهما: تفاوت قدرات الناس؛ إذ إنه من الطبيعي جدًا أن تختلف قدرات الناس وتتمايز نقاط القوة والضعف لدى كل إنسان، وأنّ الغالبية في أي مجتمع ليست نخبة، وأنّ هناك صالحين وطالحين، وبالتالي فإن الهدف الأول من المسيرة الوالديّة التربوية والتعليمية هي تكوين مسلمين يدورون في فلك العبودية محققين مقاصد الإسلام مع الحفاظ على السوية النفسية لهم، هذه هي القاعدة العريضة التي يجب أن يُربى عليها كل مسلم، ومنها يتم الانطلاق نحو صناعة النخب، وهذا يأخذنا للنقطة التالية.

أما ثانيهما فهو (إياكم والمقارنة!) حيث إنّ تعاظُم المقارنة في أي مجتمع نذيرٌ للفتك به وإهلاكه، ويفضي إلى تقليل مستويات الرضا وقتل مساحة السعي في المتاح، ولو نظرنا إلى غالبية الأفراد في مجتمعاتنا سنجد أنهم يريدون أطروحة موحدَة نسقًا ومنهجًا، ويمارسون المقارنة، ولا يتقبّل المجتمع بمجموعه فكرة تفاوت القدرات، وهذا ينعكس سلبًا على الطفل حسب المجتمع الواقع فيه، فلو كان الطفل ذا قدرات فائقة، فغالبًا لا يتاح له المزيد بدعوى توقُف من حوله عند هذا المستوى، والعكس صحيح، حيث يتم الضغط على بعض الأطفال وتعنيفهم لأجل اللحاق بمن حولهم دون مراعاة لقدراته.

لكن الصحيح هو عدم تحجيم الطفل عند مستوى معين أو ضغطه، كلٌ حسب وسعه، من رأى فيه الأهل النهم للعلم؛ فليشبعوه، ويطوِّعوا له ما يمكن أن يستشكله، ومن رأوا فيه ضعف؛ فليقوموه ويعطونه ما يضمن استيعاب القاعدة العامة التي تخرِج مسلمًا صحيح الإيمان، سَوي النفس، تقيًا، يصلُح للعرض على الله.

إنّ هذين الأمرين يعتبران ضمن السياق التربوي، الذي هو بالطبع مركزيٌ في عملية التعلّم، ولكنهما ضروريين في سياق التعلم، لذا وجب الإشارة إليهما هنا.

الاحتمالات الممكنة لهذه الشريحة:

١- وجود الأبناء بالفعل في المدارس، وفي هذه الحالة يصعب جدًا إخراجهم منها وبدأ نسق جديد مغاير تمامًا معهم خصوصًا لو تعدّوا المراحل الأولى، ولكن ما يجب فعله بشكل أساسي هو:

أ. تحجيم مساحة المدرسة في حياتهم بإبعادها عن المركز المحوري للحياة، وتعزيز إدراكهم أنّ المدرسة مجرد أداة مساعدة لاكتساب بعض العلوم والمعارف.

ب. ترسيخ معاني العبودية لله عز وجل في نفوسهم، وإعلامهم مقاصد التعلُّم في الإسلام. وشحن حياتهم بمعاني الإيمان، وتعليمهم استحضار النية والاحتساب في كل عمل.

ت. الحرص على تعليمهم القرآن الكريم والسنة النبوية واللغة العربية الفصحى وأصول الشريعة، ويكون الوالدان متمثلين لهذه المعاني في ذاتهما ويمرران اللغة العربية لهما بالسليقة من خلال التحدث معهما بها، وإسماعهم فصيح القول بدءًا من القرآن الكريم ومرورًا بالشعر وغيره.

ث. إلى جانب ذلك فإنه يجب تضمين الأسس الفكرية الصحيحة في النسق التربوي، وتحفيز التفكير الناقد لديهم مع تعريفهم بإشكالية هذه المناهج والمدارس وتاريخها بالطريقة المناسبة.

ج. توعيتهم تجاه ما تتضمنه من كوارث فكرية، ومن هنا فإنه لا بد من إنشاء محاضن اجتماعية مناسبة تمكّنُّهم من إنضاج القيم الاجتماعية وتبلوُّر شخصياتهم، وتفويض مهام لهم يتحملون فيها المسئولية في جوانب متعددة، وإتاحة فرص متنوعة للتجربة والتعلُّم وتنمية المهارات.

