أمسِك عليك نفسك ودينك!
ما كان لله سبحانه وتعالى بعد أن خلق عباده وصورهم وكرمهم ورزقهم أن يتركهم في تيه أو حيرة من خلقهم، أو أن يتركهم عُميًا عن نفوسهم التي ستكون لصيقة بهم طوال رحلتهم، وإنما بيّن لهم هذه النفس، وفصّل لهم أحوالها وآمالها وضعفها، وكذا عرّفهم أن هذه النفس قد تلتزم طريق الله فتسعد، أو أن تحيد عنه فتشقى. فكانوا على معرفة بها وبطريق هدايتها، والأدوات التي ستساعدها على التزام هذا الطريق، فالله سبحانه يقول: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس، ٧]، {وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ} [البلد، ١٠]، والذي سواها سبحانه وتعالى وهو أعلم بها منها، وألهمها فجورها وتقواها، وخلق فيها القدرة على إتيان ما تشاء منهما، وأن تسلك أي النجدين تريد، قد قرر لها دِينا تتنزل منه شرائع متتالية بحسب الزمان والمكان.
البحث عن الحق
إن من مقاصد الشرائع الربانية ورسالات الأنبياء أن تَعْلم النفوس الخير فتطلبه، والشر فتحيد عنه، وأن تقف على عوامل التزكية والتقوى فتسعى لملء كيانها بها، وتقوم على سياسة النفس الإنسانية وترويضها، لئلا تطغى وتُجرم في حق نفسها أو في حق غيرها، فإن لم تتهذّب الأنفس بترغيب في الثواب، هُذبت بتخويف من العقاب، وإن لم يُجْدِ التخويف بعذاب الآخرة، عوقبت في الدنيا بما يزجرها ويمنعها عن تكرار الخطأ.
فإذا رفضت النفس الالتزام بالدين الذي يضبط أفعالها وأقوالها، ويأخذ بفطرتها إلى حيث تنفع وتنتفع، ويحد من جموحها ويهذب نياتها وإرادتها، ويحدد لها أهدافا عالية، تترفع بها وتمتاز عن غيرها من المخلوقات، اضطرت في أحسن الأحوال إلى تقنين قوانين تحاول بها ضبط معيشتها، وتنزلها منزلة المأمور المطيع، فما خلق العبد إلا ليكون في ميدان الامتحان، مطيعًا ساعيًا للخلاص في أدنى المراتب، وطالبًا للتميّز والقرب في أعلاها، فإذا حاول العبد أن يتملّص من عبوديته لله، فإن خلاصه من هذه العبودية لن يكون بالإنكار أو السعي للتملّص كما يظن، إذ إن الإنسان لن يجد بُدًّا من العبودية لشيء ما آخر غير الله الخالق، طوعًا أو كرها، إذ إن هذا ما جُبل عليه الإنسان، فإما أن يكون مخبِتًا لله، أو أن تستعبده تفاصيل أخرى في هذا الوجود، وما أكثر ما يستعبد الإنسان في هذه الدنيا.
يقول الله سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم، ٣٠]. ومما ورد في تفسير هذه الآية ما ذكره الطبري في تفسيره بأن الله ينادي النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسدد وجهه نحو الوجه الذي وجهه إليه ربه ليكون رهن إشارته وطاعته، ومدار ذلك كله هو (الدين)، {حَنِيفًا} مستقيمًا لدينه وطاعته. {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، أي صنعة الله التي خلق الناس عليها، أي أن الله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أقم وجهك للدين حنيفا فإن الله فطر الناس على ذلك فطرة وجعلها في أصل تكوينهم.
{ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}، إن إقامتك وجهك للدين حنيفا غير مغير ولا مبدل هو الدين القويم المستقيم الذي لا عوج فيه عن الاستقامة، {وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، بأن الدين القيّم هو الدين الحق دون سائر الأديان غيره [جامع البيان عن تأويل آي القران، ج٦، ١٠٤].
ضبط أوتار الحياة
لنسأل أنفسنا، لو لم تكن هناك رسالات من الله إلى البشر، ولو لم يكن هناك أنبياء يبلّغون ما آتاهم الله للناس، فكيف ستكون أحوالهم وعباداتهم وعاداتهم؟
إن الناس بالرغم من وجود الرسل عاندوا وضلّوا وأضلوا، وسيكون حالهم بدون الدين أشد وأدهى، إذ سيكون تعاطي النفس البشرية مع المُجريات والظواهر حولها إما بضعف شديد أو بفجور شديد، وضعفها ينبع من هامشيتها في هذه الحال وعدم استنادها إلى منهاجها الذي قرره الله لتكتسب به القوة، فتكون منفعلة ومتأثرة على الدوام، بلا أثر ولا تأثير. ويكون فجورها نتيجة لأناها الكبيرة التي لا تعرف طريقا غير إرضاء شهواتها، فتفسد في الأرض وتقرر منهاجها الخاص الذي لا يرتضي إلا بالإنسان حكما وحاكما، ما يراه صوابا فهو الصواب وما يراه خطأً فهو الخطأ، وهذه هي بداية تشويه الفطرة والإفساد في الأرض.
إن خير دليل على ذلك، ما يُرى في أخلاقيات الإلحاد والملحدين ونزعات الإنسانوية المتطرفة وغيرها من انحرافات الإنسان عن هدي ربه، فكلها فضفاضة مائعة، تشكل الخير والشر والصواب والخطأ حسب رؤية الإنسان المتغيرة باستمرار بما يطوّع للإنسان تحقيق شهواته، ووضعه في المركز بعيدًا عن أي قبس إلهي، وهكذا فإن غياب الدين من حياة الناس يحط بهم إلى أسفل دركات الانحطاط، فلا هم يحيون الحياة على مراد الله، ولا هم يحيونها على مرادهم، فأي خير في ذلك؟
اترك رداً
Want to join the discussion?Feel free to contribute!