إجرام الليبرالية وضحايا التغيّر الأبدي
عام 1983 زار والت هاير أخصائياً نفسياً مشهوراً بدراسات الجندر ليحدثه عن مشاكله النفسية ومحبته لارتداء الملابس النسائية منذ الطفولة، وبعد نهاية الزيارة قال المختص إن والت بحاجة للعبور جنسياً إلى أنثى ليتعالج. والت كان متزوجاً وأباً لطفلين في ذاك الوقت، لكن كلام المختص أقنعه، وفي الزيارة التالية تلقى وصفات بأدوية هرمونية ليبدأ تناولها وتغيير جنسه عبر رحلة طويلة من العقاقير والعمليات الجراحية التي انتهت به عابراً جنسياً فعلاً تحت اسم لورا.[i]
بعد ثمانية سنواتٍ في تلك الهوية، اكتشف والت أن مشاكله النفسية لم تحلّ يوماً، وأنه مازال ذكراً في داخله مهما غيّر من بنية جسده الخارجية، فبدأ بحثه الطويل عن الحل. والت عاد لهويته الأولى، ذكراً باسمه الذي منحه والداه، وبدأ عملاً في التوعية والنشاط الاجتماعي ونشر المعلومات عن الأمر ومحاولة التواصل مع من مرّوا بذات تجربته ليساعدهم على الوصول للراحة التي حصل عليها حين قَبِل بجسده وعالج الإشكالات التي كانت لديه بشكل مباشر.[ii]
والت ليس العابر الجنسي الوحيد الذي عاد من تحوّله نادماً على سنين وأموال وصحةٍ أضاعها في هذا الطريق، إنما هو واحد من بين مئاتٍ يندمون بعد المرور بهذه التجربة المؤلمة بدفعٍ من المعايير الظالمة التي فرضتها سطوة اللوبيات الليبرالية، لما أدّت لتبديل علاج كثير من الأمراض النفسية إلى موافقة صاحبها على ما يريد دون النظر في حاجته الحقيقية وإشكالاته الكاملة كنفسٍ إنسانية باحثة عن الطمأنينة.
فقضية المتحولين جنسياً لم تتوقف في الغرب على تقبّل وجودهم أو تأمين حقوقهم، إنما تجاوزتها لأمور كثيرةٍ غيّرت حتى معايير العناية الموجهة للمرضى النفسيين في الفئات العمرية المختلفة، وفي هذا المقال أسلّط الضوء على القضية باعتبار ضحايا تلك الجرائم النادمين على ما أجري على أجسادهم من تغييرات لنرى ما جرّه تقديس رغبات الإنسان في هذه البلاد على أهلها، بينما العالم كله يراقب في صمت ويتبع بعمىً، ولا يجرؤ أحدٌ على الإنكار أو التبيين.
من البداية
عام 1885 تمت الموافقة على قانون العقوبات البريطاني الذي يجرم أي سلوكٍ مثليّ، وتحت القانون ذاته كان الأشخاص الذين يتظاهرون بأنهم من الجنس الآخر يحاكمون ويُجرّمون[iii]. في تلك الحقبة، كانت السلوكيات التي يسمونها اليوم LGBTQ+ محصورة في فئة صغيرة من الأشخاص ومرفوضة في المجتمع، ولم تبدأ بذور التغيّرات في ذلك بالظهور حتى عام 1949 حين كتبت سيمون دوبوفوار في كتابها “الجنس الآخر”: “لا نولد امرأة، إنما نصير كذلك”[iv]، واضعةً بذلك نظرية انفصال النوع الاجتماعي عن الجنس البيولوجي الفلسفية التي صارت تعرف فيما بعد بنظرية الجندر، وعلى هذه الفكرة بَنَت عالمة الاجتماع آن أوكلي في كتابات نسوية كثيرة مثل “الجنس، الجندر والمجتمع” (1972)، وكل ذلك على أسس فلسفية ورغبات فردية بالمساواة المطلقة بين الجنسين.

سيمون دوبوفوار
أما علماء البيولوجيا والنفسيون الذين تأثروا بتلك الأفكار فقد بدأوا بالبحث عن إثبات علمي موضوعيّ لها، وبينما كان منهم المنصف المتجرد للحق يقول آراءه أمام المخالفين كعالمة الأعصاب آن موير وزوجها الذين كتبوا وبحثوا في الفروق النفسية والدماغية بين الرجال والنساء، وأثبتوا في كتاب “لماذا الرجال لا يكوون الملابس” أن فكرة الجندر التي تجعل النوع الاجتماعي أمراً سائلاً ذا مبنى اجتماعي هي فكرة مجحفة بحق النساء والرجال لأنها تنكر الفروق الحقيقية والمثبتة بينهم وتطالبهم بالتشابه رغماً عنهم”.[v]
أما على الجانب الآخر، فكان هناك علماء اختاروا تصديق النشطاء المروجين لنظرية الجندر وكسب ودهم، فكان منهم من أَوَّلَ الأبحاث العلمية، ومنهم من رفع قيمة تلك التي البحوث التي رفضها الأقران الذين يحكّمون النظريات ويحكمون عليها، ومنهم من قال بأن الصوابية السياسية تقتضي التعامل مع هذا النتاج العلمي بحيثية خاصة، ومنهم من ذهب في ذاك كله لحد أقصى لمّا أخذ يحاول تأكيد نظرية النوع عبر التجريب بمرضاه المساكين محاولاً إثبات أن الجندر منفصلٌ تماماً عن الجنس، بغض النظر عن الآثار المأساوية لتلك التجارب.[vi]
وفي النتيجة، ورغم شحّ الأدلة العلمية حتى الآن على انفصال الجندر عن الجنس[vii]، وبينما تعريف الجندر ذاته مازال شائكاً في الأوساط الأكاديمية بين من يدّعي أنه مبنيٌّ اجتماعياً، وبين من يقول بأنه يوجد ثابتاً في المرء منذ الولادة[viii]، فإن أعمال اللوبيات والنشطاء اليساريين الليبراليين نجحت تماماً في تجاهل كل ذلك، ومن ثم تغيير القوانين في الدول الغربية تجاه اضطراب الهوية الجنسية الذي بات تشخيصاً عادياً يدل على أن صاحبه يملك جندرًا لا يتوافق مع الجنس الذي ولد به، ويحتاج لذلك إلى تحويل جسده ليناسب الجندر خاصته، أما الهندسة الاجتماعية فقد غيَّرت فكر الشعوب ورأيها عبر قوى الإعلام المدعومة مالياً والمتمثلة في نتاج هوليود والكرتون والمجلات وغيرها إلى أن بات 73% من الأمريكيين عام 2019 يدعمون المتحوِّلين جنسياً.[ix]
لكن هذا الفكر ونتائجه يفضي بنا لسؤال مهم: إن كانت الهوية الجندرية منفصلة عن الجسد الذي ولد المرء به، فما الذي يدفع المتحولين إلى تناول العقاقير التي تعمل على هرموناتهم، وخوض العمليات التي تغير هيئة جسدهم؟ لماذا لا يكتفون بتغيير هويتهم المطبوعة في الأوراق الحكومية ومطالبة الناس بمناداتهم بالضمائر التي يريدون طالما أن الجندر أمر لا علاقة له بالجنس البيولوجي؟!
ومن هنا يظهر التناقض الشديد والخلل الواضح في كل الفلسفة المؤسسة لفكرة الجندر، وفصلها عن البيولوجيا، ومن ثم دمجها بها بحسب هوى اللوبيات وضغطهم غير المنطقي.
ضحايا وتعتيم
في ظل كل التغيرات السريعة التي حصلت في المجتمع الأكاديمي وفي القوانين والفكر الشعبي تجاه القضية في العقود الأخيرة، فإن الناتج كان ارتفاعاً هائلاً في أعداد من يأتون باضطراب الهوية الجنسية ويحوّلون لطريق التحول الجنسي باستخدام مانعات البلوغ ثم الهرمونات ثم العلميات الجراحية. ففي بريطانيا وحدها زاد عدد الحالات التي تحوّل للعلاج الجنسي من 97 شخصاً فقط عام 2009 إلى 2510 أشخاص بين 2017 و2018، أي أن النسبة ارتفعت أكثر من 4000% خلال عشر سنوات فقط![x]
تقول الكاتبة جوانا ويليامز صاحبة كتاب “النساء ضد النسوية” أن المدارس باتت تشجع الأطفال الآن على الشك في هويتهم الجنسية والتفكير في هل هم ذكورٌ أم إناث،[xi] وهذا ما يرشد إليه أعضاء الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال الذين يدعون لمنح الأطفال القدرة على استكشاف الهويات الجندرية المختلفة منذ الصغر.[xii] أما العيادات ومراكز العلاج الجنسي، فقد بدأت بتقديم خدمات الهوية الجندرية للأطفال منذ أعمار الثالثة أو الرابعة في كثير من الحالات.[xiii]
ومن حيث الضحايا الخارجون من التحول، فقد بدأت التقارير الحديثة تكشف عن الأعداد الكبيرة من النادمين منهم بعد ما وُضِعت أجسادهم فيه دون تقييم كافٍ، أو إرشاد مناسب لحالتهم النفسية، أو اعتبار وجود اضطرابات أخرى سببت الإشكال لديهم في الهوية الجندرية من الأساس. لكن الأرقام المسجلة عن المتحولين النادمين قليلة ولا تعكس الواقع بحسب كثير من الخبراء. يقول الدكتور جيمس كانتور في ورقة محكمة نشرت العام الماضي أن الدراسات التي تتبع الأطفال الذين يتحولون جنسياً قليلة جداً، وتظهر أن معظمهم يعودون نهايةً لجنسهم الأصلي.[xiv]
وقال خبراءٌ لشبكة BBC عام 2019 إن الدراسات التي تحاول النظر في أعداد العائدين من التحول قليلة وتفتقر إلى الدقة،[xv] إضافةً إلى ذلك فإن مجرد البحث عن الأشخاص الذين يرجعون عن تحولهم الجنسي، أو محاولة الحديث عن الأمر يعرّض المرء مباشرة لوصمة الهوموفوبيا المخزية.[xvi] فالتعتيم على الأمر حقيقيٌّ وموجه بشكل مباشر لإبقاء المجتمعات في سباتٍ لا تسأل عما يجري ولا تكترث بمآل أموال ضرائبها التي تذهب لدعم تحويل الجنس للكثيرين.
يقول الجراح المتخصص في التحويل الجنسي كريستوفر إنجلفيلد: “إن أيّ عكس للتحول سيجعل المجتمع يسأل عن الدعم المادي الذي يذهب للقيام بالتحول من أساسه،”[xvii] وفي تقرير صدر عن NBC News عام 2019 نبّه نشطاء من أن تغطية قصص الذين تراجعوا عن تحولهم الجنسي تحمل قدرة كبيرة على الإضرار بحقوق المتحولين لأنها تنشر “تصوراتٍ خاطئة” تؤدي للاعتقاد بأن المتحولين جنسياً هم مجرد أشخاصٍ مرتبكين أو يعانون مرضاً نفسياً غير مشخص.[xviii]
أما أولئك النادمون فقصص المئات منهم باتت منتشرة بعدما خرج والت هاير -تحدثت عنه أعلاه- عن صمته، وبدأ موقعاً بعنوان “ندم تغيير الجنس” ليدعم كل من مر بحالته،[xix] وبعد سنواتٍ من نشاطه وتعرفه على الكثير ممن يشبهونه؛ رفع والت عريضة مع تسع من العائدين عن تحولهم للمحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة تطلب من الحكومة ألا تفرض موافقة المصابين باضطراب الهوية الجنسية على الجندر التي يريدون. مما ورد في العريضة التي رفعت عام 2019: “إن الإسراع بموافقة من يريد التحول الجندري هي كذبةٌ استغلالية ومدمرة، إنها إجرامٌ بحق المصاب باضطراب الهوية الجندرية وإبعاد له عن درب التعافي وإيجاد السلام مع جسده.”[xx]

والت هاير
من يكترث؟
ولا أذكر بعد كل هذا الإجرام إلا سيد قطب رحمه الله حين تحسّر على تخبط البشرية اليوم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها وقال: “أي شيطانٍ لئيمٍ هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم؟ يا حسرةً على العباد!”[xxi]
لكن من يكترث بأولئك الضحايا ومن يأبه بذاك بالإجرام ونحن أمام سكرةٍ من تشييع الفواحش وتحريم إنكارها، بل وتنميط من يجرؤ على التفكير بأصولها وحقيقتها، كل هذا بسبب وجودِ إيمان مطلق بفهم الإنسان وحريته، حتى صرنا أمام مجتمعات كاملة تعتقد بأن الجسد الذي يسكنه هذا البشري يمكن أن يكون فعلاً الجسد الخاطئ له والذي يحتاج إلى تعديل حتى يوافق مزاجه.
ولا أدري كيف يُظَنُّ أن تعديل بعض الأعضاء الجسدية يمكن أن يقنع أحداً أن جسده صار صحيحاً بعدما كان خاطئاً، فهو سيظل ذات الجسد مهما حاول صاحبه تشويهه ليشبه ذاك الذي للجنس الآخر، سيظل دماغه ذاته، وستظل كل خلية جديدة ينتجها جسده تصرخ بجيناتها أنها أنثى أو ذكر كما اختار الله لها متحديّةً كل النظريات الفلسفيّة واللوبيات العالمية بشكل الحمض النووي فيها وهو يكرر هيئته مذ كان الآدميّ بيضة ملقحة مجهرية!
كأن تلك الجزيئات العظيمة من الحمض النووي تسخر من طغيان البشر الذين مهما فعلوا ستظل أرواحهم تسكن تلك الأجساد التي اختار الله لها إلى أن يأخذها منها، ثم يبعثهم فيها ليُسألوا عن تغيير خلق الله وإنكار نعمته فيه واستياءهم من التصوير الأحسن الذي منح لهم، ولتدافع عنهم شياطينهم وساداتهم وكبراءهم حينها.
[i] Walt Heyer Ministries.
[ii] “It’s not an identity, it’s a behaviour ” – A former trangender Walt Heyer’s story. 2019
https://www.youtube.com/watch ?v=AU603aS-fmU
[iii] The Criminal Law Amendment Act, 1885
https://www.bl.uk/collection-items/the-criminal-law-amendment-act-1885
[iv] Simon de Beauvoir. “The Second Sex.” Trans. Borde, Constsance and Sheila Malovany-Chevallier. New York: Random House, 2010.
[v] Moir, A., & Moir, B. (2003). Why men don’t iron: The fascinating and unalterable differences between men and women. Citadel Press.
[vi] انظر قصة David Reimer وطبيبه الذي دمر حياتهJohn Money وهو يحاول إثبات نظرية الجندر
David Reimer and John Money Gender Reassignment Controversy: The John/Joan Case
[vii] قال علماء في جامعة جون هوبكنز في تقرير صدر عام 2016 أن الأدلة التي تقول بأن الأشخاص يمكن ان يولدوا متحولين جنسياً (يحملون هوية جندرية مخالفة لجنسهم البيولوجي) غير كافية ولا تفضي لنتيجة ثابتة (https://www.thenewatlantis.com/publications/part-three-gender-identity-sexuality-and-gender)
[viii] بحسب منظمة الصحة العالمية فإن الجندر يساوي الصفات الاجتماعية للذكور والإناث (https://www.who.int/genomics/gender/en/)، بينما تقول الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال أن الهوية الجندرية هي الإحساس الداخلي الثابت بالذات، والتعبير عنها هو الذي يبنيه المجتمع (https://www.aap.org/en-us/Documents/solgbt_webinar_what_is_gender_sherer.pdf)
[ix] Public Opinion of Transgender Rights in the United States
https://williamsinstitute.law.ucla.edu/publications/public-opinion-trans-rights-us/
[x] 4,000% Explosion in Kids Identifying as Transgender, Docs Perform Double Mastectomies on Healthy Teen Girls. 2018
[xi] Minister Orders Inquiry into 4000 per cent rise in children wanting to change sex. 2018. The Telegraph.
[xii] American Academy of Pediatrics Webinar Series. What is Gender. 2015
https://www.aap.org/en-us/Documents/solgbt_webinar_what_is_gender_sherer.pdf
[xiii] U.S. parents accept children’s transgender identity by age three. 2016
https://www.reuters.com/article/us-usa-lgbt-parenting-idUSKBN14B1C8
Hundreds’ of young trans people seeking help to return to original sex. 2019
[xiv] Cantor, J. M. (2020). Transgender and gender diverse children and adolescents: fact-checking of AAP policy. Journal of sex & marital therapy, 46(4), 307-313.
[xv] ‘How do I go back to the Debbie I was?’ . 2019. BBC News
https://www.bbc.com/news/health-50548473
[xvi] ‘Hundreds’ of young trans people seeking help to return to original sex. 2019
[xvii] [xvii] ‘How do I go back to the Debbie I was?’ . 2019. BBC News
https://www.bbc.com/news/health-50548473
[xviii] Media’s ‘detransition’ narrative is fueling misconceptions, trans advocates say. 2019
[xix] Sex Change Regret
وانظر وثائقي Tranzformed – Finding Peace With Your God Given Gender،
ووثائقيI Want My Sex Back: Transgender people who regretted changing sex (RT Documentary) على يوتيوب
[xx] Brief of Walt Heyer, Jamie Shupe, Linda Seiler, Hacsi Horvath, Clifton Francis, Burleigh, JR., Laura Perry, Jefferey Johnston, Jefferey McCall and Kathy Grace Duncan As Amici Curiae in Support of Petitioner
[xxi] سيد قطب رحمه الله. مقدمة في ظلال القرآن.
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!