ح. الحرص على زيارة أماكن ثقافية مثل معارض الكتب والمكتبات، وتوفير بيئة ثقافية متوازنة ومتنوعة في المنزل كركيزة أساسية من ركائزه.

خ. التأكيد على أنّ الروح التنافسية يجب أن تكون مع الذات، لا مع زملاء المدرسة أو الأقران، وأنّ الفهم العميق للمادة العلمية هو الهدف الحقيقي وليس تحصيل الدرجات.

د. توفير الإثراء المعرفي لهم بشكل دائم ومطرد ومتخلِل لكل المناسبات والمواطن.

ذ. تكوين عادة القراءة الذاتية وتحفيزهم عليها، ومناقشتهم مناقشة جادة حول ما قرأوا، مع تنويع الواجبات العملية بين تلخيص للكتب، وشرح للفكرة وإعادة صياغة لها، وإلقاء الفكرة وتبسيطها للأقران، ونقد بعض الأفكار.

ر. ملاحظة المواهب التي تبرز لديهم وتعزيزها، وعدم إملاء تخصص معين عليهم تلميحًا أو تصريحًا، وجعل إعلاء كلمة الإسلام وخدمة رسالته ونفع الأمة هي الغاية التي يبذلون لها ويطلبون العلم لأجلها.

وهذه النقاط العشر يجب أن تحقَق في بيئة تربوية إسلامية صحية، ويجب الاهتمام بالأنشطة الترفيهية وغيرها مما يضمن تحقيق التوازن.

٢- لمن لم يدخل أبناؤهم المدارس بعد:

هنا فإن فرصة التعليم المنزلي (غير النظامي) لا زالت متاحة، ولكن قبل أخذ هذا القرار، يجب التحرير الصادق لبعض الجوانب:

١- يتأكد الأبوان من امتلاكهما الجَلَد، وقدرتهما على تحمُّل الطرق الطويلة، وتمكُّنهم من القيام بدراسة جدوى حقيقية، فلا يجب أن يتحمّسا دون اختبار أنفسهما، أو معرفة حالهما على إثر تجارب سابقة، لأنهما إذا لم يكونا من أهل الجَلَد وطول النَفَس؛ فإنهما بهذا يغامرون بأبنائهم.

٢- اختبار درجة المرونة لديهما، إذ إنّ العلوم التي سيدرسها الأبناء لا يجب أن تتشابه بين الإخوة سوى في الأصول التي هي الإيمان والقرآن واللغة العربية وأصول الشريعة والحساب، بعد ذلك يُسقى كل طفل حسب قُدراته وميوله، فإذا لم يمتلكا المرونة الكافية والقدرة البحثية؛ فإنهما سيقعان في فخ القولبة من جديد.

٣- إمكانية الاستعانة بمربٍّ أو مؤدِب، وتفويض بعض المهام له.

٤- مركزية وجود أنشطة وفعاليات اجتماعية ثابتة ودورية أسبوعيًا، حتى لا يُعزَلوا اجتماعيًا، والتأكد من إمكانية الحفاظ على ذلك الأمر وتضمينه في نسق الحياة ونظام البيت، ووضع آلية واحتياطات لازمة قابلة للتنفيذ حسب كل أسرة للتعامل مع الطوارئ والظروف الاستثنائية، وإفهام الأبناء ذلك ضمن نُسُق تربوية ليس هذا موضع تفصيلها.

٥- القدرة على وضع تصوُّر للمستقبل المهني، سواء بالالتحاق بقسم التعليم المنزلي في المدارس لضمان الصعود المدرسي الذي يتيح لهم الدراسة التخصصية الجامعية، أو التأكد من إيجاد وسائل على الشبكة تضمن لهم هذا المسار.

إذا تم التأكد من إمكانية تحقيق هذه البنود الخمسة، فلهم اتخاذ هذا القرار، وبالطبع مع تحقيق بيئة تربوية إسلامية صحيحة، وإلا إلحاقهم بالمدارس مع تحقيق الاحتياطات العشرة المذكورة آنفًا.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد