إسرائيل بين التوظيف والاختراع

image_print

التاريخ ذاكرة، والذاكرة هي كل ما نمتلك، إنها أرشيفنا الخصب ينبوع الذكريات الذي لا ينضب، وليس ثمة أمة دون تاريخ، ولا بقاء لأمة تحتقر تاريخها، وكم هي المرات التي زُوِّر فيها التاريخ وقلبت فيها الحقائق، بل إن تزوير التاريخ حرفة تتفن فيها أعداء الإسلام، من المستشرقين والاستعمار وحتى بعض الكتاب المتحدثين بلسان الغرب من بني جلدتنا.

لقد عمل هؤلاء على كتابة تاريخ يناسب أهواهم، ويساير سياسة الاحتلال الغربي،  ويضع لتدخلاته المتكررة أعذاراً، قصد التلاعب بأذهان الشعوب المستعمرة كي لا تقف في وجهم وكي لا تعرقل خططه التدليس المستقبلية.

وللأسف وجدت هذه الكتابات آذانا صاغية بين مثقفينا الحَرْكيين -مفهوم صاغه مالك بن نبي يطلَق على المتعاونين مع الاحتلال- وشبابنا، وعوض أن يوجه كتاباتهم للآخر ويفضحه، وجدنا أنفسنا في مواجهة إخواننا ممن يتكلمون لغتنا ويعتنقون ديننا ويشتركون معنا في الدم، وهكذا فتحت أمام كتابنا جبهتان، جبهة يواجهون فيها الكتابة الغربية وأخرى يقفون في وجه أتباع المستعمر وأعينهم على الشباب، وهكذا باتت المهمة شاقة للغاية.

فلسطين .. حجر الأساس

يعتقد الكثيرون أن القضية الفلسطينية ليست بتلك الأهمية، بل يرى بعض المسلمين –ونتأسف لذلك- أنها مجرد حجر عثرة أمام تقدم دولهم، فالعداء مع الكيان الصهيوني عداء مع العالم الغربي، الذي لولاه لما عاش المسلمون ولما حصلوا على التقنيات الخ، وليس كلام يصيب المرء بالصدمة أكثر من هذا، وخاصة إذا ما سُمِع من أشخاص مثقفين.

والحقيقة أن فلسطين والاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين قضية كل إنسان حر مهما كانت أصوله أو ديانته، فالقضية ليست تنازع بين طرفين كما يحب البعض أن يصورها، إنما هي معركة بين صاحب الأرض والمستوطن، بين صاحب الدار واللص.

فالقضية الفلسطينية نعلم جميعًا كونها قضيّة شعب أعزل يواجه كل أنواع الإرهاب المقدس إرهاب مرتزقة قدموا من جميع أنحاء العالم ليحتلوا أرض غيرهم تحت مقولة:” جدي كان هنا”

ويا ليت شعري هل هم أبناء الجد فعلاً، أم أنهم من ملل ونحل متفرقة لا تاريخ لها ولا أصل، ولك أن تتأمل وجوه جنود الصهاينة، حيث لا تجد بينهم أي وجه شبه، وذلك على الضد مثلا مما إذا تفرست ملامح الجيش السعودي أو المغربي مثلا، وهكذا مع شعب الكيان الإسرائيلي، فليس هناك قاسم مشترك بين هؤلاء سوى أنهم على دين واحد، وهذا ما تحتاجه فحسب لتصبح فجأة مواطنًا إسرائيليًّا لك حق تاريخي في فلسطين!

المسألة اليهودية

إن كل من يتحدث عن كون الصهاينة من نسل ” الأسباط” إما مدلس أو جاهل، فلا يخفى على عاقل أن نسبة هؤلاء -نسل الأسباط- لا تتجاوز 1%، بينما البقية فهم ممن اعتنق اليهودية في القرون الأولى، وهم غالبًا سكان أوروبا الشرقية من الخزر، وهؤلاء لا تربطهم أية صلة بأرض فلسطين لا من قريب ولا من بعيد فكل ما في الأمر أن اعتناقهم لليهودية وتوالي السنين عليهم؛ وتلقيهم لعقيدة التلمود غرس في أنفسهم فكرة  “أرض الميعاد”.

ومع اشتداد الأحوال في أوروبا وتقلبات السياسة والمجتمع والاقتصاد، بات الكثير من يزاحم اليهود في المهن التي احتكروها لقرون طوال وعلى رأسها التجارة، وفجأة وجد اليهود أنفسهم مهدّدين في أعمالهم، وأخذت سطوتهم على الأسواق تقل شيئا فشيئا، وهنا سيبدأ ما يسمى تاريخيًّا ” المسألة اليهودية”.

لم تكن المسألة اليهودية حسب الدكتور عبد الوهاب المسيري سوى نتاج انقلاب سوسيو-اقتصادي عرفه العالم، فالوضع اليهودي كان مستقرًّا داخل المجتمع الإقطاعي، إلا أن الكشوفات الجغرافية وازدهار التجارة على حساب الزراعة فتحت أعين المسيحيين على الأسواق العالمية، وهكذا أنشئت شركات تجارية كالعصبة الهانسية واتحاد لندن، بوصفها شركات مسيحية تقود التجارة الدولية وتدعمها الممالك.

اضطر اليهود إلى ممارسة التجارة الداخليّة والاستثمار في الربا، لكن سرعان ما نمت طبقة مسيحية متخصصة في هذا المجال، وهكذا ولكون الجماعة اليهودية “وظيفية” باتت بلا وظيفة، وهكذا أُزيحوا من الوسط إلى الهامش.

يربط الدكتور المسيري هذه الحركة التاريخية بانسحاب اليهود نحو أوروبا الشرقية وخاصة بولندا الدولة التي حافظت على نظامها الإقطاعي، إلا أن الأمور لم تسعفهم في المنزل الجديد فسرعان ما انتقلت عدوى الرأسمالية إلى بولندا ليجد اليهود أنفسهم مرة أخرى أمام الواقع المرير، واقع لم تصنعه المؤامرات بقدر ما صنعته سيرورة التاريخ.

يصف نيتشه هذه الأحداث التي عصفت بيهود أوربا ويحدد حالتهم النفسية بعد تعرضهم للاضطهاد، فيقول:  “إن كل ما وُوجه به النبلاء والأقوياء والسادة وأصحاب السلطة. لا يعد شيئا إذا ما قورن بالذي واجهه اليهود، هذا الشعب الكهنوتي الذي لم يجد في نهاية المطاف ما يشفي غليله من أعدائه والمسيطرين عليه سوى قلب جذري للقيم -التلاعب بأخلاق المسيحية- أي من خلال عمليّة ثأر أكثر روحانية، هذا فقط ما كان ملائمًا لشعبٍ من الكهّان، للشعب الذي تميّز بحبّ الانتقام الكهنوتي الأعمق غورًا، إنما اليهود هم الذين تجرأوا على قلب معادلة القيم الارستقراطية، بإحكام مرعبٍ، وثبتوا عليه مكشّرين عن أنياب الكراهية التي لا قرار لها” [نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق، ص:55].

ومن هنا نفهم أن القضية الفلسطينية ليست إلا نتيجة رغبة أوربية في إزاحة اليهود عن التجارة وإبعادهم قدر الإمكان عن القارة العجوز، ودعمًا لهذا الرأي يقول الدكتور جمال حمدان:
“لابد أن ندرك أن حركة أعضاء الجماعات اليهودية الضخمة كانت مصدر قلق الدول الغربية، لخوفها على أمنها الداخلي، وليهود الغرب المندمجين الذين كان وصول يهود الشرق يهدد مكانتهم الاجتماعية” [اليهود أنثروبولوجيا، جمال حمدان، ص:235]. والملاحظ أن بغض اليهود والتوجس منهم لم يصدر من الأوربيين فقط بل حتى من اليهود الصفوة.

د. جمال حمدان

أقرت الدول الأوربية جميعها قوانين لمنع توافد اليهود، وعلى رأس هذه الدول بريطانيا التي أصدر برلمانها ” قانون الأجانب” سنة 1906 للحد من هجرة اليهود، ومن الطريف أن آرثر بلفور –صاحب الوعد الشهير- كان من أشد المدافعين عنه.

اختلاق إسرائيل

كون إسرائيل مجرد اختلاق وكونها دولة مزيفة قامت على أرض فلسطين، وأن اختلاق هذا الكيان أمرٌ دبّر بليل وكيدٌ سخّرت له كل الإمكانات، لا يختلف إليه أهل الاختصاص من الشرق والغرب، وهنا أقتبس قول كيث وايتلام –في كتابه، اختلاق إسرائيل القديمة-: “النموذج السائد حتى الآن نتيجة لتزييف التاريخ القديم للمنطقة على يد الباحثين التوراتيين، هو أنه كانت هناك مملكة إسرائيلية عظمى حكمها داود ثم سليمان في فلسطين سنة 1200 ق.م. لكن إسرائيل التاريخية لم تكن إلا لحظة عابرة في مسيرة التاريخ الحضاري لفلسطين القديمة” [ص: 12]. ويرى فيليب ديفيس أن إسرائيل القديمة المذكورة في الدراسات التوراتية هي من اختراع العلماء، وأن هذا الاعتقاد -وجود إسرائيل الكبرى- مبني على فهم خاطئ للتراث التوراتي بل إنه بعيد عن الحقيقة التاريخية، وإذا نظرنا من منظور أوسع وأطول وزمانًا، فإن تاريخ إسرائيل القديم يبدو كلحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني الطويل” [المرجع نفسه، ص: 26].

إذًا فليس هناك في تاريخ المنطقة سوى فلسطين، وقوم إسرائيل ليسوا إلا حدثًا عابرًا، إمارة كأي إمارة في التاريخ البشري تظهر فجأة ثم تنسى كأن لم تكن، وإسرائيل التي نتحدث عنها اليوم ليست مملكة بناها نبي مرسل، وليست حتمية تاريخية أفرزتها تضحيات شعب ما، إنما هي كيانٌ لجماعة وظيفية ولا يمكن فهم هذه الجماعة خارج السياق الاستعماري الامبريالي، فالحلم اليهودي بالعودة إلى أرض الميعاد لم يكن مقترحًا بشكل جماعي قبل القرن التاسع عشر، بل إن فكرة التجمع في فلسطين تبدو من منظور اليهود انتحارًا ما لم يأذن بها “المسيا”، ومن يتجرأ على الذهاب إلى فلسطين فإنه يرتكب خطيئة “دحيكات هاكتس” أي التعجيل بالنهاية [المسيري، الصهيونية والحضارة الغربية، ص: 25] حيث إن مسار التاريخ المقدَّس بالنسبة لهم يأخذ الشكل التالي: النفي ثم الانتظار ثم العودة بمشيئة الإله.. ومع هذا تغلغلت الصهيونية في صفوف المتدينين من اليهود ونجحت في “صهينة” قطاعات واسعة منهم -في الواقع الغالبية العظمى- بحيث تم طرح تصوُّر مفاده أنه يجب العودة قبل ظهور “المسيا” -أو الماشيّح- دون انتظار لمشيئة الإله للإعداد لعودته، وبهذا يأخذ التاريخ الشكل التالي: النفي ثم العودة للإعداد لمقدم الماشيَّح ثم الانتظار ثم مقدم الماشيَّح.

لقد اتخذ إرساء إسرائيل في أرض فلسطين زمنًا طويلاً من الإعداد والتمكين، بدءًا من تكوين الفكرة الإيديولوجية مرورًا بالتغيير الفكري الجمعي وصولاً للتأثير في مسارات السياسة وتغيير الواقع الديمغرافي عسكريًّا، والاعتراف بالواقع الجديد المغاير ثم العمل على التطبيع معه، وهذا مما ينبغي تفصيله في مقال منفصل.

التعليقات

تعليقات

0 ردود

اترك رداً

Want to join the discussion?
Feel free to contribute!

اترك رد